الجسر وأنا! ..كتب .. عاطف سعد

27.07.2015 11:42 AM

أتجنب السفر عبر الجسر في فصل الصيف. فقد لُدِغتُ، في أكثر من سفرة، من إنتقاص في قيمتي كمسافر وانتقاص في كرامتي كمواطن.  وبرغم حذري من السفر في موسم "زوار  لصيف" إلا أن الوفاء لمناسبات اجتماعية مع الأهل عطل حَذَري. 

ع الجسر، أشعر بأنني تحولت إلى  ذبيحة مستباحة للنهابين من كيانات تُسمي نفسها دولا مرورا بشركات النقل وصولا إلى الشيالين. الكل من هؤلاء يقتطع  "حصته" بسكين غليظة إما على شكل ضريبة سفر أو تذكرة باص مكررة  أو "بقشيش" اجباري أو بفرض سعرا مضاعفا  لزجاجة مياه أو لأجرة تاكسي. أشعر بحز سكاكين كل هؤلاء وأكز على أسناني وأدفع المعلوم! لكن "دفع المعلوم"  لا يعالج إرتفاع الحرارة (خصوصا في قاعة المنتظرين لتسجيل سفرهم غربا أو في موقف باص الجسر) مثلما لا يوقف بكاء الأطفال ولا يبدد هواجس امهاتهم. 

فجأة، يتعطل نظام التبريد. ويتعطل معه نظام ترتيب الدور. وتقرأ إعلان "نيون"  باللون الأحمر يقول لك "مغلق". مع هذا التعطيل الميكانيكي يجد المسافرون وضباط التسجيل أنفسهم في قاعة ترانزيت مغلقة.  تضج القاعة بأنات المسافرين وبصرخات الضباط ،  وخارجها شاهدت مسافرين يتدافعون ويتزاحمون (فيما بينهم) على باب باص يتحرك في مساحة ضيقة جدا تغمرها حرارة لاهبة. الريح لافحة وحارقة في المكان.

سافرت كثيرا عبر نقاط عبور ومطارات لم اسمع فيها موظفا حكوميا  يصرخ إلا هنا في جسر أسميناه ذات مرة بجسر العودة.  ويطيب لبعضنا، من أوُلي الأمر، ممن لا يعبرون الجسر مثلنا، بتسميته جسر الأخوة أو جسر الصداقة الدائمة بين الشعبين الشقيقين!
حاولت تبريد جسمي ببعض من هواء لطيف ينبعث من  مروحة تُشَغَّل باليد  في غرفة ضابط تسجيل، لكنه سرعان ما يشعر بضغط  المتدافعين على شباك غرفته الصغيرة فيطلب من المتدافعين الابتعاد أو يضطر لوقف السير بإجراءات التسجيل. يتضاعف  ضجري أكثر وأكثر! أسمع "دندنة" لحن اغنية "نسَّم علينا الهوا" لفيروز يدندن بها عازف عود، إختار ركنا بعيدا في قاعة إنتظار المسافرين، وكأنه أراد تلطيف الجو عليهم.

أبتعد، مضطرا عن نسمات الهواء الباردة التي تهب، على نحو شحيح، من شباك الضابط المنرفز وأتجه لمصدر العَزف الذي تحول لنسمة هواء تُنعش الخيال أكثر مما تُبَرُد الجسم . لم أَكَد أصل لركن عازف العود حتى سمعت صوتا غليظا يصدر من ضابط صغير الرتبة يأمره بوقف العزف فورا ويخاطبه  قائلا " ممنوع الدندنة هنا ..هاي منطقة عسكرية..!" يوقف العازف المسكين دندنة عوده. أعود للشباك حيث نسمات المروحة فلا أجد مساحة تكفي لوقوفي لأنها إكتظت بمسافرين آخرين وكان بعضهم يتهم المسؤولين بالتواطؤ مع  خدمة النقل المسماه  VIP (الأشخاص المهمين) وبعضهم الآخر يسأل عن دور وزارتي النقل والداخلية في السلطة الفلسطينية للتدخل مع "الأشقاء" لوقف البهدلة !

أخرجت "الأيفون" الذي بحوزتي لإلتقاط صور لكن مرافقتي أوقفتني قائلة ،" شو مجنون، ما انت سامعه بيقول ها ي منطقة عسكرية .. يُمنَع العزف فيها .. يعني التصوير ممنوع..برجائي عليك أن لا تصور .. بلاش نتورط  بجناية تَمَس الأمن القومي ! هذا ترف في غير وقته أو مكانه..! "

أعَدتُ "الأيفون" لجيبي كاتما غيظي.

بعد انتظار ساعتين في القاعة إياها ، طلعت روحي ورجعت أكثر من مرة ، أكملت السفر وفق الخطوات المقررة. ووصلت للمحطة قبل الأخيرة التي يديرها الأعداء. في هذه المحطة  التي اكتظ بها المسافرون مع أمتعتهم ،اختبرت مفارقة لعينة  تمثلت بمروحة ضخمة إنبعث منها هواء ممزوج برشيشات ماء باردة لترطيب وجوه المسافرين. أشادت سيدة بفكرة المروحة وهي تتحدث مع زميلة لها. 

"شفتي هناك شو صار.. شفتي هون..!". أفكر مع نفسي بصوت غير مسموع. المهيمنون على الجسر أوصلوا رسالة  لتبييض سمعتهم!    

بعدها وصلنا استراحة أريحا  وخرجنا منها بيسر. وصلت رام الله بعد "طوشة" مع سائق الحافلة الذي طلب مني دفع أجرة 70 شيكل (لم أدفعها بالطيع).  أمضيت عدة ساعات وأنا غير مصدق إنتهاء تجربة كانت مثل  كابوس ثقيل شعرت، خلال معايشتيله،  باليُتْم الحارق والإنكشاف التام.

هل سأتعلم من التجربة وأتجنب السفر مرة أخرى في أشهر الصيف؟
من يدري.
ربما نعم وربما لا.
لكن المؤكد أنني لن أتعلم!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير