مات سميح القاسم لكنه ظل خالدا في القصيدة

28.08.2014 11:56 AM

وطن - كتب حسن عبد الله : مات المتنبي ، مات أبو فراس الحمداني وأبو تمام وعنترة بن شداد وطرفة بن العبد .. ومات كثير من الشعراء والمبدعين في عصور فائتة، ومات في زمن لاحق عبد الرحيم محمود و مطلق عبد الخالق وابراهيم وفدوى طوقان ونوح ابراهيم ومعين بسيسو وتوفيق زياد، ومات قبل بضع سنوات محمود درويش ، واليوم يلحق بهذه الكوكبة سميح القاسم.

كان موت هؤلاء الشعراء موتاً جسدياً فيزيائيا، لأن أرواحهم سكنت قصائدهم و أعمالهم الإبداعية، حيث عاشت أشعارهم من جيل إلى آخر ، ظلت تنبض وتتنفس، تضحك وتبكي، تتألم وتفرح.

قصائد بشرية مفعمة بالحياة، لكنها خالدة ، تمردت على الموت، واختارت درب الاستمرار المسيج بالمعاني والدلالات والايحاءات،درب تدفق الموسيقى الشعرية وانسيابها الرقراق . قصائد تنثر الندى على إلتواءات حياتنا الصعبة القاسية، تجعلها أكثر ليونة وملاءمة ، لكي يتحرر الانسان فينا من بين ثنايا صخر البؤس ، ويتحسس جسده وروحه مستعيداً انسانيتها المستهدفة من قوى داخلية وخارجية لا يروق لها أن ترى انساناً يحاول جاهداً تجسيد نوع من الانسجام بين جسده وروحه.

يلتحق سميح القاسم برفيق دربه محمود درويش ، ليكملا مشواريهما على هذه الأرض التي تستحق أن نظل نحن الأحياء أوفياء لها. يرحل القاسم بشجاعة الذين لا يهابون الموت، مدركًا انه كتب لنفسه الخلود في تلك الدواوين الدرر التي تحتفل بها مكتباتنا الخاصة والعامة، دواوين تعمر مدارسنا وجامعاتنا ومؤسساتنا وبيوتنا، حيويةً وأملأ وثقة بالغد الآتي.

ترجل سميح القاسم عن حصان القصيدة، لكن الحصان القصيدة أو القصيدة الحصان، سيظل يصهل ويحمحم،ويجوب البلاد كل البلاد، يهدي أهلها كتاباً مرة وقصفة زيتون مرة أخرى.

مشى سميح القاسم إلى الموت منتصب القامة، حاملاً نعشه على كتفه، مضى حيث قدره، أما القصيدة فلم تلحق بالنعش، وانما فردت جناحيها، وقررت أن تسكن قمم الجبال وأغصان أشجار المشمش والبرقوق و اللوز، غير انها سرعان ما تنزل إلى الأسواق والشوارع تعيش مع الناس و تلتحم بهم ، تواسي امرأة عجوز تبيع الميرمية في سوق رام الله، وتكفكف دمع طفل استشهد والده في غزة، وظل واقفاً على الرصيف ينتظر عودته، فلم يصدق أن أباه قد مات. ثم تذهب قصيدة القاسم عبر دروب تعرفها الى قرية نائية تسقي نبتة نعناع في حاكورة حزينة فتزداد اخضرارا ، لتفوح رائحة النعناع في أرجاء القرية، تتسلل الى البيوت ، تساعد رجلاً على النوم، بعد أن تلبسه هم اطعام أطفال يتكدسون حوله وقد سدت في وجهه أبواب العمل.

ينام القاسم نومته النهائية وتصحو القصيدة، تنوب عنه في مهمته ، تشد أزر المقاومين في قطاع غزة ، وتشد على يد امرأة تقف على أطلال بيتها وقد تحول إلى حجارة متناثرة.

سميح القاسم الفلسطيني و العروبي و الإنساني ، علمنا نحن جيل الكتاب الذين بدأنا محاولاتنا الأدبية في السبعينيات و الثمانينيات من القرن الماضي ، كيف تصير الكلمة بطعم ولون وطن ، و كيف نجعل الوطن محروساً بالشعر والنصوص الأدبية الإبداعية الأخرى.

القاسم علمنا أن الكتابة الأدبية رسالة ممزوجة بالمتعة و مشتعلة بالنار ، و علمنا كذلك ان خشونة الحياة التي نعيش لا تعني خشونة النصوص ، فالإبداع له مفرداته وله فضاؤه ، فإذا لم يتألق جميلاً مدهشاً ، فإنه يغدو نصاً عادياً كالكلام المحكي في حياتنا اليومية.

وعندما قرأنا للقاسم شعراً و نثراً ، اكتشفنا أن الكلمة إنسان ، يبدأ نطفة ، تتحول إلى جنين ثم يأتي به مخاض الولادة و قد اكتمل جسماً ونبضاً و حركة و حساً وتفاعلاً وانطلاقاً.

الكلمة إنسان كما تعلمنا من القاسم ، تتنفس الوطن و تراه ، تحزن لحزنه ، وتنتشي عندما يضحك . وتعلمنا من القاسم في بدايتنا الأدبية أن نحترم ونحتفي بأدبائنا الكبار ، فهم آباء الكلمة و آباء الأقلام الشابة ، وهم البوصلة.

ومنذ تلك السنوات التي تجمعت و تكثفت في عقود ، لم نصدق أن اقلامنا قد أصلّب عودها ، و نحن نقتفي أثر إبداع أقلام ٍ الكبار التي فرخت في بلادنا ملايين العصافير و الحمام . . . إبداع اقلام خرجت من اعشاشها كل نسور فلسطين.

واليوم ونحن نودع القاسم ، نعاهده على مواصلة تفريخ العصافير والحمام وتحويل نصوصنا إلى أعشاش تتقوى و تشتد في أحضانها أجنحة النسور.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير