أسعد الشوا حكاية موت لن تموت

02.09.2015 11:36 AM

كتب:عصام بكر

أسعد جبرا الشوا من حي الشجاعية بمدينة غزة، وبسام ابراهيم السمودي من بلدة اليامون في جنين اسمان جمعهما الموت في لحظة واحدة في ذات الموقف سقط الشوا مضرجا بدمائه قبل أن يكمل عامه العشرين ولد العام 1969 سقط أسعد ثم بسام ليخترق الرصاص قلبيهما المليئان بالحب للوطن وتراب الأرض، في العام 1988 الذي كان ذروة اشتعال الأنتفاضة الأولى وحكايات البطولة، وميادين التحدي والمواجهة المفتوحة مع الاحتلال تكتسح المشهد وسط ذهول العالم أجمع، الشعب الفلسطيني بكل فئاته وقطاعاته يخرج للشوارع، يملؤ الساحات ويعلو النشيد حكايات العشق الابدي في ارتباط لا انفصال فيه ولا انفصام بين الإنسان والأرض والهوية ليرد على الذين توهموا أنهم دجنوه، وأنسوه، ونزعوا من صدره حب الارض وفي هذا الزمن لم ينسَ الناس وأن اختلفت الطرق والوسائل، ورغم كل ما تعرضوا له يسكنهم الحب للمعأني الاصيلة للأنتماء للبلد.

على اثر الانتفاضة الأولى زجت سلطات الاحتلال بالاف المواطنين في السجون والمعتقلات وافتتحت العديد من المعتقلات الجديدة ومنها سجن النقب "أنصار3 " الذي لم يمض على افتتاحه الا خمسة أشهر ليكون مع هبة الكرامة والارادة بعد أن وصلت الحياة الاعتقالية فيه إلى ما يشبه الجحيم، في هذا السجن الصحراوي سيء الصيت حاولت سلطات الاحتلال تحطيم إرادة الإنسان الفلسطيني، كسر جذوة الانتفاضة التي يتصاعد لهيبها رغم كل صنوف القمع والقتل والدموية، برغم ذلك كله كانت تتصاعد موجات الفعل الوطني العفوي استجابة لنداء القيادة الموحدة للانتفاضة شعب كامل يريد الخلاص، ويهتف بسقوط الاحتلال وينادي بالحرية، قلب المشهد كل الحسابات والموازيين من جديد لعيد الروح للارادة السياسية الفلسطينية لتعيد قراءة التجرية والمشهد من جديد بما في ذلك الموقف السياسي الفلسطيني برمته.

كان النقب الصحراوي الذي اطلق عليه الاسرى مقبرة الاحياء للدلالة على سوء الأوضاع الاعتقالية، وافتقاره لادنى مقومات الحياة الادمية احدى ادوات المواجهة مع الاحتلال بعد أن ارادوا أن يجعلوه مقبرة فعلية للمناضلين ونشطاء الأنتفاضة، وضعوا فيه بكل العقلية السادية كل مقومات القهر والعذاب اليومي، ولم يمضِ على افتتاحه سوى عدة اشهر فقط حتى كأنت المواجهة بعد انعدام شروط الحياة وتفاقم الأوضاع اليومية – منتصف اب 1988 وتحديدا في قسم "ب " احتج حوالي 1500 معتقل على سوء المعاملة وقسوة السجأن وتنكيله المتواصل، تلاه استنفار، هتاف، يعلوا صوت التكبير والنشيد، تصدح الحناجر في مواجهة الموت، جنود العشرات مدججيين بكل الاسلحة، تقذف الأيدي كل ما يمكن أن تصل اليه احذية، صابون، ادوات بلاستيكية وشخصية لتدافع عن نفسها لترد قنابل الغاز التي تلقى بكثافة، وهروات، عملية قمع بشعة اصيب على اثرها العشرات بجروح لكن لهيب الاشتعال لم يتوقف والتحدي وصل إلى خط اللارجعة دخل قائد السجن "تسيمح" الذي قاد شخصيا عملية القمع إلى القسم مع جنوده بالخوذ وكامل العتاد الحربي وصرخ قائلا: من الرجل فيكم؟؟ وقف الشاب الغض أسعد بكل بسالة وقال أنا رجل كلنا رجال - فما كان من هذا السجأن الا أن اخذ بندقية من احد الجنود واطلق النار مباشرة إلى صدره، وللامأنة والتاريخ ونقلا عن الاسرى الذين كانوا بالمكان شق الشوا قميصه وهو يردد بكل ثقة واعتزاز أنا رجل لحظات قبيل تلقي سيل الرصاص على صدره النحيل ويسقط شهيدا، ثم تلاه السمودي الذي اخترق جسده ايضا عدد من الرصاصات ولتندلع بعدها شرارة المواجهات العنيفة بين المعتقلين وجنود الاحتلال الذين استدعوا قوات اضافية بعد أن فقدوا السيطرة على السجن حيث اصيب عشرات الاسرى جراء الاعتداء عليهم لاخماد تمردهم واسكات صوتهم.

أسعد الشوا الذي كان ناشطا في صفوف الحزب الشيوعي الفلسطيني أنذاك اعطى بدمه المثال الحي المتوهج للمواجهة المفتوحة مع هذا الاحتلال بكل تعبرات وجوده فوق الارض الفلسطينية، ورسم على ارض النقب معاني العزة والكبرياء مستلهما طريق عمر عوض الله، والكيلاني وسليمان النجاب، وخضر عيسى، واحمد دحدول والقائمة الطويلة لعشرات الشيوعيين الذين دافعوا ببسالة منقطعة النظير وايمان مطلق بالمباديء والمثل التي تربوا عليها مستلهمين التجربة الطويلة لجيل المناضلين الأوائل من الرعيل الأول الذين قدموا المثال الأنصع في الصمود ، وواجهوا المشانق والزنازين بهامات مرفوعة منذ الانتداب البريطاني وعلى مر السنين والحقب في وجه كل اشكال الاستعمار والاستبداد والعبودية والتخلف والاحلاف المشبوة ، لمعاني الصمود والثبات والقناعة الراسخة بحتمية النصر.
اسد النقب هو الاسم الذي اطلقه زملاء أسعد وهم يتحثون عن اعلى درجات الفداء والشموخ لهذا الشاب اليافع ابن مدينة غزة الذي رفض المهانة والذل وسقط واقفا وهو على كل حال الشهيد الأول على مر تاريخ الحركة الاسيرة قاطبة الذي يسقط بالرصاص من مسافة تكاد تكون صفر فقائمة الشهداء اليوم تضم 208 اسرى سقطوا ما بين التعذيب أو الاهمال الطبي أو بقانون التغذية القسرية خلال الاضرابات عن الطعام لكنها المرة الأولى والوحيدة التي يسقط فيها اسيرا بالرصاص وبشكل مقصود مع سبق الاصرار ومع معرفة الجاني " تسيميح " قائد السجن.

حكاية بعد 27 عاما ما زلت مفتوحة على وجع والم كبيريين لم تمحى مع الزمن، فنحن على موعد في اب من كل عام مع ذكرى هذا البطل التي تطل علينا تداهمنا تعيد تذكرينا إن نسينا أو غاب عنا بسبب الانشغالات الكثيرة طيف هذا الشهيد لون عينيه بشرته الغزاوية التي تدل على صرامة وحب وبساطة، رائحة البحر على شواطيء غزة وطعم القهوة الصباحية وحكاية حب لم تدوم، تضاريس البلاد الحبلى بالانصهار الواعي بين الإنسان والارض، المواجهات التي تمليء المكان والخوف الذي يبدو واضحا على جنود لم يعد بمقدورهم السير في الطرقات والازقة، طيف هذا الشجاع الجميل الذي لم تغيب وهو يعانق شمس النقب في ذورة اب كيف يمكن أن تغيب وهي مزروعة في عمق الفكر ونبل الموقف، نطوف فيها ونقطف من حديقة الذكريات منها كل القيم ونتمثل في كل سنة مثل التحدي والحب الازلي للفلسطيني وتراب وطنه بنقاء وبساطة وتعبيرات الحب الابهى في الشهادة والموت وقوفا.

الاسرى والاسيرات وتجربة الاعتقال المريرة الشاهدة على أن حوالي مليون فلسطيني دخل السجن، وذاق مرارة التعذيب وهول الجرائم المتواصلة إلى يومنا هذا، سياسات المحتل هذه الصفحة التي تعج بمئات القصص الحاضرة التي تمثل عناوين بارزة سطرها الاسرى عن طيب خاطر بارادتهم بالامعاء الخاوية والاضرابات الفردية والجماعية عن الطعام في رسالة واضحة أنهم لن يقبلوا الذل رفضا للاعتقال الاداري، أو العزل الانفرادي أو الاهمال الطبي المتعمد وغيرها الكثير من الاسباب التي تبقى الباب مفتواحا للأنفجار في أي لحظة هو ربما ذات القمع يا أسعد وهي نفس الادوات وأن اختلفت الوجوه عقليه الفاشي الذي يزرع الكراهية ويحرق الاطفال احياء تهمين بقوة اليوم مثل الامس واشد فتكا رافضة الاستجابة لنداء الإنسإن ومنطق التاريخ، ورائحة الغاز المسيل للدموع والبارود والدم المسفوك تمليء المكان، والاصرار ايضا ما زال هنا - ما زال يا اسد النقب ميزان الحق المائل نفسه والعدالة الدولية الغائبة نفسها، ذات السياسة العرجاء للمؤسسات الإنسانية ومنها الصليب الاحمر الدولي الذي كان مندوبه في ذلك اليوم شاهدا على الجريمة يوم اطلق الرصاص على جسدك ولم يفعل شيئا، ما زلنا للاسف بحاجة لعمل الكثير حتى نوافيكم حقكم أو بعض منه، فأنتم ايقونة صبرنا الباقية وحكاية العشق السرمدي التي لا تنتهي، هذا الارتباط الابدي للتراب المقدس وشموع العطاء التي تمحو ليل الحقد والعنصرية

هي صفحة يعاد فتحها وهي لم تغلق بعد 27 عاما كأنها حدثت بالامس فقط، فراق صعب وقاتل ورحيل يليق بشموخ الشهداء الابرار " يذهبوا إلى حتفهم باسمين " صفحة تصفعنا جميعا لنتوحد في قلاع الاسر في كل السجون وحدة الارادة والعمل، نحتاج فيها لتجدد روح الحركة الاسيرة وهي رأس الرمح في المواجهة اليومية، وفي السجون الكبيرة خارح اسوار السجن الصغير تدعونا للعمل للنهوض وطي صفحة الانقسام جاءت رسالة الشوا بعد 27 عاما من الدماء التي سالت ذلك اليوم لتعيد النداء لكل اصحاب القرار بأن توحدوا لو كان أسعد بيينا لقال كفى انقسام وحدوا الرايات فكلنا كشعب اهداف مشروعة للرصاص بالنسبة لهم.

إن الطريق الذي شقه أسعد جبرا الشوا وهذه المأثرة التي صنعها وهو يقد ازرار قميصه ويفتح صدره ليواجه الرصاص في ذلك اليوم الصيفي اللاهب من شهر اب قبل 27 عاما هو محل فخر للشعب والحزب ولكل الاحرار والمناضلين وصية الشوا اللاذعة الحزينة لنا هي الوحدة وأن لا يفلت الجاني من العقاب، والطريق إلى الجنائية الدولية هو اقصر الطرق للقصاص والعدالة الإنسانية ليس المسؤول هو من اطلق الرصاص على صدري وإنما حكومته هي التي اعطت الأوامر للقتل وما زلت تحرق الاطفال في بيوتهم احياء هي المجرم الفالت من العقاب.

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير