هُنّ مرثا؟... د. أحمد جميل عزم

25.10.2014 10:01 AM

في روايته "مملكة الغرباء" يصطحب الياس خوري، مريم إلى شاطئ البحر الميت الشرقي، فتنظر إلى أضواء القدس المتناثرة عبر الأفق الرصاصي، وتبكي. وتراها تتساءل عن عدد "المريمات" اللاتي أحطن بالمسيح عليه السلام "في قانا كانت أمّه، وهي التي دفعته إلى صنع أعجوبته الأولى، وأمام قبر لعازار كانت مريم أخرى، وفي القيامة كنّ جميعهن".  في مملكة الغرباء، يكتب الياس عن أكثر من امرأة وحكاية، ولكنه يقول "فلأحدد، أنا أتكلم عن امرأة واحدة اسمها مريم".

في روايته، ذهب خوري، إلى جامعة كولومبيا وبحث في الصحف والأراشيف عن قصة "الراهب جرجي"، (جرجي خيري الدوماني اللبناني)، الذي قتل أواسط العام 1947 في القدس، والتي أدت مقابلات خوري مع مقدسيين عدة لتكوين رواية لا يستطيع تأكيدها عن راهب كوّن "عصابة" تنهب قوافل المهربين وتوزعها على الفقراء، حتى هاجمتهم قوة صهيونية، وكان معه شاب من السلط يدعى عيسى، وهربا ثلاثة أيام ثم آب عيسى لمدينته، وذهب الراهب إلى القدس وحمل صليباً كبيراً وصرخ سائراً أنّه يحمل صليب العرب، ثم قُتل.

وأنا ذهبتُ إلى كيمبردج وبحثت عن فاطمة ومريم ومرثا.

نزلت من الحافلة يوماً لأبدأ رحلة المشي اليومية، ولا زال الثلج يملأ ساحات كلية "كينغز كوليدج" التي تأسست عام 1441م، وهي واحدة من 31 كلية في الجامعة، التي تأسست عام 1209، شعرتُ بشماتة؛ فالبساط العُشبي الأخضر الذي يتوسط المباني، مكسوٌ بالثلج، ممنوع عادةً على عامة الناس، ومسموح فقط للأساتذة من رتبة عليا، وها هو الآن ممنوعٌ على الجميع بأمر الثلج. 

نسيتُ محيطي وعدتُ أفكر في مرثا وفاطمة. أقاوم الانشغال بهما، للتركيز في بحثي في النظريّات، ولكني أقضي الوقت بين الكتب القديمة أبحث عنهما وعن طائر الفينيق.

مررت بـ"غرفة النبيذ" في الكلية، واجتزتُ نهر "الكام" المتجمد، والبط الذي يواصل السباحة رغم ذلك، وأنّا مستغرق في الحديث مع مرثا وفاطمة. أيقظني (أو أذهلني) مشهدُ ورودٍ صفراء صغيرة، تشبه زهر البابونج تخترق الثلج، كيف تقوى هذه الورود على فعلٍ كهذا!؟ تبدو مغسولةً ونظيفة وقوية.
واصلتُ السير، مُوزّعاً بين المشهد، ومرثا وفاطمة، وأفكر كيف بدتا يوم كن في سن هؤلاء الطلبة حولي، بأزيائهم الغريبة ودرّجاتهم الهوائية؟.  

مرثا هي شقيقة مريم المجدلية، وأخت لعازر، وفاطمة جارتهما، وإن فَصَلَ بينهما نحو 19 قرناً، وهي جدتي رحمها الله، توفيت عام 1996.

جدتي لي، قصّة حُبِّ كنعانيّة، ثوبها المطرز أسطورة، رائحتها العابقة في الفضاء من حولي لا تَفنى، أسماها طفلٌ "ستى الحمرا" لأنّ عروق الدماء الحمراء تطغى على وجهها.
عاش "لعازر" وشقيقتاه "مرثا" و"مريم"، في العيزرية، على بعد كيلومترات قليلة من القدس، والحرم الشريف، وكنيسة القيامة، ولكنها خلف جدار الفصل العنصري الآن، وعلى بعد أمتار من البيت الذي تربت فيه جدتي.

اشتهر "لعازر" لأنّه كان ثائراً ضد الرومان، وعندما جاء المسيح آمن به وصادقه، وكان عيسى عليه السلام يزورهم ويرتاح في بيتهم وقربهم. وتظهر صور ورسومات وقصص الإنجيل مريم جالسةً قرب قدميه، أمّا مرثا فتعتني بالمنزل، وتعد الطّعام، وتطلب من شقيقتها أن تكون أكثر تعقّلاً وأن تساعدها. استأثرت مريم بميلها للفلسفة والتفكير باهتمام المؤرخين، أمّا مرثا فكانت ربة بيت، ولكنها حكيمة، تتدخل في اللحظة المناسبة لحل الأزمات، استعان بها أهل قريتنا "العيزرية" لتواجه وحشاً أعياهم بهجماته، فاحتالت عليه وأخضعته.. (جدتي تشبهها)..

تخيلت نفسي أخبر فاطمة أنّ هناك عشرات القرى والمحالّ التجارية حول العالم تحمل اسم "Bethany"، اسم قريتنا العيزرية، في الإنجيل والإنجليزية، وتُسمي نساء كثر حول العالم، أنفسهن "أخوات مرثا"، يخدمن الكنيسة، ويعملن في التمريض، والتعليم، ومساعدة المسنين، وخدمات إنسانية أخرى.
عرفتُ سر حب جدتي المجنون لأشقائها؛ ألم تكن مرثا شخصية رئيسية في معجزة المسيح؟! هي من دعته وقالت له أنّ شقيقها، "حبيبه" لعازر مات، وأنّه لو كان موجودا لشفاه، وأّنه لو طلب من الله أن يعيده لما ردّه، وبالفعل استجاب لها المسيح. ألستِ أنت الجدّة التي لم تعرف اليأس، وظلّت تعلمنا وتحضّنا على أن نحاول ونحاول ونحاول؟!.

أخبر جدتي الراحلة: أتعرفين أنّ هذا هو القبر الأول له، حيث أحياه المسيح بأمر الله وقدرته؟. وتقول صديقة لي، تدرس اللاهوت، سألتها عبر "الفيسبوك"  فأجابت "ما أعرفه أنّه بعد ما أقامه يسوع ذهب إلى قبرص، (لارنكا)، التي أخدت اسمها منه، وبقي فيها، وله قبر فيها هناك، زرته بنفسي، ويقال إنه بعد قيامته لم يضحك أبداً إلا مرة واحدة، عندما رأى لصاً يسرق آنية فخارية، فضحك وقال من التراب وإلى التراب تعود" .

أخبر جدتي أيضاً: تعرفين قصة "العزير"، أو ربما لا تعرفين، لم تكن قصته في قريتنا، ولكن أهل القرية بنوا، زمن صلاح الدين الأيوبي، مسجدا باسمه، قرب كنيسة لعازر، ألم يمت وحماره، ثم أحياهما الله، كما تخبرنا قصص القرآن الكريم؟، وهذه القصة ألا تتشابه مع قِصّة طائر الفنيق التي لطالما رددها ياسر عرفات، عن طائر أسطوري ينتفض من تحت الرماد؟

واصلت: أترين كم ننتفض من تحت الرماد، نستمر حتى بعد الموت؟ ها أنت مثلا تملائين ساحات كيمبردج، على بعد آلاف الأميال وعدد السنين ووجدت عنك شخصيّاً مادة مكتوبة. تخيلتها تضحك كعادتها وأنا أحدثها بهذه اللغة والأفكار وأشير لنساء يواجهن جنوداً في القدس هذا الأسبوع، وأسألها: كلكن مرثا وبنات الفينيق ولعازر والعزير، كيف ولماذا سيهزمن؟
نظرت وقالت: قد يهزمن، إن لم تتحركوا..

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير