​رسالة إلى وائل كفوري ..جواد بولس

22.11.2014 03:30 PM

وطنفليقولوا ما يشاؤون، عن تلك الليلة والمغنين والأغاني، فأنا قد بكيت مثلك، بكيت حين ذرفت من أجلنا، في فلسطين، دمعة حبّك السخية، فصرت في عيني جميلًا كوعد، وأوسم من فجر،لأن الرجال عندما تبكي قلوبها على حبيبة تاهت أو على وطن يضيع يكونون ذَوْب طيبة ويبدون أشهى من المطر

من القدس أكتب إليك.

أقف أمام زجاج غرفتي الذي يطل على سطوح مليئة بفوضى، وبطغيان الرمادي، في الأفق البعيد عمود من دخان أسود، أحدّق فيه فيرتسم وجه إيليا النبي وهو على مركبة من نار يطير والعدلَ إلى السماء. أسمع صوتًا يشبه صوت الرصاص، الشوارع أمامي خالية إلّا من بعض السيّارات المسرعة، وكأن جنًا يطارد سائقيها. النهار يرحل ليرتاح بعيدًا في حضن مدينة تحب الغناء والرقص والنبيذ، صراخ صافرات سيّارات الإسعاف يختلط بنعيق صافرات البوليس، دوائر حمراء تملأ الفضاء الفسيح وتمتزج بدوائر زرقاء، لوهلة يلتبس علي المشهد؛ هل هو يوم كرنفالك يا قدس؟

في البيت برودة حائرة، كتلك التي لا تحتمل تدفئةً، لكنّها تلسعك إن لم يلفها غطاء صوفي ناعم أو حضن. تحيطني عتمة، بدأت أوثرها من يوم ما انحاز الأولاد لصالح الكرمل ولجليل ما زال يحتفي بصوت الندى وبخفق صدر الحبيب، عادوا إلى مسقط الرأس ومنبت العيدان، إلى الشمال وهو جنوبكم يا وائل، ربما ليصيروا أقرب إلى منابع الحنين، فالقدس أمست عندهم لا أكثر من محطة لاستذكار أحلامهم الأولى ودفء الزغب.
آوي إلى كنبتي التي، بعد الخمسين، صارت إلي أقرب وترعى كسلي، تحت بقعة من ضوء أصفر واضح أعاود القراءة في هرطقات الطرابيشي، وأفرح حين أكتشف أن للهرطقة طعم الخوج وبهاء البنفسج، وأحاول أن لا أسرح في الضجيج الوافد من الخارج.
بعد دقائق سيبدأ بث برنامج أراب آيدول، شاشة هاتفي تستقبل رسائل الأصدقاء الذين ينبهونني إلى ذلك وبعضهم يعرف كم لا أحب متابعة برامج الشاشة التي كانت صغيرة، وصارت عند البشر أعز من نفس، يلحون علي بمشاهدة الحلقة، فالليلة، هكذا يشرح لي بعض المتحمسين، ستكون حاسمة، فإمّا ستبقى منال ويبقى هيثم، وإمّا ستضيف فلسطين هزيمة جديدة، وهذا لا ينقصها في هذا الزمن الرديء.
بعضهم فاتحني بهجوم فاضح ومقنع مؤكدين أن لا وقت للرصانة ولا لفلسفة التأويل وتبرجّات المنطق؛ فلسطين بحاجة إلى فرح، حتى وإن جاءها مرصّعًا على أهداب حلم رضيع.

فتحت شاشة التلفاز، على الشريط الاخباري في محطة فلسطين، تركض عناوين الأخبار وتنقل أن المواجهات في أنحاء متفرقة من البلاد ما زالت محتدمة، وأن عدد الاصابات في قرى الجليل والمثلث وفي القدس آخذ بالارتفاع، وأنه بعد دقائق ستبدأ حلقة جديدة من برنامج أرب آيدول، حيث سيغني الفلسطينيان منال وهيثم في ليلة مميزّة .

يقنعني الإجماع والعطش، فأقرر أن أكون واحدًا من ملايين عرب عاشوا ساعتين من قضم الأظافر وبلع الريق، تائهين بين نوى وشهقة وحجاز.
وغنّى الهيثم المجدلاوي، ابن قرية مجد الكروم، وتلا بصوت عذب ما علّم البقاءُ أبناءه في أرض الوطن من وصايا وصلاة: "يا ابني بلادك قلبك اعطيها وغير فكرك ما بيغنيها" موّل وأنهى معاتبًا متعاربين وغمز متسائلًا، "ما خطرنا على بالك، على بالك يا هوى"، وهو الذي، على جلده وجلد أجداده، عرف كيف تكون خيانة الإخوان ومزايداتهم، وكيف يحاولون النيل منه ومنها بعيب ليس فيهما، والمعتدون على سمعته وسمعة زميلته منال الأسدية، يمارسون إرث قايين في ملاعب الدم والفرقة.

عزيزي وائل، يقيني أنّك لا تعرف القدس، عشيقة السماء ومدينة من وجع، كوجع العذارى، إلّا بقلبك، ولا تعرف عنها إلا ما جاء في الكتب وصلاتك والقصائد. ولا تعرف جليلنا، صدر جنوبكم، وحبيب صوركم، إلا من غناء عندليب سهر على شرفتنا وطار ليفيق هناك تحت كرمتكم، وأنا لا أعرف لبنان إلا عن طريق كبار عشقتهم دون أن ألقاهم ورفاق، إخوة أوفياء التقيتهم على دروب الأمل، فحلمت أنني ابن لعمشيت وعيناتا وجديدة وبيروت.

فليقولوا ما يشاؤون، عن تلك الليلة والمغنين والأغاني، فأنا قد بكيت مثلك، بكيت حين ذرفت من أجلنا، في فلسطين، دمعة حبّك السخية، فصرت في عيني جميلًا كوعد، وأوسم من فجر،لأن الرجال عندما تبكي قلوبها على حبيبة تاهت أو على وطن يضيع يكونون ذَوْب طيبة ويبدون أشهى من المطر.

من الجليل أكتب إليك،

تركت القدس دامية ثكلى، هواؤها مشبع بالحقد، السماء فوقها مضطربة تستقبل الوافدين إليها بالزغاريد،الأبواق تزعق، الطبول تدردب، والسلام على الأرض، والناس يفتشون على المسرّة.

على مشارف الجليل أحس رطوبة منعشة في الجو، حركة سيّارت نشطة تملأ الشوارع، على مقاعد بعضها ينام المسافرون من تعب باد، فهم عمّال غادروا قراهم في ساعات الفجر الباكرة، ساعين وراء لقمة عيشهم، ويعودون بصحبة الليل إلى بيوتهم. بمحاذاة مجد الكروم شعرت ببقايا قلق، وشاهدت بيوتًا مضاءةً تنتظر فجرًا جديدًا وفرحًا، وفي دير الأسد، التي تبعد عن مجد الكروم مسافة موّال وأوف، يتأهبون لمؤازرة بنت البلد.

وصلت كفرياسيف، قريتي، التي ما زالت شوارعها بلا أسماء، كانت سماؤها مليئة بالغيوم وفي الجو رائحة نعاس.

قابلت أولادي، الذين عادوا إلى بيتهم القروي كالسنونوات حين يألفن المكان ويحافظن على هواه، كانوا في شدة الفرح على فوز منال وهيثم وفي شدة التأثر من دمعتك يا وائل، فتنوا بالموقف، وأجمعوا أنه يفيض إنسانية ورجولة جميلة، واتفقنا أن نخرج في نزهة نسافر فيها بمحاذاة الحدود اللبنانية القريبة من قريتنا، ونرمي وردةً ودعاء، عسانا نرد دمعة وبسمة، فعندنا، في الأرض المقدسة، هكذا قالوا لي، يولد الحب، خائفًا من قيصر، ومن وشايات السحرة وحرّاس الهياكل.

وأخيرًا، دمت لأهلك ولوطنك فلسطين، والله يوفقك.

المصدر : موقع بكرا 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير