النيندرتال الداعشي الجديد

04.03.2015 03:03 PM

وطن:  كتب حسن خضر

 

أنفقتُ الأسبوع الماضي في قراءة ثانية لكتاب "ما وراء الإيمان" لنايبول، وأولى لكتاب يوفال هراري "الإنسان العاقل". صدر الأوّل في العام 1999، والثاني في أواخر 2014. كنتُ، دائماً، معجباً بنايبول. "ما وراء الإيمان" يمثل الجزء الثاني لعمل سبقه بعنوان "بين المؤمنين" صدر في العام 1982.
لا يجمع شيء بين كتابي نايبول وهراري، فهما يعالجان موضوعين مختلفين. ومع ذلك، يمكن العثور فيهما، وبينهما، على مشتركات كثيرة. فكلاهما لن يُترجم إلى العربية، بالتأكيد. نايبول يحظى بسمعة سيئة في العالم العربي لأنه "ينتقد الإسلام"، أما هراري فهو إسرائيلي، ولن يرتاح العرب لقراءة كتاب عن تاريخ الجنس البشري كتبه إسرائيلي.
مضمون الكتابين، بصرف النظر عن هوية وسمعة الكاتبين، يثير مشاكل يفضّل الناشرون والمترجمون، وحتى بعض القرّاء العرب، الابتعاد عنها. الفكرة المركزية في كتاب الأوّل، الذي يصف وقائع رحلة إلى باكستان، وأفغانستان، وماليزيا، وإيران في أواسط تسعينيات القرن الماضي، أن مواطني البلدان غير العربية التي طالها الفتح الإسلامي، قطعوا مع ماضيهم الثقافي والتاريخي السابق، ليصبح التماهي مع جزيرة العرب، ولغتها، وميراثها الثقافي والتاريخي، غايتهم ومبرر هوياتهم الجديدة.
أما الفكرة المركزية في كتاب الثاني فتتمثل في حقيقة أن الإنسان العاقل ليس سوى فرع في سلالة عاشت ملايين السنين. ولا جديد في هذا بين علماء في حقول مثل الكيمياء والأحياء والفيزياء والآثار. ثمة خلافات بشأن نجاحنا في البقاء: هل تمكنّا من القضاء على إنسان النيندرتال، مثلاً، في حروب إبادة، أم سقط الأخير في سباق النشوء والارتقاء.
تنتمي هذه النظريات إلى حقل المعرفة العلمية، وتُدرّس في المدارس والجامعات. ونتوقّع، بالتأكيد، إجابات إشكالية إذا كان السؤال: هل أصبح الإنسان أكثر سعادة وطمأنينة بفضل المعرفة العلمية؟ ومن بين المشككين هراري نفسه، الذي يعتقد أن الإنسان في أزمنة ما قبل التاريخ، في مرحلة الصيد وجمع الثمار، كان أكثر سعادة وطمأنينة.
ومع ذلك، لا يجادل أحد في حقيقة أن الثورة العلمية هي التي اكتشفت وأنجبت المحرّك البخاري، والكهربائي، والنووي، والطائرة، والأقمار الاصطناعية، والسينما، والفضائيات، والكومبيوتر، والصاروخ، والسيارة، والغواصة، والنظارات الطبيّة، والهاتف، والإنترنت..الخ.
فلنقل إن كل ما يتصل، في عالم اليوم، بالعين، والذراع، والقدم، والدماغ مدين للمعرفة العلمية. فما يجمع بين هذه الأشياء يتمثل في إشكاليات المدى والقدرة. كل تقدّم للإنسان على الأرض ترجمة لتوسيع المدى، ومضاعفة القدرة.
العين ترى، الآن، ما يحدث في قارة أخرى لحظة وقوعه. والذراع، التي كانت تقذف الرمح عشرات الأمتار، ينوب عنها صاروخ عابر للقارات. والقدم التي تمشي كيلومترات محدودة في اليوم، تنوب عنها الطائرة، التي "تمشي" على جناح الريح من قارة إلى أخرى في ساعات، والدماغ الذي لا يقوم بملايين العمليات في وقت واحد ينوب عنه الكومبيوتر.
ومع ذلك، ثمة من يُنكر حقائق المعرفة العلمية. قبل أسابيع قليلة طلع علينا داعية سعودي بالصوت والصورة، قائلاً إن الأرض ثابتة لا تدور، ودليله فتوى ابن باز. عبد الرحمن الراشد، السعودي، عقّب على كلام المذكور بالقول إنه "أشعرنا بالخجل وأضحك الناس علينا". في الشريط المصوّر يلوح الداعية باحتقار كلما ذكر من أسماهم "بالعقلانيين".
لا بأس. يوجد من أمثال هذا في بلدان مختلفة. ولكن، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالعالمين العربي والإسلامي، ثمة ما يبرر أخذهم على محمل الجد، فهؤلاء هم الآباء الروحيون للتكفير، ومنتجو الأيديولوجيا، التي أنجبت التدعيش والدواعش، السوفت كوبي والهاردوير، ونظام التشغيل. معقول؟؟
نعم. معقول. بدليل مكتبة الموصل التي أحرقها الدواعش، ومتحف الموصل، الذي حطّموا "أصنامه"، وعشرات الكنائس، والمقامات، والأضرحة، التي دُمّرت في كل مكان طالته أيديهم، من يذكر تدمير تماثيل بوذا في أفغانستان، بمدافع الهاون، على يد الطالبان؟
فلنعد إلى "تاريخ الجنس البشري"، يتداول العلماء فرضيات مختلفة بشأن مبررات الثورة الإدراكية، التي مكّنت الإنسان من اختراع اللغة، والزراعة، وكلاهما عتبة لولوج أزمنة الثقافة والتاريخ. ثمة فرضيات مختلفة سواء تعلّق الأمر بتطوّر وظيفة اليد، أو وفرة الطعام والبروتين بشكل خاص. المهم أن هراري يطرح فرضية مفادها أننا لا نعرف مصدر الثورة الإدراكية، إلا أن انفصال الإنسان عن أشقاء وشقيقات كانوا يشبهونه في وظائف بيولوجية، وخصائص جسمانية كثيرة، أصبح ممكناً نتيجة قدرته على تخيّل أشياء غير موجودة في الواقع.
الفرضية طريفة، ولعل أهم ما فيها أنها تستدعي التفكير في حقيقة حضور المجاز والاستعارة والكناية في كل لغات بني البشر، المكتوبة، والشفوية، ما بقي منها وما انقرض. هذه التقنيات (والألعاب) اللغوية، ودلالاتها التصويرية، والرمزية، وبلاغتها السياسية والاجتماعية، هي أم الثقافة والتاريخ، فكلاهما إلى جانب كونه ذاكرة لا تقبل التحقيق (خارج النص واللغة) وبقايا أركيولوجية غير قابلة لامتلاك المعنى (دون تأويل)، يمثل الحد الفاصل بين ما قبل وما بعد الثقافة والتاريخ.
ولنعد، مجدداً، إلى نايبول، والقطع والقطيعة مع الماضي الثقافي والتاريخي. ما يستدعي التفكير أن الفتح الوهابي في القرن العشرين، معطوفاً على أيديولوجيا إخوانية حكمت على القرن نفسه "بالجاهلية"، ألغى الفرق بين الداعشي العربي وغير العربي، وأصاب العالم بالحمى الألفية. ولعل في هذا ما يفسّر كراهية الثقافة والتاريخ، فيهما اعتراف بحقيقة أن الإنسان نجح في امتحان البقاء راكضاً وراء خيال يمشي ويصعد ويهبط في كل اتجاه، بينما النيندرتال الداعشي لا يملك سوى كفاءة الركض وراء ماض ينبغي نسخه حرفياً لأنه لا يقوى على تأويله أو تخيّله، حتى وان استدعى الأمر تدمير الحاضر نفسه. وهذا ما يحدث الآن.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير