اضحك يا غيفارا ... كوبا انتصرت

20.12.2014 04:46 PM

وطن - كتب: سامي كليب: تغيب الشمس خلف الأحياء القديمة في هافانا، ينتشر العشاق على طول الكورنيش. لا عنصرية ألوان هنا، لا مذاهب ولا طوائف، لا حروب «داعش» و»النصرة» ولا غزوات داحس والغبراء. عشاق مختلطو الأعراق والألوان. أصولهم الأفريقية والإسبانية تضفي على الليل الكوبي رونقاً خاصاً. تترنح المدينة على وقع موسيقى السالسا المنبعثة من السيارات المتوقفة عند جانبي الطريق.

على الطريق الفاصلة بين هافانا وسانتا كلارا، شعارات مناهضة لأميركا المجاورة. بين يافطة وأخرى، تنتشر صور الكوبيين الخمسة المعتقلين في سجن غوانتانامو السيء الذكر، اتهمتهم اميركا باختراق المعارضة الكوبية في اميركا، اعتقلتهم فصاروا قضية.

يبتسم الموظف في شركة تأجير السيارات، يمسح بعض الغبار عن زجاج السيارة، ينزل تحتها ثم يرتفع، يدور حولها ليتأكد من ان لا اصابات فيها، يقدم ورقة الايجار لتوقيعها. يبتسم مجدداً ويقول: «ليتني استطيع المجيء معكما الى سانتا كلارا». يبدو كجميع اهل بلده الجميل الطيب حافظاً الحب نفسه لمن هو في سانتا كلارا.

قبل ان نترك العاصمة هافانا، نلمح مبنى شعبة المصالح الأميركية. يرتفع أمامه 138 علماً أسود. هكذا حجبت كوبا الشاشة الالكترونية فوق الطابق الخامس «لشعبة التجسس» كما يصفونها هنا، بغية منعها من بث الدعاية المناهضة للنظام. تحسنت العلاقات قليلاً في عهد الرئيس باراك اوباما، لكن كوبا لا تزال تعاني ظلم الجار.

منذ ربيع عام 1960، قال وزير الخارجية الاميركي كريستيان هيرتا: «ينبغي استخدام أية وسائل ممكنة وعلى نحو سريع بغية إضعاف الحياة الاقتصادية في كوبا والتسبب بالجوع واليأس والإطاحة بالحكومة». جاعت كوبا قليلاً. صبرت كوبا كثيراً. شمخت كوبا عالياً. حافظت على كرامة المناضلين.

«هل تسمحين بارشادنا إلى سانتا كلارا؟»، تبتسم السيدة الكوبية المرتدية ثياباً بيضاء، تنحني صوبنا. تكاد تدخل بعض رأسها في النافذة، تقول إنها ذاهبة إلى مكان غير بعيد عن المنطقة، تحاول الصعود الى المقعد الخلفي، ندعوها للجلوس الى جانب السائق، وأصعد الى المقعد الخلفي،

تجلس شاكرة تقديرنا للمرأة، تصعد ومعها اسئلة عن الدولة التي جئنا منها، تبدو راغبة اكثر بمعرفة ما يجري عندنا. هنا ثقافة الناس تنحو اكثر صوب الادب والثقافة والفنون والعلوم والطب. يبدون كأنهم سئموا ويلات ما يحصل، قالت انها لم تكن تعرف عن وطننا العربي سوى فلسطين. كوبا لا تزال حتى اليوم تستضيف طلبة فلسطينيين وترعاهم رغم تواضع الحال، صارت السيدة الكوبية الآن تعرف سوريا والعراق و»داعش» وتونس واليمن ومصر. تبتسم، تسارع الى القول: «احذروا أميركا والاطلسي... هما سبب مشاكلنا».

اسمها ماريا، لعل محبسها الذهبي المتواضع يختزن قصة من قصص الحب الجميلة في كوبا. تصمت فنصمت، تضع يدها اليمنى على نافذة السيارة، تحيّي بعض الواقفين على حافة الطريق كأنها تعرفهم، ترشدنا إلى باقي الطريق، تشكرنا وتترجّل. هنا الناس طيبون، محبون للحياة، مثقفون الى اقصى حد، صابرون على العقوبات، يحلمون بشيء من الرفاهية، لكن ليس على حساب الكرامة.

تقطع ماريا نحو 50 كيلومتراً يومياً للذهاب والإياب من وإلى عملها. تحمل شهادتين، واحدة في التمريض وثانية في الادب العالمي. تعلّق على صدرها صورة تشي غيفارا. الـ «تشي» كما يسمونه تحبباً هنا ينتشر صوراً على الطريق بين هافانا وسانتا كلارا، يبتسم في كل الصور، يوحي وكأنه يضحك على ما آلت اليه حال أميركا في العالم. او لعله يضحك على ما بقي من اليسار العربي في عصر الخلافة.

لم يكن غيفارا كوبياً، كان طبيباً ومثقفاً وكاتباً ارجنتينياً، جاء الى كوبا ينصر ثورتها. أحبه اهلها حتى صارت صوره في كل قلب وشارع، كثرت صوره بعد استشهاده وندرت صور او تماثيل زعيم كوبا فيدل كاسترو، هنا القادة يثورون وينتصرون ويبنون بلادهم. اما دول التماثيل، فهي التي ينهب القادة شعبها. هنا التاريخ يحفظ الثوار والقادة. هناك التاريخ يلعن التماثيل وأصحابها.

ما أجملك يا سانتا كلارا. يرتفع تمثال تشي غيفارا عالياً صوب السما،. ينتصب فوق الضريح شامخاً، صار الضريح مزاراً، بات الاكثر جذباً للسياح. هنا صورة الثائر الوسيم مربعة الشكل تتوسط صوراً مستديرة لرفاق النضال والثورة. هنا زنبقة زهرية اللون تجاور الصورة، تحت الصورة شعلة تبقى متقدة ليلاً نهاراً كما كانت الثورة وكما هي الكرامة باقية في كوبا اليوم.

تبتسم موظفة الاستقبال.،تدرك اننا كملايين الزوار جئنا نستعيد شيئاً من وهج ثورة حقيقية. هنا الثورة لم تأكل أبناءها، ولا الآخرون اكلوا الثورة. تبتسم الموظفة وتذكرنا بأن التصوير ممنوع، ثم تتابع القراءة. نسألها ان كان علينا دفع بدل مالي للدخول. تغلق الكتاب، تضحك، ترفع النظّارة عن عينيها وتقول بلغتها الاسبانية المحببة ما مفاده: «ايها الرفاق ان الثورة ليست للبيع». اتذكر بعض اصدقاء ثوراتنا من دول الاطلسي. هه.
أشياء تشي غيفارا ورفاقه هنا، بطاقة هويته تقول إنه مولود عام 1928، كاميرته التي التقطت فيها آخر وجوه الثوار، كأس المتي (هذا المشروب الأخضر الذي يشبه الشاي)، مسدس كولت، ثياب عسكرية، راديو قديم، حزام جلدي، صور كثيرة للثائر العاشق مع زعيم الثورة فيدل كاسترو، شروحات عدة قرب كل قطعة. 

ثمة قشعريرة غير قابلة للتفسير تنتاب الداخل الى الضريح، هي هيبة المكان ربما. او ربما هو التاريخ الشريف المختصر هنا بابتسامة ثائر وبعض حوائجه.

مثلنا، في كل يوم، يأتي الى الضريح نحو 1500 زائر. لو دفع كل زائر دولاراً واحداً لساهم في تحسين اوضاع كوبا، لكن هنا الثورة ليست للبيع. الايطاليون هم اكثر الزوار. تضحك مسؤولة الضريح وهي تضيف: «الايطاليات خصوصاً».
على لائحة الزوار لا يوجد عربي غيرنا، لا يهتم العرب لتاريخ الثورة او ربما لا يحبون هذا النوع من السياحة. المال العربي يكدس في المصارف الاميركية او يرمى في شوارع اوروبا او في علب الليل والكازينوهات او يرسل الى التنظيمات التكفيرية الارهابية لتدمير دول اخرى بعضها يشبه كوبا، تفرح المسؤولة حين نخبرها ان في أوطاننا أيضاً من يضعون صورة الـ «تشي» في القلوب والبيوت.
يحل الليل الكوبي على سانتا كلارا، نسحب سيجارا من العلبة الصفراء، نفعل كما يفعل معظم الكوبيين. هنا السيجار ليس حكراً على فاسد او ثري بطرق ملتوية او سياسي نهب الشعب كما هي الحال في بلادنا. هنا ليس السيجار للوجاهة او التعالي على الفقراء. هنا عامل التنظيفات، ونادل المطعم، وسائق التاكسي والمثقف والسياسي وكل فرد يدخن سيجارا. السيجار فخر كوبا.
الليل الكوبي جميل. ثمة فرح يقفز فوق الوضع الاقتصادي الصعب ليستقر في القلوب. منذ ساعات المساء الاولى تصدح الموسيقى الكوبية من المنازل والمطابخ والمقاهي، يتحلق الكوبيون بثيابهم الصيفية امام المنازل، يضعون بعض مأكول ومشروب، يترنحون على انغام الموسيقى. لا باس ان كان وزن ربة المنزل 100 كيلو، ترقص كفراشة مع زوجها امام النزل، جميعهم يرحبون بالضيوف. يسيرون مئات الكيلومترات لمرافقة ضيف اذا اضاع الطريق. ينثرون محبة قل نظيرها في اي بلد في العالم.
لم تأت ثورة كوبا من عدم. لعل بين تاريخ البلاد وتواريخ اوطاننا كثيراً من التشابه. منذ استقلالها عام 1902، عرفت كوبا كيف تعاقب حكاماً فاسدين مرتبطين باميركا، لم يتردد الجار الاميركي في الجور على الجار الصغير. غزاها 3 مرات على الاقل، ساعد في تنصيب وحماية الدكتاتور فوخنسيا باتيستا الذي كان يقمع بقدر ما يبيع ثروات بلاده للغرب. هل يذكركم بأحد؟ الا يذكركم بمجموعة وليس بواحد؟

اعتقل باتيستا الشاب فيدل كاسترو. كتب كاسترو في سجن الدكتاتور مؤلفه الشهير: «التاريخ سينصفني»، انصفه التاريخ، ناصره الاتحاد السوفياتي، دعمته الصين، قطعت أميركا علاقاتها بالجار الذي تحول الى مارد كرامة. انتشرت عدوى الثورة، صارت صور تشي غيفارا تنبت كزنابق المجد في اميركيا اللاتينية وافريقيا، بقي رافعاً لواء العزة حتى جاءته الخيانة من بوليفيا نفسها التي انعش فيها الحس الثوري.

استشهد غيفارا. انتصرت الثورة. غضبت اميركا، سعت لخنق كوبا اقتصادياً، عاقبت كل الشركات التي تتعامل معها. هل يذكركم الامر بشيء؟ انساق الاوروبيون كالاتباع خلف واشنطن؟ كم يكرر التاريخ نفسه. هه. اما الامم المتحدة المسكينة، فتارة تشجب ومرات تنام، يبدو انها نامت كثيراً تماماً كما تفعل حين يتعلق الامر بفلسطين.
صمدت كوبا. شمخت كوبا. جعلت من كرامة شعبها بيدقاً ومن عزتها نبراساً، جاءها الغازي الأهبل جورج دبليو بوش، سعى نيرون العراق لمعاقبة الجار المتمرد. قال: «سنطيح قريباً بالنظام الكوبي». ضحك غيفارا في صورته وسخر كاسترو. قال وهو يغالب المرض: «ليتذكر بوش أنه حين هزمنا باتيستا كان عندنا ألف رجل مقابل 80 ألفاً للديكتاتور الكوبي... وسوف نحيل حياة الغازي الى جحيم».
لا التهديد نفع ولا الحصار قضى على الكرامة والعلم. كوبا تقدمت علمياً وطبياً وثقافياً على نحو مذهل. انتجت أدوية وعقاقير لمعالجة أمراض السكري والكولستيرول وما لا يقل عن 13 مرضاً معدياً يصاب بها الأطفال، طورت أول لقاح ضد الصرع، تصدر أدويتها إلى أكثر من 40 بلداً. صدرت اكثر من 80 الف طبيب الى الجار والرفيق الفنزويلي المخلص المرحوم هيوغو تشافيز.

قال كاستور لبوش: «انتم صدروا القنابل للعالم ونحن سنصدر ادوية واطباء».

يرتفع صوت الأوبرا الكوبية المنشدة الأغنية الرائعة: «لا كومندانتي تشي غيفارا». نرفع صوت الراديو قليلاً. تنساب السيارة بنا انسياب النهر بين الأشجار الوارفة. ينعشنا نسيم المساء بعد يومين في سانتا كلارا. تضحك لنا الحقول الخضراء والمراعي المتعددة الألوان والبيوت الخشبية العتيقة في القرى الكوبية. يرتفع شدو فرقة كوبية أخرى تغني «لا كومندانتي تشي غيفارا». عشرات التوزيعات عرفتها هذه الأغنية الممجدة لذكرى رفيق جاء من الأرجنتين يقول للكوبيين إن الثورة على الديكتاتورية والظلم والطغيان والاستعمار واحدة. نتذكر شيخ إمام وأغنية «غيفارا مات». يحلو لنا أن ننشد في السيارة «يا رفاقي  في كوبا الأبية» لمارسيل خليفة.
هنا الثورة لم تكن للبيع فنجحت. هنا الربيع قاده مناضلون حقيقيون فأزهر كرامة. هنا الشعب صمت نصف قرن فأجبر اميركا على الاعتذار والقول ان سياستها أخطأت. مبروك لكوبا وشعبها، على أمل الا تكون العودة الاميركية سبباً بانتهاء ذاك العصر الجميل والمدن التي لا تزال حافظة عبق التاريخ.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير