لماذا يغيب السجال الفكري في ساحتنا الفلسطينية؟

28.02.2015 01:07 PM

وطن:كتب جبريل محمد

إثر هزيمة حزيران عام 1967، اشتعلت الساحة الفلسطينية في سجال فكري يوازي اشتعال العمل الفدائي المسلح المنطلق لتوه، والذي يطرق سبلا، لم تتعودها الساحة الفلسطينية قرابة عقدين من التغييب. فقد كان أول من أرسى أسس السجال اثنين من المفكرين، لم تنضج تجربتهم في الواقع المعاش، إنما من ثقافة حملوها مع شهاداتهم الغربية، فقد قدم هشام شرابي كتابه "مقدمات في دراسة المجتمع العربي"، والذي شكلت مقدمته على الأقل نقدا ذاتيا ونقدا موضوعيا للواقع العربي في بنيته الثقافية والاجتماعية، مركزا على التنشئة واتجاهاتها وما تخلقه التنشئة السائدة من نزعة الخضوع والإذعان للبنية الهرمية السائدة في المجتمع وصولا إلى الاذعان لبنية السلطة السياسية القائمة. وشكل هذا الكتاب صرخة احتجاج كبرى على الواقع وبات مرجعا للتفكير النقدي للمجتمع العربي، حيث تبعه كثير من المثقفين العرب بالشرح أو التعليق أو حتى التبني الكامل.
أما الكتاب السجالي الثاني فكان ما أنشأه صادق جلال العظم حول الهزيمة مقدما ما سماه "النقد الذاتي بعد الهزيمة" ومتبعا إياه بكتاب أشد تطرفا هو "نقد الفكر الديني" والذي عرضه للمساءلة القضائية، وإثر ذلك نشطت حركة نقد واسعة قادتها دار الطليعة في بيروت، ودار الحقيقة وغيرها من دور النشر التي امتلكت مجلات فكرية عميقة.
لقد راجع إلياس مرقص مواقفه، كما بنى ياسين الحافظ نموذجا رؤيويا لارتباط القومي بالاجتماعي الديمقراطي، وانتشر ما يعرف بنظرية "اليسار العربي غير التقليدي" الذي تجاوز المدرسة الشيوعية التقليدية، باتجاه اكتساب نماذج أخرى من أمريكا الجنوبية وجنوب شرقي آسيا.
فقد انتعشت في تلك الفترة حركة من النقد والتساجل الفكري المتجه نحو تجديد الرؤى والأساليب، وتفحص الطرق الجديدة، حيث أغنى ذلك فكر جيل كامل كان متعطشا للبحث عن الجديد تحت تأثير انطلاقة العمل المسلح.
وحتى بعد خروج الثورة من الأردن عام 1971، قدم العظم دراسته النقدية في فكر  المقاومة الفلسطينية، وتصدى للرد عليه كثير من الكتاب الفلسطينيين، أمثال ناجي علوش ومنير شفيق وغسان كنفاني والهيثم الأيوبي، كذلك جرى السجال الفكري وكان حاميا وشديدا بعد قبول المجلس الوطني للحل المرحلي، وبات الأمر لا يتعلق بتكتيك سياسي، بقدر ما تم تمحيص مدى خطورة هذا القرار على القيم الثورية والقضايا الاستراتيجية.
غير أن هذا الجهد الفكري خبا، مع سيادة السياسي اليومي والعملاني في الساحة الفلسطينية، وبات الخبر والحدث أهم من رؤية ما وراءه، واهملت إلى درجة كبيرة كل التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي نتجت عن الطفرة النفطية بعد حرب تشرين والتي دار السجال حول إذا ما كانت حربا تحريرية أم تحريكية لتحسين شروط التسوية.
هذا الخبو أدى إلى سيادة اليومي العابر، والمؤقت على الاستراتيجي الرؤيوي والفكري الناظم للعمل، وبدا أن الامور قد فلتت من إطارها الفكري نحو أداء يومي في غالبه غير متراكم أو متصل بالخط الاستراتيجي.
حاول السجال الفكري أن ينهض من خبوه لحظة انهيار المعسكر الاشتراكي، الذي وضع كثير من المفكرين أمام امتحان الرسوخ في القناعة الفكرية، وأمام مدى التماسك المنهجي في النظر إلى التغيرات الكبرى في العالم، إلا أننا رأينا تقاطبا بين مدافع مستميت عن قديم فجرته تناقضاته الداخلية، وبين من شحذ سيفه معلنا انتحاره الفكري متنكرا لقناعاته القديمة ومشرعا قاربه باتجاه ما ولده هذا الانهيار من تهافت على إفرازات مؤقتة للعولمة، بحيث فقد صاحب القديم أدواته القديمة، لكنه بدأ يتهجأ الحروف الأولى من الجديد الغائم وغير الواضح.
لقد تنكر العظم لإنتاجه السابق ولحدته في النقد، فيما ارتد منظر مثل العفيف الأخضر عن كل قناعاته الاشتراكية وبات مبررا كبيرا للنيو ليبرالية، أما في فلسطين فمن مفكريها ما داهن الإسلام السياسي وراح يبحث عن زاوية له فيها، ومنهم من ذهب بعيدا ليبرر كل مخرجات العولمة الرأسمالية في حقلنا الفلسطيني.
وحده ادوارد سعيد كان صوتا صارخا في برية السياسة الفلسطينية القاحلة، حينما قدم رؤيته التاريخية حول بذور فشل اتفاق أوسلو، فيما لم يتصد أي مفكر بشكل جدي للمرحلة الجديدة التي غرق فيها شعب وحركته الوطنية بأكملهما.
واليوم، ماذا لدينا من إنتاج فكري سجالي في ساحتنا الفلسطينية رغم القفزة الهائلة في وسائل الاتصال الجماهيري؟ هل هناك في فلسطين منابر للفكر والسجال؟ أم أن الاكتفاء بلقاءات النخب ومؤتمراتهم يشكل هذا السجال؟
يقينا أن السجال الذي كان يدور سابقا بين طلبة الجامعات كان أعمق واكثر تحررا وقدرة على المحاكمة من كل كتبة الاوراق مدفوعة الأجر والمفصلة حسب رغبة من يمول كتابة هذه الدراسة أو تلك الورقة.
إننا اليوم في حالة من الموات الفكري الثقافي، رغم كل ما يستدعي ضرورة إحيائه، حيث أننا أمام جيل ينشأ على حليبه اليومي والوجبه الفكرية السريعة، جيل يجاري السرعة، ولا يتريث كي يفحص ما يستهلكه، جيل مبهور بالخفيف السريع والسطحي على حساب العميق والذي يغني الفكر ويوجهه نحو المحاكمة العقلية، لا إرضاء النهم الاستهلاكي السريع.
نحن اليوم بحاجة إلى ورشة فكرية سجالية تطرح كل مواضيعنا على طاولة البحث والتفكير دون أية قيود أو اشتراطات، ترى وظيفة من تكون هذه المهمة؟ لا يتوقعن أحد من إطار رسمي أن يفتح عش الدبابير عليه، أما الفصائل باختلاف مشاربها، فإنها أمام امتحان مصداقية دعواها الديمقراطية، وجدية توجهها نحو مشاريع فكرية حقيقية، لا فروض إسقاط الواجب.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير