اليسار الفلسطيني:انعدام التمايز واختلاط الخطاب

04.03.2015 03:00 PM

وطن: كتب  وسام رفيدي

منذ انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، كان الاتجاه الغالب لدى فصائل اليسار، العربي تحديداً، وبعض الفصائل الفلسطينية، إدارة الظهر للفكر الماركسي كهوية فكرية لتلك الفصائل، وإلحاق ذلك بتعمية الهوية الطبقية لتلك الفصائل، حتى باتت ( أي الفصائل) فاقدة للهوية، فاختلط الليبرالي باليساري، اختلاطاً ظهر أحياناً في استخدام المصطلحات الفضفاضة، وأحياناً الليبرالية بامتياز، من فصائل عُرفت تاريخياً بمصطلحها الماركسي الطبقي بامتياز.

لذلك، كان من أحد نتائج الانتخابات الفلسطينية الأخيرة، أن تأكد أن عملية التحول الفكري والطبقي سابقة الذكر لم تنقذ اليسار من تراجعه، تراجع وصل لدى البعض حد الانمحاء عن الساحة تماماً. ولما كانت المقالة لا تتناول أسباب التراجع، لكن حسبها أن تشير أن المراجعة الفكرية والطبقية تمت ولا زالت في زمن تشهد فيه الساحة الدولية، السياسية والأكاديمية، تحويم (شبح ماركس)، تحويماً يمكن تلمسه في ظاهرتين: تنامي اليسار الاشتراكي في أمريكا اللاتينية المستند للخطاب الماركسي المتجدد من ناحية، وانتعاش مكانة التحليل الماركسي على كافة تنويعاته ومدارسه في الدراسات الاجتماعية والاقتصادية في كبريات الجامعات في العالم، حتى بات من المفروغ منه أنه لا يمكن تجاوز هذا التحليل ومنظومة مفاهيمه حتى لمن لم يعلن نفسه ماركسياً، هذا من الناحية الثانية. ومع هذا الانتعاش السياسي والأكاديمي، يلاحظ ترسخ ظاهرة التعددية في الفكر الماركسي وانفتاحه على اجتهادات عديدية داخله، فالتجربة السياسية المباشرة لقوى اليسار، وغياب  (المرجعية الفكرية ذات الطابع الديني) في الاتحاد السوفيتي أطلق العنان لتنامي هذه الظاهرة.
ومع ذلك ظل اليسار الفلسطيني بعيداً عن تلك العملية. وهو بذلك يسلك طرقاً عديدة: إما يتعامل مع فكره المثبت ببرنامجه بخجل من اقترف ذنب تثبيت الفكر في البرنامج فيخجل منه أمام الجماهير، وإما أضحت المرجعية الفكرية محض نصٍ لا ينعكس في اشتقاق البرامج، وإما أخيراً وجد نفسه، وقد شطب مصطلحه الماركسي اليساري من خطابه، يلجأ لترسانة المصطلح الليبرالي، فيظهر الخلط في الهوية التي أشرنا إليها سابقاً. وفي جميع الحالات، قٌبر التثقيف الفكري لدى قاعدة اليسار، ولم تعد تملك إلا اجترار صيغ عامة وممجوجة من ترسانة الليبرالية الجديدة دون أن تدري أنها إنما بذلك تهجر موقعها اليساري.
وكنتيجة لكل ذلك كان من اللافت أن بعض مفاصل البرامج الانتخابية لبعض المصنفين على قوى اليسار( نقول البعض حتى لا نخلط الحابل بالنابل)، لا تكاد تميز بينها وبين برامج المنظمات غير حكومية. والمسألة هنا لا تعود لهيمنة اليساريين السابقين على رأس المنظمات غير الحكومية النشطة، فهذا تبسيط لا يحتمله التحليل، بل لما سبق ذكره: انعدام الهوية الفكرية والطبقية لليسار...والنتيجة المنطقية لهذه الحالة، الاندراج في نسق ثقافي مهيمن على الخطاب غير الحكومي، نعني ثقافة الليبرالية الجديدة. إن أحد وجوه الإشكالية هنا لا تكمن في هذا الخلط فحسب، بل بالخلط بين الخطابين، ذلك الموجه للرأي العام الخارجي ووذاك الموجه لجماهير الشعب.
وحتى على مستوى الخطاب اليومي، الشارعي والصحافي، بلغ الخلط درجة وضعت فيه الجبهتين الشعبية والديموقراطية، وهما لا تزالان تثبتان الماركسية في برنامجيهما، جنباً لجنب (في ذات الخندق) مع كتلتي سلام فياض ومصطفى البرغوثي، والأول، منهجياً، ليبرالي أمريكي بامتياز، فيما الثاني يعلن وسطيته( لا يسار لا يمين) في توجه التفافي على حقيقة ليبراليته الصريحة، وهو ( طبعاً كحركة لا كشخص) يصلح نموذجاً لتحليل توجه الرأسمال العالمي في خلق شرائح ليبرالية من الفئات الوسطى على النطاق العالمي، تحمل مشروع وثقافة الليبرالية الجديدة، وهو على أية حال توجه نشطت المراكز الرأسمالية برعايته وتغذيته منذ عقود ولا زالت، يشمل قارات العالم لا فلسطين فحسب.
إن انعدام تمايز اليسار كان ( بتقديري) مقتله التاريخي، يتناغم معه ما يمكن وصفه، ولو بعبارة غير نظرية، بجبن اليسار على المستوى الفكري، وتحديداً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، جبن لم يظهر فقط في خجله من هويته، بل طال، حتى دوره التنويري في مواجهة الأصولية المتنامية والثقافة الدينية. ولولا حفنة من الكتابات الجريئة ( تتزايد باستمرار) والتي تنقد هذه الثقافة، لغاب اليسار نهائياً عن المعركة الثقافية الأهم بين الفكر العلمي والثقافة الدينية.
واستتباعاً، فإن تحديد تخوم قوى اليسار من جديد باتت مسألة ملحة. لا يدعي كاتب المقال أن من شأنه القيان بهذا الدور فتلك مسئولية قوى اليسار إن رغبت حقاً باستعادة مكانتها التاريخية كقوى ممثلة لمشروع وطني كفاحي، ومشروع طبقي ثوري، تستند لمرجعية فكرية ماركسية. حسب هذا المقال الإشارة إلى المنطلقات التالية الواجبة لهذا التحديد:
اليسار يستند لفكر ثوري بالضرورة هو الفكر الماركسي حصراً، على تنوع وتعدد مدارسه واتجاهاته، فكر يجمع بين  التمترس خلف رسالته الطبقية الصريحة ( سلطة الكادحين والاشتراكية والعداء للرأسمالية)، وبين انفتاحه وتجدده على آليات وأدوات عمل واشتقاقات نظرية جديدة تخضع للتجربة الملموسة ولا تُقدَّس.
اليسار صاحب موقف جذري من المشروع الصهيوني الإقتلاعي في فلسطين، وبقدر ما يناضل لتحقيق برنامج الإجماع الوطني المرحلي، بقدر ما لا يدير ظهره لحق الشعب في وطنه فلسطين وممارسة سيادته عليها، ضمن منظور دولة ديموقراطية اشتراكية موحدة في فلسطين.
اليسار يلعب دوراً تنويرياً صريحاً في مواجهة الثقافة السائدة، وفي الجوهر منها ثقافة العشائرية والإقصاء والترهيب الديني، وفي المقابل لا ينطلق في ذلك النقد، وإن تقاطع، من منطلقات الليبرالية الجديدة التي تدير الظهر للخطاب الديني الجهادي تحت الشعارات الزائفة لعقلانيتها وحداثيتها.
اليسار وإن نشط، ويجب أن ينشط، داخل أية حركة الاجتماعية، وهي رهان أسقتطه الانتخابات الأخيرة، غير أن رهانه الأول تنظيمه اليساري المبني على أسس لينينية، أسس اختبرتها عقود من النضال اليساري العالمي الدامي في وجه محاولات تصفية تنظيمات اليسار. تنظيم يتقن الجمع بين تداخل المهام الوطنية والديموقراطية، وبالاستناد لها، وليس على أشكال مقدسة، يعيد بناء التنظيم باستمرار.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير