الأردنيون على حبل مشدود بين الأمن وحرية التعبير.. بقلم: رنا الصباغ

26.11.2014 07:51 AM

بات جليا جنوح السياسة الرسمية باتجاه تخفيض مستوى التسامح إلى المعادلة "الصفرية" حيال الفكر السلفي الجهادي المسلح، وكذلك الأصوات المعارضة لمشاركة الأردن في التحالف الدولي ضد "داعش"، وأحيانا تلك المطالبة باستحقاقات الإصلاح.

عنوان هذه النزعة سُطّر في الصيف، حين مرّر مجلس الأمّة قانون منع الإرهاب المعجون بلغة مطاطية تتوسع في تعريف الإرهاب، ما يسمح باستغلالها لملاحقة وإدانة نشطاء مستقلين ومعارضين سلميين. يحدث ذلك على غرار دول عربية سنّت قوانين مماثلة خلال الأشهر الماضية، تاركة مساحة واسعة بين قولها والأفعال.

الرسالة هنا وصلت بعد توقيف نائب المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين زكي بني ارشيد في ساعات الليل قبل أيام، بقصد إحالته إلى محكمة أمن الدولة بتهمة "القيام بأعمال لم تجزها الدولة من شأنها تعكير صفو علاقة المملكة مع دولة أجنبية". بني ارشيد كتب مقالا على صفحته "الفيسبوكية"، اتهم فيها حكومة الإمارات العربية المتحدة "برعاية الإرهاب"، وذلك رداً على إدراجها جماعة الإخوان المسلمين ضمن لائحة المنظمات الإرهابية. ذلك المقال رفع منسوب القلق الرسمي من ردة فعل أبو ظبي؛ أحد أركان التحالف الدولي لمحاربة "داعش" في العراق وسورية، وأهم المانحين لخزينة الأردن. وفوق ذلك، يعمل في الإمارات العربية أكثر من 220 ألف أردني.

قرار التوقيف إشكالي، حال الرجل نفسه. فهناك من يرى أهمية قصوى لحماية الأمن القومي ومصالح البلاد، تفوق حقوق الإنسان وحرية التعبير، بخاصة وأن الانتقاد صدر عن رجل يحتل موقعا متقدما في جماعة لا يبدو أنها التقطت بعد رسالة السلطة بأن تسامحها مع مماحكاتها لا يعني تحدّي الدولة وكسر هيبتها. في المقابل، يرى نشطاء وحقوقيون وساسة، أن ردّة الفعل الرسمية كانت انفعالية "صنعت من الحبة قبة"، وكيّفت حقوق الإنسان على مقاس الحقوق في دول عربية أخرى. كان بإمكان الناطق باسم الحكومة -مثلا- الخروج بتصريح رسمي يقول فيه إن الحكومة تدين موقف بني ارشيد الذي لا يعكس أي توجه رسمي، وذلك من باب احترام تنوع الآراء.

توقيف بني ارشيد يطرح أسئلة أخرى: ماذا لو اتهم كاتب مقال في صحيفة محلية رئيس وزراء إسرائيل بممارسة الإرهاب، أو نظّم ناشط مظاهرة تطالب بعدم شراء الغاز الإسرائيلي؟ وماذا لو لعن الرئيس الأميركي واتهمه بالعمالة للماسونية العالمية؟ هاتان الدولتان أيضا من حلفاء الأردن، والولايات المتحدة توفر لنا ملايين الدولارات سنويا لدعم الاقتصاد والجهد العسكري.

الجواب: بالتأكيد هو أنه لن يترتب على ذلك تبعات، لأن دولة مثل أميركا تحترم حرية الرأي، واعتاد حكّامهما على سهام النقد التي تطال أداءهم.

بعد تجربة بني ارشيد، سيخضع الأردنيون، من الآن فصاعدا، لمقياس عربي لحقوق الإنسان، مغاير لمقاييس الغرب. فالمحظور على المواطن العربي في بلاده، سيكون ممنوعا على الأردني، والعكس صحيح. وليس من المستبعد إحالة نشطاء، وكل من ينتقد حسابات الرسميين، إلى محكمة أمن الدولة بدلا من المحاكم المدنية. وبدلا من اتهامهم بالقدح والذم وفق قانون العقوبات مع تسريع إجراءات التقاضي، يتساوى المحالون إلى أمن الدولة مع من حاول قتل الناس عبر محاولات تفجير أو تصنيع متفجرات.

لكن علينا تذكر أن تهديد المسار الديمقراطي والإصلاح السياسي وأي إمكانية لترسيخ "دولة مدنية"، لا يأتي فقط من الفكر التكفيري والممارسات الظلامية لتيارات تسيس الدين، بل يأتي كذلك من العقلية الأمنية، التي لا تعتقد بقيمة المواطن ولا تعطي بالا لرأي الناس. هذه العقلية -حال الأخرى- تقع أسيرة ظلمها واستبدادها، لأنها ترى في نفسها الحقيقة المطلقة ولا تحترم التعددية والعقل البشري.

طبعا، يدرك الأردنيون أن بلادهم في عين العاصفة؛ شرقا وغربا وشمالا، وأنها تواجه خطر المد التكفيري في إقليم ملتهب. ويدركون كذلك أن عليها تحصين المجتمع من "فكر وشرور" هذه القنابل الموقوتة المتشددة، والتي يُخشى تفجرّها في أي لحظة. وفي ظل هذا الوضع الضبابي المحفوف بمشاعر الخوف الجمعي من الإرهاب المخيم، يتفهمون قرار وزارة الأوقاف بوقف 30 إماما عن الخطابة. ويتفهمون أيضا محاكمات أردنيين متهمين بـ"الالتحاق بجماعات مسلحة أو تنظيمات إرهابية والترويج لها"، في مقدمتها "داعش" و"جبهة النصرة".

لكن هذا لا يعني التضحية بحق التعبير، وبالحريات الإعلامية وحقوق الإنسان، مقابل توفير الأمن والاستقرار الذي يعد مطلبا أساسيا للشعوب المرعوبة من الفوضى والحروب المشتعلة منذ اندلاع الثورات والاحتجاجات العربية العام 2011. تلك الفوضى الخلاقة سمحت بانتشار الفكر التكفيري المتشدد العابر للحدود، والمدعوم بحواضن داخلية في كل دولة عربية تقريبا، قوامها الفقر والبطالة والجهل وثقافة الإقصاء، إلى جانب غياب العدالة في توزيع مكاسب التنمية، وتراجع هيبة الدولة لمصلحة الهويات الفرعية الضيقة.

كما لا يعني أبدا قبول حسر مناخ الحريات العامة، أو استخدام هذه المخاوف المشروعة لتكميم الأفواه وانتهاك حقوق الإنسان الأساسية، فقط لأن الفوضى تسيدت المشهد في غالبية دول التحول، بشعوبها المحشورة بين حزب الدولة أو "الإخوان"، غير الجاهزة للانخراط في مسار انتقالي صوب التعددية والديمقراطية.

والمحزن أكثر قبول هذا التراجع من ذات المواطنين الذين هللوا قبل أربع سنوات لشعارات تطالب بالعدالة المجتمعية وسيادة القانون وقيم الديمقراطية ودولة المواطنة، ومحاربة الفساد والمفسدين، مع ضمان حق الحصول على المعلومات مدعوما بإعلام مستقل يسائل السلطة ويحاسبها.
بعيدا عما حصل مع بني ارشيد وغيره، لا بد من احترام معادلة الأمن والحرية، من دون الانتقاص من الحقوق والحريات الأساسية؛ بما يتناغم مع القانون الدولي الذي يقر بأن حماية "النظام العام والأمن القومي" هدف مشروع، يستدعي الحفاظ عليه أحيانا تقييد بعض الحقوق في "ظروف محدودة وضيقة التعريف".

نقلا عن "الغد" الأردنية

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير