النمو الطفيلي في المداخيل وتعميق حالة اللاتنمية

18.04.2015 09:08 AM

وطن- جورج كرزم: شكل الهبوط الكبير في حجم العمالة الفلسطينية في الخارج، بشكل عام، وفي إسرائيل، بشكل خاص، في السنوات الأخيرة، ولا زال يشكل، سببا رئيسيا في تدهور الاقتصاد الفلسطيني الملحق بالاقتصاد الإسرائيلي، لذا، في ظل البنية الاستهلاكية للاقتصاد الفلسطيني، بات من المتعذر تغطية العجز الكبير في ميزاني التجارة والمدفوعات الفلسطينيين بالاعتماد فقط على المداخيل الداخلية الذاتية، علما أن الواردات الفلسطينية من وعبر اسرائيل أكبر من الصادرات الفلسطينية للأخيرة بأكثر من 8 مرات. لهذا، فإن التغطية الجزئية الممكنة للعجز تكون عبر التدفقات والتحويلات المالية الخارجية (التمويل الأجنبي) وليس التراكم الرأسمالي الداخلي في الضفة والقطاع، وهذا معناه، في المحصلة، مزيدا من "النمو" الاقتصادي الزائف والتضخم المالي المصطنع والمزمن (الناتج أيضا بسبب التضخم المالي الاسرائيلي) والذي لا مجال لمحاربته سوى بانتزاعنا السيادة السياسية، وبتقليص الفجوة بين الاستهلاك والإنتاج لصالح الأخير، وبالنتيجة حجز الفائض الرأسمالي داخل الضفة والقطاع وإعادة استثماره استثمارا منتجا.  

ويتسبب العجز المالي والتجاري في تدهور حجم الاستثمار الفلسطيني في المجالات الانتاجية التي تحجز الفائض في داخل المناطق الفلسطينية وتراكمه باتجاه إعادة استثماره الانتاجي داخلياً، فضلا عن تحول معظم الادخارات الفلسطينية والتحويلات الخارجية إلى القطاعات الاستهلاكية.  ويتجسد هذا الأمر في تبديد كبير للمدخرات الوطنية في شراء سلع الوجاهة وتكديسها، فضلا عن الفجوة الضخمة بين الانتاج والاستهلاك لصالح الأخير (أي الاستهلاك المحلي والنفقات الحكومية غير المنتجة وغيرها).          

وبالإضافة لذلك، فإن ضعف قدرة القطاعات الانتاجية (الزراعة والصناعة) على امتصاص قوة العمل المحلية، يؤدي الى تضخم القطاعات الخدماتية، بما في ذلك تضخيم السلطة لجهاز الخدمات البيروقراطي الذي يلحق بالسلطة قوة العمل المنتفعة من هذا الجهاز.  لهذا، وبدلا من التمويل الفعلي للتنمية، فإن جزءا كبيرا من "المعونات" المقدمة للسلطة ينفق على تمويل النفقات الجارية (وغالبيتها رواتب) للجهاز البيروقراطي والإداري الحكومي المتضخم، فضلا عن تغطية بعض العجز الجاري في الموازنة.  ناهيك عن الشركات الوهمية والاحتكارية التي أنشئت بأموال عامة، لكن ريعها يغيب عن الموازنة وبالتالي الميزانية الحكومية.  دون الحديث عن عمولات الوسطاء (شبه الرسميين) في المناقصات الكبيرة، والتي (أي العمولات) تمول الصناديق والأجهزة المتنوعة.  وهنا، فان المكلّف، وغالبا دون إدراكه، يمول عملية تثبيت الآليات الاقتصادية المنحرفة والشاذة. 

علاوة على ذلك، هناك مبالغ مالية كبيرة توظف أو تستثمر في الضفة والقطاع وتولد أرباحا عالية، دون استثمار أو استخدام مباشر لأي من عناصر الانتاج (العمل أو الأرض أو الرأسمال الانتاجي)، ويعتبر هذا، بخلاف النشاط الاقتصادي الطبيعي والشرعي، نموا طفيليا في المداخيل المالية المحلية التي تعتبر شكلا من أشكال الرأسمال المالي المضارب الذي يولد مداخيل ضخمة تشكل استنزافا طفيليا للاقتصاد الانتاجي الحقيقي، وهذه التدفقات المالية المضاربة أو الطفيلية لا يعاد إدخالها الى دائرة الانتاج.
من الواضح أن تدفق أموال "المانحين" يصب أساسا باتجاه تدعيم وترسيخ البنية الاستهلاكية والخدماتية للاقتصاد الفلسطيني، وبالتالي تعميق حالة اللاتنمية، حيث أن الجدوى التنموية الحقيقية للمساعدات والاستثمارات الخارجية تقاس بمدى تنمية وتطوير القطاعات الإنتاجية، وتحديدا الزراعة والصناعة، وبالتالي ارتباط تنمية وتطوير هذه القطاعات بمدى تثبيت وتعزيز حالة السيادة على الغذاء الفلسطيني. 

المجتمع الفلسطيني ينتج أقل بكثير مما يستهلك

إن أكثر ما يتهدد الاقتصاد الفلسطيني هو تعميق بنيته الاستهلاكية والطفيلية؛ فمجتمعنا الفلسطيني ينتج حاليا أقل بكثير مما يستهلك، ولا توجد مؤشرات فعلية تدل على أن الفجوة الكبيرة بين الإنتاج والاستهلاك آخذة في التقلص.  وتغطي التدفقات والتحويلات المالية الخارجية إلى حد كبير هذه الفجوة والعجز التجاري الحاصل وليس التراكم الرأسمالي الداخلي في الضفة والقطاع.  وهذا الأمر يبدو جليا بالنظر إلى تدني حصة الناتج المحلي الفلسطيني الإجمالي قياسا إلى الناتج القومي الفلسطيني الإجمالي.  كما يتضح ذلك من مجرد نظرة سريعة الى السلع الغذائية، "الطازجة" والمصنعة، المعروضة في سوقنا المحلي، حيث تبرز بشكل صارخ الحصة المتواضعة جدا للسلع "الفلسطينية" المحلية أو بشكل أدق حصة السلع الوطنية (أي التي تم انتاجها من موارد وخامات محلية) من إجمالي أنواع وأصناف السلع الغذائية المعروضة في سوقنا المحلي.  ناهيك عن أن كميات كبيرة ومتنوعة من السلع "المحلية" ليست أكثر من سلع إسرائيلية تسوق في الضفة والقطاع بغلاف فلسطيني (ملصقات فلسطينية).   

كما أن الزعم القائل بقدرة منتوجاتنا المحلية على "منافسة" المنتوجات الأميركية والأوروبية في السوقين المحلي والعالمي ليس أكثر من مجرد وهم.  خاصة وأن "تحرير التجارة"، فلسطينيا، لا يستند الى التكافؤ التبادلي والتنافسي، بل يأتي تجاوبا مع مطالب أميركية وأوروبية، تماما كمطلب الاتحاد الأوروبي الذي يشترط على دول "المتوسط" التي تطالب بمساعدات مالية واقتصادية "تحرير اقتصادها وفتح أسواقها أمام المنتوجات الأوروبية عبر إلغاء تدابير الحماية".  ناهيك عن التجاوب مع مطلب واشنطن المتمثل بفتح أسواق الضفة والقطاع وإلغاء كافة القيود أمام السلع الأميركية.  وهذا سيفرض تشريع قوانين فلسطينية لا تتجاوب مع الاحتياجات والمصالح الفلسطينية الوطنية الحقيقية، بل تتجاوب أساسا مع مطالب أطراف العولمة المهيمنة، ناهيك عن مطالب اتفاق باريس الاقتصادي الموقع مع الاحتلال الإسرائيلي في العام 1994.  وفي النهاية، سيتم تثبيت وتعميق الاحتكار الأجنبي والإسرائيلي للسوق الفلسطينية خاصة فيما يتصل بتسويق المنتجات الزراعية والغذائية، ما يعني اجتثاث المزارعين الفلسطينيين من السوق المحلي ومن أراضيهم، وإطلاق طلقة الرحمة على ما تبقى من الإنتاج الزراعي الفلسطيني وسحق المزارعين ومنتجي الغذاء الفلسطينيين بعد أن عمل الاحتلال بشكل منهجي طيلة عقود على مصادرة ونهب أخصب الأراضي الزراعية.  كما أن انهيار الإنتاج الزراعي المحلي سيجعل الضفة والقطاع تابعين تبعية مطلقة للأسعار الاحتكارية المتقلبة، وسيضعهما تحت رحمة استيراد الغذاء من الخارج.

خلاصة واستنتاجات

إن استمرار التدفق المالي الخارجي والمضارب، الذي يتصف معظمه بطابع سياسي واضح  وينفق على الخدمات والاستهلاك، يجعل الواقع الاقتصادي الحالي في الضفة والقطاع مجرد مرحلة انتقالية من نمط إنتاج كولونيالي – استيطاني صاغه الاحتلال عبر تحويلنا الى مستوردين للسلع التي نستهلكها ومصدرين لقوة العمل، إلى نمط اقتصاد التسول الذي يلفع بجرعات مالية متواصلة من الخارج تربط بها مزيدا من الناس غير المنتجين، وفي المحصلة، إعادة إنتاج البطالة والفقر.
المطلوب هو التخطيط العلمي لبناء اقتصاد منتج يخدم الشرائح الشعبية والفقيرة والعاطلة عن العمل (وهي تشكل غالبية السكان) ويمكنها من استخدام الأرض ووسائل الانتاج الأخرى والثروات الاجتماعية لصالحها. الأمر الذي يتطلب هدم المؤسسات والبنى الاقتصادية والأمنية والسياسية التي خلقها الاحتلال الذي يواصل من خلالها التحكم في مواردنا وشؤوننا، وإعادة بنائها على أسس جديدة. كما يتطلب عدم الركون إلى "وعود" و"إنسانية" الدول المانحة.         

أخيرا وليس آخرا، يبقى الحديث عن تحقيق مفهومي المساواة والعدالة الاجتماعيين والاقتصاديين تحت نير الاحتلال، مجرد ثرثرة، ان لم يصار فعليا الى العمل الاجتماعي -الاقتصادي الشعبي لتقليص كبير (إن لم يكن إزالة) الفوارق الضخمة في المداخيل والثروات والفرص والسلطات. الأمر الذي يتطلب وقف الملاحقات الضريبية للفقراء والتي، غالبا، لا تمس الأغنياء، علما بأن نظام الضرائب الحالي يفرض اقتطاعات متساوية من الضرائب المباشرة على المداخيل، بغض النظر عما إذا كانت هذه المداخيل ناتجة مباشرة عن نشاطات منتجة أم عن ريوع غير منتجة وخفية أحيانا.  بمعنى لا بد من سياسات ضرائبية تحمل أصحاب مستويات الانفاق الاستهلاكي الشخصي المرتفع العبء الضرائبي الأكبر.  إذ أن المواطن حاليا، وغالبا دون إدراكه، يمول عملية تثبيت وترسيخ الآليات الاقتصادية المنحرفة والشاذة.

ان سيطرة الاحتلال الذي يعمل على فرض ارادته بالقوة علينا، واستمرار الخلل البنيوي العميق في العلاقة الاقتصادية الاسرائيلية-الفلسطينية والناتج أساسا من انعدام التكافؤ السيادي والاقتصادي والتنموي بين الطرفين، سوف يبقيان العائق الأساسي أمام أية تنمية حقيقية وبالتالي استحالة القيام بعملية تنموية تؤدي إلى تغيير جذري للواقع الاقتصادي-الاجتماعي الراهن. لهذا فان ما نحتاجه هو بداية عملية تغيير داخلية تؤدي بالمحصلة الى تغيير المعايير الراهنة، وهو ما يتطلب أولا هدم البنى التي أوجدها الاحتلال الذي يتحكم من خلالها في مواردنا الطبيعية والمائية والمادية والاقتصادية والاجتماعية، ويعيث الفساد  بأشكاله؛ ثم تأتي مرحلة إنشاء مؤسسات وبنى مغايرة تكون أساساً لتوجه إنتاجي مقاوم ومعتمد على الذات.

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير