الفلسطيني المتلقي التائه

23.08.2015 05:53 PM

وطن: كتب  علاء الترتير

كنت قد كتبت قبل عدة أسابيع حول حاجة الفلسطينيين لأن يكونوا في صُلب وجوهر نظامهم السياسي وليس على أطرافه من أجل التأسيس لمرحلة جديدة يكون عنوانها المحاسبة والمسائلة الشعبية والتي ما زالت فعلياً غائبة في النظام السياسي الفلسطيني. في هذه الأيام يكثر الحديث عن المجلس الوطني الفلسطيني واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير واستقالة عباس وعدم استقالته في نفس الوقت وانتخابات وصراعات بل "تناحرات" حركة فتح؛ وبالتالي فالموجود في الأرض المحتلة هو "لخة فلسطينية" باللغة الشعبية ولكنها في الحقيقة ليست "باللخة" الشعبوية، بل على العكس تماما. فعادةً الشعوب والناس هم الأقدر على خلق حالات وأشكال "اللخة" وليست القيادات وخاصة إن كانت هذه القيادات  قد انتهت ولاياتها. ولكن -وبقدرة قادر- أصبحت هذه القيادات -والتي حولت الفلسطيني إلى مجرد متلقي تائه غير مكترث في أغلب الأحيان- قادرة على خلق "زوبعات" وتهدئتها اذا تعلق الأمر بتوزيع المناصب والنفوذ والريع أو إرضاء المحتل.

ولكن ما يعنيني في هذه اللحظة ليست التغيرات (لعبة الكراسي) بحد ذاتها والتي كما يبدو فإنها ستكون في أحسن الأحوال تغيرات تسعى لتعزيز السلطوية القمعية وأنظمة الدولة البوليسية والتشرذم الفلسطيني. بل ما يعنيني هو الفلسطيني المتلقي التائه وصوته ودوره في النظام الذي يحكمه. بكلمات أخرى: أين الفلسطينيون من نظامهم السياسي؟ فقد أصبح الفلسطيني في الأرض المحتلة أو المنفى مجرد متلقي –وليس صانعا- للخبر عبر وكالات الأنباء، وتائه بين كل المتغيرات والتباينات والآراء، وغير مكترث لتشييد مستقبله، ومنتظراً "لفرج" من القيادة، ومتسائلاً عن جدوى كل شيء في هذا العالم.

إذ أضحى الفلسطيني مجرد مراقب لهمه وقضيته كالغريب، وغير قادر على التأثير فيما يحصل الآن أو ما سيحصل في المستقبل. شعور الغربة في الوطن والاغتراب عن النظام السياسي تشكل شكلاً من أشكال القهر المضاهي لذلك القهر المتولد من الاحتلال الجاثم على الجسد الفلسطيني. 

هذا الشعور بالعرّي والتوهان لشعب بأكمله هو ما يرضي نشوة المحتل والقوى الاستعمارية. فتغييب الشعوب في عملية صنع القرار وتقرير مصيرها كان دوماً هدفاً مركزياً من أجل تسهيل السيطرة وإدامة الاستعمار، ولكن الأمر يصبح أدهى وأكثر مرارة عندما يتحول النظام السياسي "لثورة من أجل الحرية والتحرر" لأداة أخرى للقمع والتغييب وعامل آخر للشرذمة والتفتت. فالتفاف الناس حول نظامهم السياسي وملكيتهم له هو العامل المركزي لأية حالة تغييرية من أجل إحراز الحقوق ومن أجل جسر فجوة الشرعية والتمثيل.

ولكن وفي خضّم "اللخة الفلسطينية" هذه لم يعد المرء قادراً على فهم أو استيعاب العديد من الأمور والقرارات التي تمس تفاصيل الحياة اليومية، وقد أصبح السؤال والتساؤل خطيئة والفعل جريمة. فهذه "اللخة" تسعى لخلق "تبع جدد" يبايعون ويبصمون ويؤيدون من دون أن يفكرون أو يتفاكرون. هذا النهج اللا-تحرري ولكن غير الجديد على الساحة السياسية الفلسطينية سيساهم في تقويض قدرة الفلسطينيين على تقرير مصيرهم ونفيهم عن حريتهم ومنعهم من الاشتباك مع المحتل والمستعمِر والأدوات القمعية الأخرى. من يعتقد أن نهجاً كهذا هو حنكة و "فذلكة" سياسية داهية –كما تدعيّ بعض القيادات الفلسطينية- فقد ساهم بهذا الاعتقاد في الإدامة المباشرة وغير المباشرة للاحتلال العسكري الاسرائيلي وبتعزيز التشرذم الفلسطيني. فما يحتاجه الفلسطينيون اليوم هو قرب الناس وعودتهم للفعل السياسي الحقيقي وليس العكس.

هذا التهميش والتجريد للفلسطينيين هو نتاج طبيعي لتغيرات حصلت على مر العقدين الماضيين. الخطوة الأولى لاستعادة زمام المبادرة تتمثل بالتخلص من قيود اتفاقية اوسلو. التخلص من هذه القيود هو ليس رفضاً للسلام –كما تعتقد القيادة الفلسطينية الحالية- بل هو رفضاً لحالة العبودية والاضطهاد. فقد شكّل "تدجين الفلسطينيين" أحد أهم أعمدة اتفاقية أوسلو، وتجّذر هذا التدجين للفلسطينيين خلال مرحلة بناء مؤسسات الدولة وإصلاح القطاع الأمني في مرحلة الفياضية 2007-2013. فكرة "التدجين" خلقت وقائع جديدة على الأرض والتخلص منها لن يكون فعلاً خطياً اتوماتيكياً؛ فالهندسة المجتمعية وعملياتها خلقت تشوهات بنيوية في منظومة المجتمع الفلسطيني وفي أسس العقد الاجتماعي. فالمطلوب هو نهضة مفاهيمية معرفية من الأسفل للأعلى والتي تتطلب وعياً سياسياً ومقاومة لكل القوى التي تسعى لتثبيط هذه النهضة المجتمعية.

ولكن النهضة المجتمعية هذه والتي تسعى لأن تضع الإنسان الفلسطيني في جوهر النظام السياسي الفلسطيني تتطلب قيادة جديدة أبعد ما تكون عن القيادة الحالية وأسس حكمها ومنظومة فعلها وتحركها. فالعملية الشعبية التغييرية تقتضي فعلاً على الأرض وتغييراً في الخطاب والمفاهيم والرؤى، وتتطلب أيضاً وجود قيادة فكرية جديدة متأصلة بتطلعات الناس وليست محبطة لها. هذه الرؤية ليست بالمثالية إن كنا نرغب بمستقبل يقودنا للحرية والتحرر ومن أجل التخلص من قيودنا أولاً قبل التخلص من قيود الاحتلال العسكري الاسرائيلي ثانياً. فما نحتاجه اليوم هو نظام سياسي يحررنا ولا يستعبدنا.

وبالتالي فثمة العديد من "الممنوعات" يجب أن تُسأل وتخضع للمحاسبة الجادة، وربما في هذا الوقت بالذات علينا أن نسأل إن كانت حركة فتح فعلاً حاملة أم مدمّرة للمشروع الوطني الفلسطيني، وإلى متى سيبقى الفلسطينيون يدفعون ثمن الصراعات الفتحاوية الداخلية؟ وبالمثل يجب علينا أن نسأل إن كانت حركة حماس فعلاً حاضنة للمقاومة أم منتفعة منها، وإلى متى سيبقى

الفلسطينيون يدفعون ثمن الانقسام والاقتتال؟ وفي نفس السياق علينا أن نسأل ما الذي تعنيه منظمة التحرير ولجانها ومجلسها لعموم الفلسطينيين في الوطن والمنفى، إن كان أولئك الفلسطينيون مغيبون تماماً عن عملية صنع القرار وغير مشاركين في لعبة الكراسي المتحركة؟ الإجابة على هذه التساؤلات "الممنوعة" يجب أن تضع في صُلب ردها الفلسطيني المتلقي التائه غير المكترث إن كنا نرغب بتغيير ديناميكيات القوة والمضي قدماً في خلق مستقبل أفضل لنا ولقضيتنا العادلة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير