انتخابات "الكنيست" وموقع فلسطينيي 1948 في اللعبة "الديمقراطية" الإسرائيلية

02.03.2015 09:01 PM

كتب:جورج كرزم

احترفت الأحزاب "العربية" في إسرائيل، خلال عشرات السنين، ما يسمى "النضال البرلماني"، وأجاد نوابها في "الكنيست" توجيه مئات الاستجوابات للوزراء الإسرائيليين حول الأوضاع المعيشية الصعبة للعرب، التمييز العنصري، مصادرة الأراضي، التمييز في ميزانيات المجالس المحلية العربية، أزمة السكن وعدم منح رخص للبناء، غياب الخرائط الهيكلية للقرى العربية، الخدمات الصحية السيئة وغير ذلك العديد من المواضيع التي تناولتها استجوابات الأعضاء العرب في "الكنيست"، فضلا عن الاستجوابات الكثيرة التي طالبت المسؤولين والوزراء الإسرائيليين بسن "قوانين" تهدف إلى "تحسين الظروف المعيشية للعرب"، لم يسن منها سوى بضعة قوانين هامشية لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، هذا عدا عن المناقشات والمداخلات البرلمانية حول ما يسمونه "النزاع العربي الإسرائيلي".  ولم تحاول تلك الأحزاب التي اتخذت من رفع الاستجوابات للوزراء الإسرائيليين مهنة حزبية، ولو لمرة واحدة، مراجعة الجدوى الواقعية والعملية لنشاطها في البرلمان الصهيوني الذي لم تتمكن من خلاله تحقيق أي شيء يذكر من مئات المواضيع التي دأبت على عرضها ومناقشتها في "الكنيست"، على مدى عقود من الزمن، سوى منح الشرعية للمقولة الصهيونية بأن إسرائيل هي "الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط".  بل إن السلوك الإسرائيلي المؤسسي العنصري – الفاشي والإقصائي ضد العرب استفحل وتفاقم في السنين الأخيرة، وبقي فلسطينيو 1948 على هامش المجتمع الإسرائيلي. 

وعلى سبيل المثال لا الحصر، لم يقدم أي ضابط أو شرطي إسرائيلي للمحاكمة في جريمة قتل خير الدين حمدان في كفر كنا (تشرين ثاني 2014)، أو جريمتي قتل الشرطة الإسرائيلية للشابين سامي الجعار وسامي زيادنة في النقب (كانون ثاني 2015)، أو جريمة القتل المتعمدة التي اقترفت في هبة أكتوبر 2000 وراح ضحيتها 13 فلسطينيا.

يضاف إلى ذلك، أن العقلية الصهيونية العنصرية الهادفة إلى الحفاظ على "يهودية" إسرائيل، وصلت إلى درجة التدخل في شؤون زواج فلسطينيي عام 1948، إذ قررت "الكنيست"، بالنيابة عنهم، من يتزوجون ومن يطلقون، كما هو حاصل عمليا في ما يسمى "التعديل على قانون المواطنة الإسرائيلي" الذي يمنع فلسطينيي 1948 من الزواج من فلسطينيي الضفة والقطاع، وإلا فلن يتم توحيد شمل العائلات.

وبالرغم من تفاقم كل هذه التجليات المؤسسية الصهيونية العنصرية – الإقصائية البشعة، لا نزال نجد الرموز العربية الرسمية في إسرائيل، تتذمر وترفع نفس الشكاوى، تماما كما دأبت منذ عشرات السنين، دون جدوى.  ففي ذكرى يوم الأرض من كل عام، على سبيل المثال، نسمع أوساطا في "لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية" تعلن المعزوفة المملة التي حرصت على تكرارها منذ عقود في "الكنيست" وخارجها، بأن سياسة التمييز ضد الجماهير العربية في إسرائيل لا تزال متواصلة، وخاصة في مجال ميزانيات السلطات المحلية العربية والتهديدات بحلها، فضلا عن "استمرار التوجه لسلب الأراضي من التجمعات السكانية العربية ومنع توسعها.             

وهنا لن أستنزف الوقت والجهد لمناقشة التمايزات والفروقات السياسية-الأمنية غير الجوهرية بين مختلف الأحزاب الصهيونية من أقصى "يمينها" إلى "وسطها" إلى أقصى "يسارها"؛ إذ يتنافس جميعها على إثبات ولائه وإخلاصه لصهيونيته، علما أن ما يسمى بالوسط  الصهيوني، وتحديدا ائتلاف حزبي "العمل" (برئاسة يتسحاق هرتسوغ) و"هتنوعا" (برئاسة تسيبي لفني) يسمي نفسه المعسكر الصهيوني وهو يقدم ذاته باعتباره الملتزم بالصهيونية الأصيلة، و"يزاود" على نتنياهو في مقارباته الأمنية العسكرية ضد المقاومة في غزة ("إعادة الإعمار مقابل تجريد سلاح المنظمات الإرهابية" بحسب هرتسوغ) وضد سوريا وإيران. فالاختلاف بين لأحزاب والتكتلات الحزبية الصهيونية المختلفة هو حول أسلوب سحق المقاومة الفلسطينية والعربية والإسلامية، ودرجة البطش الدموي المفترض استخدامها في تطويع الفلسطينيين والعرب عموما.  لذا، أثناء اقتراف إسرائيل للمجازر البشرية الجماعية خلال عدوان صيف 2014 على غزة، رأينا اصطفافا وإجماعا حزبيا صهيونيا شاملا، بما في ذلك ما يسمى اليسار الصهيوني المتمثل بحزب "ميرتس".

"المشاركة العربية في الانتخابات جيدة لإسرائيل"

السؤال الجوهري المطروح هنا:  طالما أن الممارسات والمواقف المؤسسية الصهيونية العنصرية والقمعية - الإجلائية تجاه فلسطينيي 1948 تعمقت وتأصلت، وطالما أن عملية تهميش الأخيرين ازدادت وترسخت، وذلك بالرغم من صيحات "البرلمانيين" العرب عبر السنين الطويلة، فما هي، إذن، الجدوى السياسية و"الوطنية" لمواصلة العمل العربي في البرلمان الإسرائيلي الذي لم يحقق أي إنجاز سياسي – "وطني" يذكر لصالح الفلسطينيين؟

مشاركة فلسطينيي 1948 في انتخابات الكنيست لا تعدو كونها ضرورة سياسية-إعلامية صهيونية لمواصلة تسويق الأكذوبة الصهيونية الممجوجة حول معجزة الديمقراطية الإسرائيلية وسط بحر الديكتاتوريات العربية، وبالتالي فإن العرب في إسرائيل يتمتعون بنفس "حقوق المواطنة" التي يتمتع بها الإسرائيليون اليهود.  بل، ولتكريس هذه اللعبة الصهيونية، تبادر الصحف الإسرائيلية، عشية كل انتخابات برلمانية، إلى نشر مقالات باللغتين العبرية والعربية على صدر صفحاتها الرئيسية، تحث فيها العرب في إسرائيل على المشاركة في الانتخابات والتصويت للكنيست.

فعلى سبيل المثال، كتبت صحيفة "هآرتس" (15/ 1/2013)، عشية انتخابات الكنيست عام 2013، افتتاحيتها باللغة العربية، حثت فيها العرب على المشاركة في انتخابات الكنيست؛ وقالت الافتتاحية: "اخرجوا وانتخبوا"؛ وتابعت:  "عام 1948 قرر الفلسطينيون الذين بقوا تحت الحكم الإسرائيلي بأن يصبحوا مواطني الدولة؛ فاختاروا النضال الديمقراطي من أجل مواطنة متساوية".

وعلى خلفية الحملة الدعائية الانتخابية المحمومة، وفي ظل تشكيل قائمة حزبية عربية-إسرائيلية موحدة، خصصت الصحف الإسرائيلية مؤخرا مساحة واسعة لمقالات من أجل تشجيع تصويت الفلسطينيين في إسرائيل.  وفي اجترار سياسي لسيمفونية ديماغوجية بالية منسوخة من الجولات الانتخابية السابقة وتفتقر إلى الابتكار، نشرت تلك الصحف مناشدات حماسية للمواطنين العرب لممارسة "حقهم الديمقراطي"، مسوقة نفسها بأنها الحريصة على مصالح الأخيرين وحقوقهم.

ففي عددها الصادر بتاريخ 25/1/2015، نشرت جريدة "يديعوت أحرونوت" مقالا بالعبرية والعربية للصحفي نظير مجلي، اعتبر فيه "المشاركة العربية في الانتخابات هي أمر جيد لإسرائيل عموما وللمواطنين العرب خصوصا وللمواطنين اليهود أيضا. جيدة لإسرائيل حتى تكون ديمقراطية حقيقية. وجيدة للعرب لأنها واجب وطني وأخلاقي. فنحن نطالب بالمساواة وبتكافؤ الفرص وبالحقوق".  إذن، يقر مجلي بوضوح صارخ أن مشاركة العرب في الانتخابات "جيدة لإسرائيل حتى تكون ديمقراطية حقيقية"؛ أي أنه يوجه دعوة صريحة وغير خجولة للعرب بأن يشاركوا في المسرحية الصهيونية الهادفة إلى تسويق إسرائيل باعتبارها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط".  والمفارقة، أن مجلي يعتبر هذه المشاركة العربية "واجبا وطنيا وأخلاقيا"؛ وبالطبع، المقصود هنا "الواجب الوطني الإسرائيلي"، على غرار "وطنية" الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي نص دستوره على أنه "حزب الوطنية الإسرائيلية والأممية البروليتارية".

ومن ناحيتها، دعت صحيفة "هآرتس" في افتتاحيتها (25/1/2015) العرب في إسرائيل إلى المشاركة في الانتخابات لتقوية التواجد العربي في الكنيست، زاعمة أن زيادة تمثيل العرب سيؤدّي إلى الإطاحة بالحكومة اليمينيّة الحالية التي يقودها بنيامين نتنياهو. واعتبرت الصحيفة أن قائمة عربيّة مشتركة تشكل إمكانية حقيقيّة للعرب وللديمقراطيّة الإسرائيليّة للتغيير. 

جدوى وفاعلية "النضال البرلماني" 

في الحقيقة، حصرت الأحزاب "العربية الإسرائيلية" في "الكنيست"، ما اعتبرته "النضال الوطني" في "النضال البرلماني"، واعتبرت "النضال" في البرلمان الصهيوني أرقى أشكال "النضال" وأكثرها حسما، وأخضعت "نضالها" السياسي بين الجماهير العربية له، وسخرت مواقفها السياسية وممارساتها بالأساس، لخدمة عدد مقاعدها في "الكنيست"، وأصبحت مواقفها السياسية تهدف إلى تسجيل رصيد انتخابي لها يزيد من عدد مقاعدها في "الكنيست".

فإذا كان الحديث يدور عن حزب وطني أو "ثوري"، فقد يجوز له الاشتراك في البرلمان بهدف تسخير النشاط البرلماني في خدمة النضال الجماهيري، وبهدف التثقيف السياسي للجماهير من خلال صراع الأحزاب في البرلمان والحملات الانتخابية.  لكن ذلك في مجتمع قومي أو طبقي تبلور بشكل طبيعي عبر تواصل تاريخي من الصراعات الطبقية والاجتماعية والسياسية الداخلية في الوطن الواحد، وليس في مجتمع كولونيالي استيطاني زرع من الخارج قسرا، وعلى حساب وجود شعب حي، وبالتالي فإن طبيعة الصراعات الطبقية والاجتماعية والسياسية في هكذا مجتمع الذي هو امتداد مباشر للغرب الاستعماري وجزء عضوي منه، لا علاقة لها بالصراعات الطبقية والاجتماعية والسياسية الطبيعية التي تبلورت عبر مئات السنين من التواصل التاريخي والحضاري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والجغرافي للمجتمع القومي الواحد على أرضه الوطنية.

إن الأحزاب "العربية الإسرائيلية" في الكنيست، لم تجهد نفسها لتقيم بجرأة تجربتها في العمل البرلماني لتحدد مبرر هذا الشكل من "النضال" ومدى فاعليته وجدواه، وتقارنه نقديا بجدوى وفاعلية أشكال النضال الأخرى فتتبناها، إذا لزم الأمر، وتنظمها وتعطيها التعبير الواعي.  كما لم تجر هذه الأحزاب بحثا علميا تفصيليا للوضع الصهيوني الملموس في مرحلة تاريخية معينة من مراحل تطور هذا الوضع، محللة جهاز "الدولة اليهودية" البيروقراطي – العسكري ومدى تطوره، وطبيعة "الطبقات" الصهيونية الحاكمة، وهل من الوارد أصلا أن تتنازل هذه "الطبقات"، "ديمقراطيا"، عن ملكيتها وسلطتها الكولونيالية المدعومة بقوة مسلحة منظمة ومعقدة، دون أن تلجأ إلى العنف الإرهابي المسلح لنسف "البرلمان" و"الانتخابات" و"القوانين"؟

لو سلمنا جدلا بأن المجتمع الصهيوني هو مجتمع قومي وطبقي طبيعي، نجد أنه حتى في هذه الحالة فإن الشعارات التي ترفعها الأحزاب الناشطة بين فلسطينيي 1948، مثل "دولة لكل مواطنيها" أو "المساواة القومية"، هي شعارات غير واقعية ويستحيل تحقيقها بأساليب "النضال البرلماني" في "دولة" هي أقرب إلى القاعدة العسكرية منها إلى الدولة الطبيعية، حيث أنها تأسست على العنف العسكري والإرهاب، وتعد امتدادا عضويا مباشرا للغرب الاستعماري.

ثم إن شعار "دولة لكل مواطنيها" (لحزب التجمع الوطني الديمقراطي) يعني الإقرار بأهم إفرازات الحركة الصهيونية الاستعمارية (الدولة الكولونيالية) واعتبارها مولودا شرعيا، وبالتالي الانصهار الفلسطيني فيها، باعتبارها دولة لجميع قاطنيها الصهاينة والفلسطينيين على قاعدة "المواطنة المتساوية"؛ ما يعني طمس الهوية الوطنية المميزة لفلسطينيي عام 1948 ووجودهم الوطني، وشطب انتمائهم القومي العربي، وبالتالي الاندماج في أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية المعادية لكل ما هو عربي وفلسطيني؛ ناهيك أن "دولة لكل مواطنيها" تعني أن "المواطنة المتساوية" هي فقط لأولئك القاطنين في تلك الدولة بطابعها وبنيتها الكولونيالية العسكاريتارية، ما يترتب على ذلك من شطب جوهر قضية فلسطين المتمثلة في حق العودة لملايين الفلسطينيين اللاجئين الذي اقتلعتهم القوات الصهيونية الغازية واجتثتهم بالقوة الاستعمارية والمجازر الجماعية من قراهم وبلداتهم ومدنهم وأراضيهم ومزارعهم ومنازلهم.

كذلك، فإن شعار "المساواة القومية" (للحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية) يحمل في جوهره، بتعابير أخرى، ذات المعنى لشعار "دولة لكل مواطنيها"، لأن معناه أن الفلسطينيين في الدولة الاستعمارية "متساوون" قوميا مع مستعمريهم في إطار أهم تجسيد للحركة الصهيونية الاستعمارية (أي الدولة) بكامل بنيتها الأمنية العسكريتارية الكولونيالية التي جاءت أصلا لتنفي الوجود الوطني الفلسطيني، وبالتالي فلا مكان فيها لملايين اللاجئين المقتلعين من وطنهم؛ ذلك أن "المساواة القومية" تعني الاعتراف بحق المستعمرين الغزاة في "تقرير مصيرهم" على أرض ليست لهم، بما يتناقض مع التعريفات القانونية الدولية لحق الشعوب في تقرير مصيرها في أوطانها تحديدا، وليس في أوطان شعوب أخرى تم غزوها والاستيلاء عليها بالقوة والعنف الدموي الاستعماري.

وبالإضافة إلى ذلك، تعد "الكنيست" المؤسسة التشريعية التي تشرع القوانين التي تمنح "الشرعية" لعملية قهر واضطهاد شعبنا واقتلاعه من أرضه، ومنها تستمد السلطة التنفيذية (الحكومة) "شرعيتها" في مختلف ممارساتها القمعية الدموية.  أو ليست المجازر البشرية واعتقال الوطنيين والمناضلين وهدم البيوت والتشريد والطرد والتوسع الاستيطاني الزاحف يتم تحت غطاء "القوانين" التي سنتها "الكنيست"، علاوة على ما يسمى قوانين الطوارئ البريطانية المشمولة في إطار هذه القوانين والتي تتستر تحتها قرارات "المحاكم" الصهيونية العسكرية الصورية.  ومن أين تستمد شرعيتها مختلف القوانين العِرْقِيَة التي تتيح مختلف الامتيازات والتسهيلات "للعرق" اليهودي بينما تحجبها عن العرب لمجرد كونهم عربا، مثل قوانين "التأمين الوطني" أو الأقساط والمنح الجامعية وميزانيات المجالس المحلية ومصادرة الأراضي وهدم البيوت وغيرها؟  وهل أثرت صيحات "البرلمانيين" العرب ضد سن هذه القوانين؟      

وبغض النظر عن تصويته لصالح أو ضد قانون معين معاد للعرب، فإن العربي في البرلمان الإسرائيلي، يساهم موضوعيا وفعليا في إعطاء "الشرعية" لممارسات السلطة التنفيذية الإسرائيلية القمعية والقهرية التي تستمد "مشروعيتها" من البرلمان الذي يجلس فيه العربي كعنصر مكون من مكونات السلطة التشريعية.  والمسألة الجوهرية هنا، أن العربي الذي يصل إلى "الكنيست" يكون قد أقحم ذاته في تصادم مع ولائه لشعبه ووطنه، لأنه  ومن على منصة "الكنيست"، وتحت صورة ثيودور هرتسل، ملزم بأداء قسم الولاء "للدولة اليهودية".  فلا يعقل أن يكون للإنسان ولاءان في آن معا:  ولاء للحركة الصهيونية مجسدة "بالدولة اليهودية"، وفي نفس الوقت ولاء لشعبه ووطنه!  بمعنى، من غير المنطقي الانتماء للشيء وضده في آن معا!

يضاف إلى ذلك، أنه رغم تواجد النواب العرب في الكنيست، فقد سنّت الأخيرة عشرات القوانين العنصرية ضد العرب حتى العام 2014؛ علما أن القانون الأساسي يشترط على أي حزب عربي أو غير عربي يرغب في خوض المعركة الانتخابية للكنيست، أن يعترف برنامجه السياسي بأن "إسرائيل" دولة الشعب اليهودي؛ وبالتالي يحظر على أي حزب أن يتبنى برنامجا سياسيا ينص على وجوب تعديل "قانون العودة" الصهيوني أو إلغائه، علما أن هذا القانون يسمح لكل يهودي في العالم "بالهجرة" إلى "إسرائيل" وحيازة الجنسية "الإسرائيلية".  أي أن مجرد وجود أي حزب في الكنيست يعني إقراره بشرعية الاستعمار الصهيوني الاستيطاني لفلسطين.

وبالرغم من ذلك، حتى لو انتمى عضو "الكنيست" إلى حزب صهيوني، وعُيِّن وزيرا في الحكومة الإسرائيلية، كما كان الحال مع غالب مجادلة الذي عين في حينه "وزير الثقافة والرياضة" (حزب العمل)، فتظل المؤسسة الصهيونية تشكك بولائه وإخلاصه "للدولة اليهودية" وتحجب عنه "الحقوق" والامتيازات التي يتمتع بها اليهود.  إذ عندما رشحه حزبه، في أوائل عام 2007، لتولي منصب "وزير العلوم" في حكومة أولمرت، طالبت رموز إسرائيلية (في الحكومة و"الكنيست") "الشاباك" (المخابرات الإسرائيلية) بأن يحقق معه أمنيا، للتأكد من أنه يستطيع الاطلاع على "الأسرار الأمنية" للدولة (في حال تعيينه وزيرا للعلوم)، علما أن القضايا الأمنية السرية، مثل لجنة الطاقة الذرية، لا تتبع وزارة العلوم بل مكتب رئيس الحكومة.  وفي أعقاب هذه الضجة الأمنية – المخابراتية تقرر تعيينه "وزيرا للثقافة والرياضة"! 

ومثال آخر يتعلق بتصويت "الكنيست" عام 2007 على قانون ينص بأن بيع الأراضي التي تسيطر عليها ما يسمى "كيرِن كَييمِت ليسْرائيل" مسموح لليهود فقط. 

مواقف متناقضة وغير مؤثرة

من السهولة بمكان أن يضيع الإنسان المندمج في مؤسسات سياسية تشكل نقيضا لبنية شعبه الوجدانية والثقافية – السياسية – الوطنية، بين التناقضات والممارسات السياسية المتخبطة.  فأولئك الذين كانوا حتى الأمس القريب يدعون العرب إلى مقاطعة انتخابات "الكنيست"، دعوهم عام 1996 إلى التصويت لمرشح رئاسة الحكومة شمعون بيرس الذي اختتم ولايته، عشية انتخابات "الكنيست" في نفس العام، بتنفيذ مجازر بشرية في لبنان أسماها "عناقيد الغضب".  وأثناء حملة انتخابات "الكنيست" لعام 1999، تحول "باراك" بنظر بعض العرب، بين ليلة وضحاها، إلى "رسول سلام" في مواجهة "البعبع" نتنياهو.  وفي نفس العام، روجت وسائل الإعلام العربية لترشيح عزمي بشارة لرئاسة الحكومة الإسرائيلية، ليتنازل لاحقا عن هذا الترشيح لصالح "باراك"، فدعا، هو وأنصاره، العرب للتصويت لصالح "باراك".  وكلنا يذكر كيف انشغلت ماكينة "باراك" العسكرية في عامي 2000 – 2001 باغتيال المناضلين الفلسطينيين وفي تنفيذ مذابح بشرية. 

لقد أدى تساوق الأحزاب "العربية الإسرائيلية" مع البنى المؤسسية والحزبية الصهيونية، من ناحية، وتعمق الهوية الوطنية لدى فلسطينيي 1948 إثر اندلاع انتفاضة الأقصى وهبة أكتوبر 2000، والانجازات والفوائد الهامشية التي جناها الفلسطينيون من العمل البرلماني، من ناحية أخرى- لقد أدى كل ذلك إلى هبوط متواصل في نسبة تصويت الفلسطينيين في انتخابات "الكنيست" التي تلت انتخابات عام 1999، وتحديدا في العامين 2001 و2003،  إلى أن وصلت عام 2006 إلى 56%، وصولا إلى عام 2013 حين وصلت نسبة تصويت الفلسطينيين 53%، علما أن هذه النسبة تضمنت أيضا نسبة مرتفعة من البطاقات البيضاء.

ومن المثير أن الأضواء الإعلامية العربية التي أحاطت ببعض أعضاء "الكنيست" العرب، لم تؤثر إطلاقا في حصيلة الأصوات التي فازوا بها في الانتخابات المتتالية التي جرت منذ عام 1999، ولم تسعفهم في زيادة "قاعدتهم الشعبية" العربية الانتخابية. 

خلاصة واستنتاجات

لا يقتصر الدور السياسي الجماهيري غير الحاسم وغير المؤثر، على الأحزاب "العربية الإسرائيلية" الناشطة في "الكنيست" فقط، بل إن الأطر "التمثيلية" العربية الرسمية، وأبرزها لجنة المتابعة العليا، أصبحت كذلك غير فاعلة ومؤثرة.  ويتضح هذا الأمر من التجاوب الهزيل للناس مع النشاطات "الجماهيرية" التقليدية والروتينية التي دأبت تلك الأحزاب والأطر على تكرارها بشكل دوري.  ففي الذكرى السنوية ليوم الأرض، على سبيل المثال، نشاهد مشاركة هزيلة لا تتجاوز بضعة آلاف في المهرجانات المركزية التي تنظمها لجنة المتابعة بهذه المناسبة.       

يضاف إلى ذلك، أن إعلان لجنة المتابعة والأحزاب العربية "البرلمانية"، بين الفينة والأخرى، عن الإضراب "الشامل والمسؤول والهادئ" (حسب تعبير اللجنة)، وتشكيلها لجان محلية مهمتها"ضبط النظام" في المدن والقرى العربية ومنع أي عمل خارج عن قرارها "ومسيء لكفاحنا المشروع من أجل الأرض والسلام والمساواة" (تعبير اللجنة) يدخل في سياق إثبات مصداقية اللجنة والأحزاب "البرلمانية" لدى السلطة الإسرائيلية وإبراز قدرتها على ضبط الشارع العربي، التزاما بتعهداتها التي طالما قطعتها للسلطة الإسرائيلية بهذا الشأن، كما حصل مرارا عشية أيام الأرض، إذ اعتاد ممثلو لجنة المتابعة على الاجتماع مع قائد الشرطة الإسرائيلية والاتفاق معه على أن تضمن "القيادة العربية المحلية" بأن تكون نشاطات يوم الأرض "في إطار القانون"، وعلى ألا تظهر الشرطة داخل التجمعات السكانية العربية. 

وقبل ذلك، وفي إطار التنسيق مع المؤسسة السياسية - الأمنية الإسرائيلية، برز مرارا دور الأحزاب العربية البرلمانية ولجنة المتابعة في تبريد الغليان الشعبي ومنع سلوكه مسارا يتجاوز إصلاحية لجنة المتابعة.  فغداة مواجهات أكتوبر 2000، على سبيل المثال لا الحصر، اجتمع ممثلو الأخيرة مع قيادات الشرطة والمخابرات الإسرائيلية وما سمي آنذاك "الوزير المختص بشؤون العرب" (متان فلنائي)، ومن ثم اجتمعوا عام 2001 مع شارون، إثر انتخابه رئيسا للحكومة الإسرائيلية.

وفي المقابل، نتساءل:  إلى ماذا تشير انفجارات الشارع الفلسطيني في مناطق 1948 بين الفينة والأخرى، الخارجة عن سيطرة الأطر والأحزاب العربية الرسمية؛ مثل التحرك الشعبي الحاشد ضد مخطط برافر الصهيوني الخاص بمنطقة النقب والذي تهدف الحكومة الإسرائيلية إلى تحويله (عبر الكنيست) إلى قانون يهدف إلى مصادرة أكثر من 800 ألف دونم من أراضي النقب العربية وتهجير أكثر من 70 ألف عربي من أراضيهم ومنازلهم هناك، وتدمير نحو 40 قرية وتجمع سكاني فلسطيني في المنطقة؟ - هذا التحرك الشعبي أدى إلى تعليق إسرائيل، مؤقتا، تنفيذ هذا المخطط، بسبب المظاهرات الحاشدة والمواجهات الشعبية الفلسطينية التي هبت في حيفا والنقب وغيرها؛ علما أن مشاريع صهيونية تحاك في العلن والخفاء لاقتلاع من تبقى من الفلسطينيين في الجليل والمثلث والنقب.  ومن أبرز هذه المشاريع ذلك الذي يهدف إلى نقل الفلسطينيين بمنطقة المثلث، والبالغ عددهم أكثر من 350 ألف نسمة (حوالي ربع فلسطينيي 1948)، إلى مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني، مقابل ضم الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية إلى إسرائيل.  ويذكرنا هذا المخطط بمشروع حزب العمل الذي طرحه غداة التوقيع على اتفاقات أوسلو.  علاوة على مخطط "أفيغدور ليبرمان" - وزير الخارجية في حكومة نتنياهو، وزعيم حزب "إسرائيل بيتنا" الذي يعتبر مكونا أساسيا من مكونات الحكومة- المخطط الذي يدعو إلى طرد العرب بالقوة من إسرائيل إلى الدول العربية.

وإلى ماذا تشير أيضا المواجهات الشعبية لفلسطينيي 1948 أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014، والمواجهات الشعبية التي اندلعت قبل ذلك في أكتوبر 2000 مع قوات القمع الإسرائيلية، ومن قبلها مواجهات نيسان الدامية في شفاعمرو وما تخللها من  هتافات مناصرة لحزب الله وحرق الأعلام الإسرائيلية والأميركية، ومواجهات يوم الأرض في 30 آذار 2000 وما تلاها من صدامات دموية بين الطلاب العرب في جامعتي حيفا والعبرية وقوات الأمن الإسرائيلية، وقبل ذلك في عام 1999، الهبة الشعبية ضد العملاء في باقة الغربية حيث أحرقت بيوتهم وطردوا من البلدة، والهبات الشعبية الواسعة في أم السحالي بشفاعمرو وأرض الروحة في أم الفحم؟
لقد أثبتت هذه المواجهات وغيرها، بأن الأحزاب العربية البرلمانية والأطر الرسمية، فقدت بشكل واضح وإلى حد كبير، قدرتها السابقة على امتصاص الوعي الوطني والقومي وما يسميه البعض "التطرف القومي"، وحرف هذا "التطرف" إلى قناة "النضال من أجل المساواة"، أي النضال من أجل الاندماج في المجتمع الصهيوني، علما بأن قدرة الأحزاب والأطر "العربية الإسرائيلية" على امتصاص الوعي الوطني و"التطرف القومي" وتمييع النضال الوطني للجماهير العربية، يشكل حجر الزاوية في نهجها السياسي.

كما أثبتت تلك المواجهات، بأن تأجيج حدة الصراع بين العرب في الجليل والمثلث والنقب وبين المؤسسة الإسرائيلية، وتعميق المشاعر الوطنية، يشكلان أخطر وأسوأ ظاهرة يمكن أن تواجهها الأحزاب البرلمانية الفاعلة داخل الجماهير العربية، لأن تأجيج الصراع يعمل ضد مقولاتها وتنظيراتها حول "التعايش" و"المساواة القومية" و"دولة لكل مواطنيها" وبأن العرب في "الدولة اليهودية" جزء أساسي من المجتمع الإسرائيلي و"قواه الديمقراطية"؛ ما يعني في المحصلة، فقدان هذه الأحزاب لمصداقيتها ومبرر وجودها القائم على أساس هذه الأطروحات.

يمكننا أن نستنتج مما ورد، بأن جدوى وفاعلية النشاط السياسي المقيد في إطار "الشرعية" البرلمانية قد استنفذا.  وبالتالي، لا بد من ابتكار أساليب نضالية وطنية بديلة وجذرية، تستند إلى رؤية وطنية علمية مدروسة لحاضر ومستقبل الشعب الفلسطيني في مناطق 1948، بحيث تشكل هذه الرؤية مرشدا للممارسة النضالية من خلال جبهة وطنية عريضة بديلة.  والمقصود بالإطار الجبهوي (الوحدوي) البديل، ليس قميص عثمان، بمعنى شعار شكلي زائف تستخدمه أحزاب إسرائيلية تتلفع بشتى الأسماء المضللة، لتمرير عملية دمج العرب في المؤسسة الإسرائيلية وصهينة انتمائهم.  بل المقصود، في إطار الوحدة الوطنية النضالية، الارتقاء بأساليب النضال والعمل السياسي الجماهيري، وتطوير أدوات كفاحية شعبية جديدة، مثل تشكيل لجان شعبية وطنية تقوم بدورها في التوعية والتعبئة، على مستوى الأحياء والمناطق والقرى والمدن العربية، وتكون هذه اللجان في طليعة المعارك الشعبية.

إسرائيل لم تعد ببنيتها العسكريتارية الاستعمارية الاستيطانية ترعب أولئك الذين يمتلكون عزة نفس وكرامة وطنية؛ وبخاصة أمام السقوط المدوي لهيبة جيشها وأجهزة استخباراتها، إثر تعرضهم لهزائم عسكرية وأمنية خطيرة في غزة ولبنان، وانهيار الفرضيات الاستراتيجية والمفاهيم الحربية  الإسرائيلية.  بل لم يتجرأ الإسرائيليون على الرد على العملية الفدائية التي أذلت الجيش الإسرائيلي في مزارع شبعا مؤخرا، وبات كابوس الهزائم العسكرية في أي عدوان إسرائيلي مستقبلي يؤرق القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية.    

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير