اقتصاديات الفساد وتعميق البنية الاستهلاكية

19.12.2014 09:26 AM

وطن -مركز العمل التنموي (معا) - جورج كرزم: يستفيد بعض أصحاب الاحتكارات المحلية مالياً من الإغلاق الإسرائيلي الذي يعيق تطوير الاقتصاد الفلسطيني.  إذ أن إسرائيل، حتى في فترات الإغلاق المحكم، تسمح لهذه الاحتكارات باستيراد مواد غذائية أساسية وتسويقها وبالتالي التحكم في أسعار هذه المواد التي ترتفع باستمرار وتسحق القدرات الشرائية لغالبية الناس.  وهناك حفنة من الأفراد ذوي العلاقات الوثيقة مع الشركات الإسرائيلية والأجنبية الأخرى والذين يعملون وسطاء شبه رسميين في المناقصات الكبيرة، مقابل العمولات التي تستخدم في تمويل الصناديق السوداء والأجهزة الأمنية المتنوعة.

في الواقع، المفهوم الفلسفي لما يسمى "خطط التنمية" الخماسية والثلاثية وما إلى ذلك، مبنية على فلسفة العملية السياسية نفسها والقائمة على أن الاقتصاد الفلسطيني ملحق بالاقتصاد الإسرائيلي. بمعنى أن إسرائيل والاتفاقيات الإسرائيلية-الفلسطينية تعتبر المرجعية الاقتصادية-"التنموية" الحقيقية وليست الخطط الفلسطينية.  لهذا فان "المشاريع" المنوي تنفيذها في أغلب المناطق الفلسطينية بحاجة الى موافقة إسرائيلية.

كما أن إحجام الدول "المانحة" عن الاستثمار الجدي في القطاعات الإنتاجية، وخاصة الزراعة، يعود لأسباب سياسية واستراتيجية، بالدرجة الأولى، حيث أن الزراعة مرتبطة بالأرض والمياه اللذين يقعان تحت السيطرة المطلقة للاحتلال، وهما يشكلان جوهر الصراع بين الشعب الفلسطيني والمحتل.  وحيث أن حركة الأموال المتدفقة إلى الضفة والقطاع تمر عبر المؤسسة الصهيونية وبموافقتها، فلا يمكن إذن أن تسمح تلك المؤسسة باستثمار الأموال الخارجية في التنمية الزراعية والبيئية الشاملة التي تعني توسعا أفقيا وعموديا في القطاع الزراعي، وتأهيل مساحات واسعة من الأراضي، وزيادة كمية ونوعية في الإنتاج والتسويق الداخلي والخارجي، فضلا عن زراعة الاحتياجات الغذائية الأساسية للشرائح الشعبية وصولا إلى تحقيق الاستدامة والأمن الغذائيين وتثبيت السيادة الإنتاجية الفلسطينية على الأرض. فمثل هذه السيادة تتناقض جوهريا مع المشروع الصهيوني الهادف إلى تهويد الأرض وتثبيت "السيادة" الصهيونية عليها وعلى الموارد المختلفة. 

وهنا تبدو محاججة العديد من الاقتصاديين والتنمويين الفلسطينيين بأن مدى النجاح في "تنمية" الاقتصاد الفلسطيني بعامة والزراعة الفلسطينية بخاصة يتعلق بمدى إنتاجنا لسلع "منافسة" لتصديرها للأسواق الغربية محاججة واهية. ففي مثل هذا الزعم  يتم تجاهل ثلاث مسائل أساسية هي: أولا، أن الضفة والقطاع يعانيان من خلل كبير في النسبة بين كل من الفائض التصديري ومستلزمات الاستيراد لصالح الثانية، وذلك نتيجة ضعف بنية الإنتاج المحلي وانخفاض الإنتاجية، الأمر الذي يقلل كثيرا من آفاق بناء اقتصاد تصديري منافس.  ثانيا، تدني المستوى التقني للإنتاج المحلي قياسا بمعايير الأسواق الغربية وبالتالي تضاؤل فرص المنافسة في هذه الأسواق.  ثالثا، أن معظم الأقطار العربية وغير العربية المجاورة والتي تشكل أسواقا طبيعية للسلع الفلسطينية، تابعة تبعية كلية ومباشرة للسوق العالمي.  ونتيجة لما سبق، يمكن القول بأن الاقتصاد الفلسطيني يفتقر عمليا الى أهم عناصر المنافسة.  ولا يغير هذا الواقع ادعاء الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منحنا "تسهيلات تصديرية" لأننا وبالرغم من هذه "التسهيلات" فسنقف في مواجهة بنى اقتصادية غربية ضخمة قد نصدر لها في البداية بعض السلع الكمالية التي تتحكم بأسعارها الأسواق الخارجية، لكن سرعان ما ستفترسنا منافسة هذه الاقتصاديات، بحيث سيتعمق ويتجذر ارتباطنا بها لدرجة اضطرارنا استيراد معظم ان لم يكن كل غذائنا المصنع وغير المصنع منها. 

ان الوهم السائد بأننا نستطيع "المنافسة" فيما يسمى بالسوق العالمي لا ينسجم مع حقيقة كون البنية الإنتاجية الفلسطينية غير متكافئة بتاتا مع البنى الإنتاجية الغربية والإسرائيلية من ناحية كثافة الرأسمال والتكنولوجيا، ناهيك عن الأسعار الاحتكارية التي تفرضها الدول المصنعة على منتجاتها الصناعية والزراعية وبالتالي قدرة هذه المنتجات على منافسة مثيلاتها في الدول المتخلفة.
لقد صمم "النظام الاقتصادي العالمي" المهيمن عليه من قبل الدول الصناعية المتقدمة بحيث لا يسمح للبلدان المتخلفة والتابعة بتجاوز تخلفها وتبعيتها الاستهلاكية لإنتاج الدول الغربية.

وإن حقيقة كوننا مجتمعا استهلاكيا يشتري معظم طعامه من إسرائيل والخارج، بما في ذلك الغذاء الاستراتيجي، تعني بأننا نفتقر الى الأمن الغذائي، وبالتالي السيادة على غذائنا.  وهنا بالذات يكمن السبب الأساسي في تبعيتنا للخارج. وافتقارنا للسيادة على غذائنا يعني أيضا افتقارنا للأمن الوطني الذي لا يمكننا توفيره ما دامت إسرائيل والاقتصاديات الخارجية تتحكم في عملية إطعامنا أو تجويعنا.

تجاوز الرأسمالية المتوحشة

إن تجاوز الرأسمالية المتوحشة التي تتحكم بأنماط حياتنا في فلسطين، وتحديدا الرأسمالية بطبعتها النيوليبرالية بشكل عام، والرأسمالية الكولونيالية بطبعتها الصهيونية في فلسطين بشكل خاص، يتطلب التخطيط العلمي لبناء اقتصاد منتج يخدم الشرائح الشعبية والفقيرة والعاطلة عن العمل (وهي تشكل غالبية السكان) ويمكنها من استخدام الأرض ووسائل الإنتاج الأخرى والثروات الاجتماعية لصالحها. الأمر الذي يتطلب هدم المؤسسات والبنى الاقتصادية والأمنية والسياسية التي خلقها الاحتلال الذي يواصل من خلالها التحكم في مواردنا وشؤوننا، وإعادة بنائها على أسس جديدة. كما يتطلب عدم الركون إلى "وعود" و"إنسانية" الدول المانحة.

إن أية عملية تصنيع لا يجوز أن تتم على حساب القطاع الزراعي، وإلا فان النتائج لن تكون أفضل من العديد من البلدان "المتخلفة" التي تسببت تجاربها التصنيعية المدمرة للزراعة في انهيار الصناعة والزراعة معا وتفاقم مشكلة الجوع وتحول هذه البلدان الى مستورد رئيسي للمواد الغذائية الأساسية بعد أن كانت مصدرة لها.

ولا يختلف عاقلان على ضرورة التصنيع وأهميته في المعركة من أجل التنمية الذاتية المستقلة، لكن السؤال الحاسم الذي يحتاج الى إجابة دقيقة هو:  أي نوع من التصنيع يناسب الضفة والقطاع الرازحين تحت احتلال استيطاني عسكري؟  اذ أن افتقارنا للرساميل لا يعني بأن نسمح للرأسمال الأجنبي العمل بحرية مطلقة، بل لا بد من التركيز على التصنيع الزراعي وزيادة الإنتاج الغذائي وتنويعه وحمايته، بما يضمن التأسيس لاقتصاد المقاومة في مواجهة سياسات الحصار والخنق والتجويع الصهيونية، فضلا عن تحسين مستوى معيشة أهل الريف إجمالا الأمر الذي سيخلق دورة اقتصادية تؤدي إلى توسيع سوق الصناعة المحلية وبلورة صناعات جديدة؛ بما في ذلك إنتاج بعض التجهيزات الزراعية الصغيرة وإصلاحها.  بمعنى أن التصنيع لا بد أن يكون منسجما مع عملية ربط الاستراتيجية الزراعية بالتنمية الصناعية انطلاقا من الإمكانيات المتوفرة بحيث تبنى هذه العملية على أساس تكاملي مع الأقطار العربية المجاورة. 

ان أي استثمار لرؤوس الأموال الخارجية في الصناعة لا بد أولا أن يركز على الصناعات الزراعية وأن يخلق صناعات جديدة لا أن يكرر الصناعات القائمة ويسحقها، وثانيا أن يقلل من استيرادنا ويزيد من إنتاجنا وينوعه، وثالثا أن يزيد من رأس المال المحلي للاستثمار الصناعي طويل المدى ورابعا أن يجد أسواقا جديدة للإنتاج الصناعي، لا أن يسلب من المنتج الفلسطيني سوقه، وأخيرا أن ينقل لنا تقنيات ومهارات جديدة، لا أن يستغل نقص التقنيات والمهارات المحلية لمصلحته.

التنمية الشعبية ومناهضة العولمة

لا يمكن بناء اقتصاد فلسطيني منتج يخدم الشرائح الشعبية ويمكنها من استخدام الأرض ووسائل الإنتاج الأخرى لصالحها دون مناهضة العولمة.  ومناهضة العولمة في السياق الفلسطيني تحديدا، لا تعني الانسحاب من الاقتصاد العالمي، بل إنها تعني جعل المشاركة في هذا الاقتصاد وسيلة لبناء وتعزيز قدرات الاقتصاد المحلي وليس هدمها، كما تفعل سياسات التجارة النيوليبرالية.  ومن هنا، فإن مناهضة العولمة تنطوي على ما يلي:

• تركيز الإنتاج الزراعي من أجل السوق المحلي أساسا، وليس التصدير.
• تكريس مبدأ التشعب (اللامركزية) في الحياة الاقتصادية، من خلال تشجيع الإنتاج السلعي في المستوى المحلي (المجتمعي الصغير) والمستوى القومي، إذا ما كان ذلك ممكنا من ناحية التكلفة المعقولة، لحماية المجتمع المحلي.
• استخدام السياسة التجارية لحماية الزراعة المحلية من الدمار بسبب إغراق الأسواق الفلسطينية بالسلع الأجنبية والإسرائيلية الاحتكارية المدعومة والمسوقة بأسعار مخفضة بشكل مصطنع.
• استخدام السياسة الصناعية لتنشيط وتقوية قطاع التصنيع.
• إعادة توزيع المداخيل والأراضي (بما في ذلك الإصلاح الزراعي في المدن)، لخلق سوق داخلية تنبض بالحياة وتكون بمثابة مرساة للاقتصاد، وتنشئ موارد مالية محلية للاستثمار.
• التقليل من أهمية النمو (الاقتصادي) والتركيز على تحسين جودة الحياة، وتحقيق أقصى قدر من المساواة، لتقليص اختلال التوازن البيئي.
• عدم ترك القرارات الاقتصادية الإستراتيجية للسوق أو للتكنوقراط، بل توسيع نطاق اتخاذ القرار الديمقراطي في الاقتصاد؛ بحيث تصبح كل المسائل الحيوية خاضعة للخيار الديمقراطي؛ ومن بين هذه المسائل مثلا: أي الصناعات يجب دعمها وتطويرها، وأيها التخلص التدريجي منها؛ أي نسبة من الموازنة الحكومية يجب أن تخصص للزراعة...إلخ.
• إخضاع القطاع الخاص والدولة للرقابة والإشراف المستمرين من قبل المجتمع المدني (النقابات، الاتحادات...إلخ).
• مَوْضَعَة الملكيات العقارية (العامة والمملوكة أجنبيا) بشكل أساسي في إطار "الاقتصاد المختلط" الذي يشمل التعاونيات المجتمعية، منشآت القطاع الخاص ومنشآت الدولة، ويستثني الشركات الاحتكارية العابرة للقوميات.
• تشجيع عملية تطوير وتعميم التكنولوجيا الصديقة للبيئة والملائمة للزراعة والصناعة المحليتين.

أخيرا، بما أننا نفتقر إلى أهم شروط التنمية والتطور، أي السيادة السياسية والسيطرة على الأرض والموارد الطبيعية، فلا يجوز استبدال المشاركة الشعبية في العملية التنموية بالخدمات، بل العمل في كلا الاتجاهين معا.  والمطلوب بلورة استراتيجية تنموية للمقاومة، تتجاوز بيروقراطية المؤسسات، وتلتحم بالجماهير التي أشد ما تحتاج إليه الاجراءات الكفاحية والتنموية الشعبية الملموسة والمرئية، بشكل منسق بين مختلف الأطر الجماهيرية والنقابات والأحزاب والمؤسسات "الأهلية" وغيرها.

وطالما أن التنمية الحقيقية مرتبطة عضويا بالسيادة السياسية وبالسيطرة على الأرض، وطالما أننا نفتقر إلى السيادة والسيطرة على الأرض، فإن بديهيات العمل التنموي، في سياقنا الفلسطيني الخاص، تتطلب بلورة استراتيجية تنموية هجومية مضادة للنشاط الصهيوني الذي يستهدف الأرض والإنسان الفلسطيني الذي يفترض أن يكون محور العملية التنموية. وهنا قد تتخذ العملية التنموية أشكالا جديدة ومتميزة من النشاطات الشعبية اللامركزية، من خلال لجان الأحياء والتنظيمات الشعبية وغيرها.

إذن، الفعل التنموي، لا بد أن يسير جنبا الى جنب مع الدور التعبوي، الأمر الذي يعني عدم اقتصار هذا الفعل على الدور المؤسساتي الخدماتي و"المهني" المحدود الذي قد يزيد من عزلة المؤسسات "التنموية" وعامليها عن الشرائح الاجتماعية الشعبية ويسلخها عن متطلبات هذه الشرائح، بعيدا عن النشاط النضالي الوطني، خاصة، في ظل غياب الحد الأدنى من حقوق شعبنا الفلسطيني التي لا غنى عنها في أية استراتيجية تنموية حقيقية، ونقصد بذلك السيادة السياسية على الأرض والموارد الطبيعية والسيطرة عليها.

تصميم وتطوير