الطريق إلى "أمل دنقل"

21.05.2015 06:14 PM

وطن - وكالات: تحكي زوجة الشاعر الراحل عن بدايات التعرف على أمل دنقل، في كتاب خصصته لهذا الغرض، بعنوان "الجنوبي"، تنشر "البديل" منه للقراء، في ذكرى وفاة ساكن الغرفة 8، كما تعيد نشر مقال جمال الغيطاني، الذي نشره بعنوان"عبلة وأمل"، بجريدة أخبار الأدب، سرد فيه أول المرات التي قابلهما معًا..

عبلة الرويني والطريق إلى "أمل"

كان مقهى ريش هو بداية الطريق إلى أمل دنقل، إنه الملامح والمكان والهوية الذي بدأت منه رحلة البحث عن شاعر، لا أعرف ملامح وجهه.

الزمان أكتوبر 1975.

عندما فكرت -خلال فترة التدريب الأولي في جريدة الأخبار، وقبل أن يتم تعييني- في كسر الإشارات الحمراء والخضراء والصفراء، وإجراء حوار مع الشاعر أمل دنقل. قال لي أحد المحررين السياسيين في جريدة أخبار اليوم: ستجدين صعوبة في نشر اللقاء، فأمل شاعر يساري، لن تسمح الجريدة بنشر حوار معه، لكن ربما يمكنهم نشره في طبعة أخبار اليوم العربية، فمن الممكن تصدير أمل دنقل عربيًا، لكنه غير مسموح باستهلاكه داخل مصر!!

أصابتني كلماته بصاعقة فجرت مساحات التحدي داخلي، وأطلقت لأفكار مثالية أبعد من سياسة الجريدة عنان الحركة، فلماذا تأخذ الجريدة موقفًا من شاعر؟ بل كيف تأخذ الجريدة موقفًا من عقل الصحفي؟ سأجري الحوار!

ضحك ساخرًا: إذن حذار منه، ستجدينه سليط اللسان، شديد القبح مثل كل الشيوعيين تشمين رائحتهم عن بعد.

رحت أبحث عن مقهى ريش في الزمان الذي أعرفه "صباحًا"، مررت أمام مقاهي طلعت حرب أسأل مقهى مقهى حتى وصلت، لم يكن ريش يختلف كثيرًا من حيث الشكل عن باقي مقاهي القاهرة، بل إن شكله الخارجي لم ينم عن كونه ملتقى الأدباء، أو حتى عنوانًا أنيقًا لشاعر.

أسأل الجرسون: الشاعر أمل دنقل؟

غير موجود

ترددت أكثر من مرة على المقهى، وفي كل مرة كان الزمان صباحًا، وفي كل مرة لا أجد أمل دنقل.

رفق بي أحد الجرسونات: الأستاذ أمل لا يأتي إلا في المساء.

ولأني أسكن منطقة مصر الجديدة البعيدة، فقد كان من الصعب على العودة مرة أخرى في المساء، فتركت رسالة صغيرة: الأستاذ أمل دنقل، يبدو أن العثور عليك مستحيل، يسعدني الاتصال بي في جريدة الأخبار، ويشرفني أكثر حضورك.

اكتفى الشاعر بإسعادي، متصلًا صباحًا بالجريدة ومحددًا موعدًا للقاء، الثامنة مساء في دار الأدباء بشارع القصر العيني.

فيما بعد أدركت أن اتصال أمل بي وفي جريدة الأخبار صباحًا يعتبر حدثًا في حياته من الصعب تكراره، ولعلها رقة سطور الرسالة التي تركتها –كما قال لي- ولعله القدر الذي يرسم صورة مستقبل قادم، ويحتم اللقاء بهذا المحارب الفرعوني القديم.

في الثامنة تماًما كنت في دار الأدباء، المكان شديد الازدحام بجمهور الأمسية الأدبية، فاليوم الأربعاء، موعد ندوة الدار الأسبوعية.

صارت الساعة الثامنة والنصف وأنا لا أعرف ملامح وجه أمل، أسأل فيقال لي لم يأت بعد، بعد قليل همس شاب: الأستاذ أمل هو ذلك الجالس في نهاية الصفوف، اقتربت من الصف الأخير حيث يجلس شخصان: الأستاذ أمل دنقل؟

تفحصني أحدهما بهدوء ثم قال: سعادتي! لم يستفزني الرد، بقدر ما أعجبتني تلك المحاولة للغرور، فابتسمت، طلب لي فنجانًا من القهوة، ورحت أحدثه عن سبب اللقاء ورغبتي في إجراء حوار معه، فوافق بسهولة عكس ما قيل لي.

قلت: كنت أظنك أكبر قليلًا!

ضحك بصوت مرتفع: يبدو أن عندك عقدة الكترا!

ولم استفز أيضًا بل ابتسمت: اطمئن لن أحبك!

كان الانطباع الأول الذي كونته سريعًا، أن هذا الشخص مختلف عن الآخرين، يتكلم لغة أخرى، يسلك سلوكًا آخر، بل ويحس أحاسيس أخرى منذ اللحظة الأولى سقطت كل المسافات والإدعاءات والأقنعة، وبدا لي وجه صديق أعرفه من زمن.

جمال الغيطاني: عبلة وأمل

لا يمكنني تحديد اليوم، أو الشهر، ولا حتى السنة التي رأيت فيها أمل بصحبة عبلة، لكنني أذكر كل التفاصيل. كان ذلك في شارع سليمان باشا. كنت قادما في اتجاه الميدان، وكانا قادمين منه. دائما كنت التقي أمل عند النواصي وفي الميادين، وإذا تحدد المكان فهو المقهى. خاصة ريش، أو الفيشاوي ليلا. التي كان يقصدها في ساعات الفجر الأولي ليمسك الطبعات الأولي من الصحف ويبادر بحل الكلمات المتقاطعة في ثوان معدودات وبقدرة استثنائية.

إنها المرة الأولي التي التقي فيها أمل بصحبة شابة حسناء. أنيقة. جميلة، وبدا واضحا أن ثمة خصوصية، وكعادتنا نحن أبناء الجنوب عندما نقابل الأصدقاء بصحبة زوجاتهم أو شقيقاتهم أو أمهاتهم، فإننا لا نحدق في الإناث، بل نصافح أو نحيي ونحيد بالنظر. عرفت أن أمل قد رسا أخيرا في موانئ عبلة الرويني. هو الذي ظل هائما منذ أن تعرفت عليه في مطلع الستينيات، أي بعد قدومه إلي القاهرة بزمن قصير. كان المناخ الثقافي في ذلك الوقت نشطا، حميمياً، وكان أبناء الستينيات يتحركون معا، ويمضون معظم الوقت معا يتناقشون ويختلفون ويبدعون.

لم أعرف الظروف التي تعرف فيها أمل بعبلة إلا بعد أن قرأت كتابها الجميل "الجنوبي" الذي يعد من السير الفريدة في الأدب العربي، ولو أن مثل هذا الكتاب صدر في الغرب لتحول إلي فيلم وإلي مسلسل، وإلي مسرحية. فبالإضافة إلي قدرة عبلة علي تصوير العالم الحميم مع أمل، ورسم صورة بديعة لشاعر عظيم، متمرد، صعب المراس في الظاهر:

رقيق كالشفاف في الباطن. فإن الكتاب يعد نصا أدبيا رفيعا ويرسم أيضا ملامح فترة ما تزال آثارها فاعلة.

تعرفت إلي عبلة كزميلة في دار أخبار اليوم، كانت وما تزال متخصصة في المسرح، وهي كاتبة وشاعرة موهوبة، لكنها مقلة، ذات أسلوب خاص، وقد أسهمت في تأسيس ‘أخبار الأدب’ وما تزال.. مازلت أذكر لحظات عديدة من معاناة عبلة عندما بدأ المرض ينهش أنيابه في أمل، عاشا معا بعد زواجهما تسعة شهور، تسعة شهور فقط في شقة مفروشة، وبالنسبة لي لا يمنحني تعبير شقة مفروشة الإحساس بالاستقرار، إنها مكان للإقامة المؤقتة.. مثل الفنادق، ولكن أمل كان مختلفا، فطوال أعوام من صداقتي به لم أعرف له مقرا محددا. والآن اكتشف أننا لحظة افتراقنا الليلي لم أكن اسأله أبدا عن وجهته.. إلي أين؟.. لم يعرف أمل الاستقرار في مكان، ولم يعرف وطنه الأنثوي إلا خلال تلك الفترة القصيرة المحدودة، بعد تسعة شهور من الزواج اكتشف أصابته بالسرطان، ثم انتقل إلي الغرفة رقم ثمانية بالمعهد، وهنا بدا عنصر عبلة الأصيل..كزوجة مصرية، وكعاشقة، مرجعيتها شأن كل أنثي مصرية إيزيس المقدسة التي أخلصت كل الإخلاص لأوزيس بعد مقتله، وعكفت تلملم أشلاءه، وكلما وجدت جزءا من جسده المقدس أقامت عليه نصبا، حتى حملت منه وأنجب الابن حورس في غيابه..

علي امتداد سنوات…ثلاث وعشرين سنة، تفرغت عبلة شأن إيزيس لأمل بعد رحيله، تلملم أوراقه تكتب عنه تحفظ تراثه، تسعي إلى رسائل متبقية هنا وهناك، وبين فترة وأخرى تخرج لنا أثرا منه أو عنه، وإذا كانت إيزيس قد أنجبت حورس بعد غياب أوزيس، فان عبلة قدمت لنا (الجنوبي) ثمرة حياتهما المشتركة معا التي لم تطل، ويمكن اعتبار هذا العدد الخاص من أخبار الأدب ثمرة إخلاصها لأمل ومحبتها له، فجميع الصور المنشورة من أرشيف ذكرياتها.. وتخطيط العدد من وضعها، كما أنها قامت بالجهد الأوفر بالاتصال بعدد من الشخصيات البارزة للإسهام في هذا العدد.

ومن تقاليدنا في أخبار الأدب أن يتولى احد الزملاء الإشراف الكامل علي العدد المكرس لموضوع محدد، وهل هناك أقدر من عبلة علي تحرير عدد مخصص لشاعر عظيم رحل مبكرا. ولم يكن عظيما في شعره فقط، إنما في مواقفه أيضا، أن استدعاء أمل دنقل الآن، سواء في المظاهرات الأخيرة التي شهدتها مصر ضد الحرب، أو عند جماهير الانتفاضة الفلسطينية.. تعني حضوره في غيابه. وان موقعه مازال شاغرا، وما نأمله من احتفالية الدكتور جابر عصفور بصديقه الراحل ألا تكتفي بتناول الشاعر ولكن أن تنطلق من الأسئلة التي يطرحها غيابه والحاجة إليه، أسئلة تتصل بوضع الشعر العربي الآن وعزلته والمأزق الذي وصل إليه.

وإذا كنا نستحضره بكل ما يرمز اليد من معان، فالتحية واجبة لرفيقة روحه التي أوقفت حياتها علي ذكراه وعلي ما أبدعه، زميلتنا عبلة الرويني.

تصميم وتطوير