القات... (أفيون الشعب اليمني)

03.09.2015 06:41 PM

وطن: كتب رأفت علي


لعلك إن زرت اليمن ستجد أشياء كثيرة تلفت إنتباهك، ولعل أكثر ما سيدهشك، لاسيما من الظهيرة حتى آخر المساء، هو إنتفاخ إحدى الوجنتين لكثير من اليمنيين.. ستجد المئات بهكذا حال، ثم أنه لا يقتصر الأمر على الرجال فقط، بل يشمل النساء والأطفال... نعم الأطفال.... ولا بشريحة عمرية محددة بل يكاد يشمل كل الفئات دون أستثناء. وهنا لا شك أن سوف تتساءل ما الذي يحدث في هذه البلاد؟

في الواقع، وبإجابة سريعة، أقول إنه "القات"، تلك النبتة التي تزرع غالباً في المناطق الجبلية، وتستهلك ما يقارب الــ 40% من الماء لنموها... تلك النبتة التي يمضغها اليمني، ويخزنها في أحد وجنتيه ليمتص سائلها مع اللعاب ولتحدث بعد ذلك شيئاً من الإنتشاء الذهني، إنها تلك النبتة التي يمضغها العامل البسيط لتمنحه نشاطاً جسدياً، ويمضغها رجل الأعمال في محاولة لتوسيع شبكة العلاقات العامة، وتمرير صفقات الأعمال، ويمضغها الطالب معتقداً أن ستمنحه القدرة على التركيز، ويمضغها الطفل بإيعاز وتشجيع من الأهل لجعله "رجلاً" قبل أوانه، والنساء من أجل العلاقات الاجتماعية النسوية أو لمجرد تضييع الوقت بمايسمى في اليمن "تفرطه".

تعددت الأهداف والنبتة واحدة، بل والنتائج واحدة من حيث يدرون أو لا يدرون. لقد رأيت كل هذا بنفسي وعرفت أسراً ساءت حالها بسبب "القات".

من هنا كانت كتابة هذا المقال عن هذه القضية الإجتماعية المعقدة محاولاً عدم الدخول في التفاصيل، ولمن أراد المزيد عن "القات" وعلاقته بالصحة والاقتصاد وسوء الإنتاج والفساد المالي والإداري في البلاد، وكذا فهم الجانب الكيماوي، ولماذا أدرجته منظمة الصحة العالمية ضمن تصنيف المخدرات الأقل من الكحول والتبغ، وغير ذلك من التفاصيل، يمكنه البحث في جوجل وسيجد الكثير من الدراسات الجادة التي يمكن أن يفيد منها. أقترح الإطلاع على تقرير منظمة الصحة العالمية حول "القات" بعد 6 سنوات من الدراسة الشاملة لهذه النبتة، تقرير في غاية الأهمية.

في الواقع، السؤال الذي لطالما سألت نفسي: كيف أصبح "القات" بهذا التجذر والعمق الاجتماعي في اليمن؟ وكيف أصبح بالتالي أحد أهم ركائز البنية الاجتماعية اليمنية؟ حتى أن ثمة أدباء ومثقفين وأكاديميين مدافعون شرسون عن مجالس القات، لقد جالست كثيراً منهم وصدمت كيف يتغنون بــ "القات" وفوائده.

وبخصوص هذا التجذر الاجتماعي "للقات" في اليمن ينبغي التذكير أن "القات" لا يوجد فقط في اليمن، بل في معظم بلدان شرق أفريقيا، وكينيا التي تستخدمه لغرض مكافحة إدمان الكحول، ومع كل هذا لم تتجذر هذه النبتة في العمق الاجتماعي لهذه البلدان كماهو حاصل في اليمن.

قديماً، كان القات معروفاً لدى المصريين القدماء وأستخدم علاجاً للكآبة والحزن، ولتنشيط الخيال، كل هذا قبل أن يعرفه اليمنيون، إذ ليست ثمة دراسة أكدت علاقة الحضارة السبئية والحميرية، بل وكل الحضارات اليمنية القديمة المتعاقبة بنبتة "القات"، ليست ثمة نقوش تدل على معرفة اليمنيين القدماء "للقات"، وليس ثمة كتاب مقدس ذكر نبتة "القات" في اليمن، ولو تحت أي مسمى.... فما الذي حدث؟

أتصور، ولفهم ماحدث، من المهم جداً الرجوع قليلاً الى الوراء.

تاريخياً، ليس هناك أتفاق واضح حول متى عرف اليمنيون "القات"، غير أنه على الأغلب كان مع الحملة الحبشية في العام 545م، ومنذ القرن الثالث عشر وحتى اليوم تحول "القات" من صفوة القوم الى عامة الناس، حيث ذكر الدكتور عبد العزيز المقالح إنه تم إكتشاف أقدم وثيقة بخصوص "القات" للعالم الصوفي أحمد بن علوان يكتب فيها رسالةً الى أحد ملوك بني رسول مطالباً أن تقوم الدولة بإستخدام القوة لمنع "القات" (... إذ أفسد إيمان المسلمين، وشغلهم عن طاعة الله.)، هذه الوثيقة أول مؤشر تاريخي لإنتشار "القات" بين عامة الناس، ومروراً بدولة الأئمة الزيدية في اليمن إنتشر "القات" أكثر وحصل على دعم السلطة حيث أدخله الإمام أحمد ضمن (قانون صنعاء) الذي حدد فيما بعد أسعار "القات" وحيثيات توزيعه وبيعه. ويبدو أن هذا الدعم من السلطة لم يكن من فراغ، إذ أن "القات" يقلل من أحداث الشغب والمنازعات، ويقلل من التفكير النقدي للمواطن تجاه الدولة وممارساتها، ولولاه لكان سيؤدي الى مزيد من القلق للسلطة والى المزيد من غضب الشعب المطالبين بالتغيير، ليس هذا فحسب بل إن سلطة الإمام أحمد طاردت كل من حارب "القات" وعاقبته.

من هنا كانت البداية، وأقصد بداية نمو العلاقة بين السلطة و"القات". وصلت هذه العلاقة ذروتها في فترة حكم "على عبد الله صالح"، إذ ظهر كبار تجار "القات" (يمكن تسميتهم دون مبالغة بـ مافيا القات)، هؤلاء التجار ليسوا فقط مدعومين من قبل السلطة الحاكمة بل ومن القبائل المتنفذة في المجمتع اليمني، وهكذا أصبح هؤلاء التجار فوق القانون وبالتوازاي مع السلطة، الأمر الذي جعلهم والسلطة (في ثنائية خطيرة) يُفشلون محاولات عديدة في مجلس النواب اليمني لتمرير قانون منع إنتشار "القات" ومحاربته ناهيك عن قوننته.

ولأن "القات" بات يصنف علمياً ضمن فئة المخدرات كون فيه نسبة لا بأس بها من مواد الإدمان، فقد أصبح من الصعب التوقف عنه مهما كان إستيعاب المتعاطي لأضراره، مع الأخذ بعين الإعتبار أن اليمني إذا سافر خارج اليمن لا يشكل القات لديه هماً، مما يدل فعلاً أن نسبة الإدمان في القات ليست كبيرة مقارنة بالكحول وباقي المخدرات، ولكنها تبقى في الأخير مؤثرة جداً.

وبهكذا حال: بفعل العامل الزمني الطويل، ودعم السلطة الإستثناني، وظهور فئة تجار "القات" الكبار، وأخيراً بفعل طبيعة نبتة "القات" الإدمانية، أصبح "القات" (أفيون الشعب اليمني) دون منازع، وصل الأمر الى حد يصعب فيه التعامل مع القات بعيدا عن المجتمع حتى في أدق تفاصيله.
فإذاً كيف للمجتمع اليمني أن يتخلص أو حتى يقلل من هذه الأفة الاجتماعية الخطيرة وبهكذا تجذُر؟

برأيي لن يكون التخلص من القات أمراً سهلاً، فكما تجذرت هذه النبتة عبر حقب زمنية طويلة، ثم بدعم من السلطة والتجار المتنفذين قبلياً، فإن التخلص منها لن يكون إلا عبر فترة زمنية طويلة أيضاً، على مستوى أجيال، وعبر تحول إستراتيجي جاد من قبل السلطة بالتخلي عن دعمها للـ "القات"، وهنا أتذكر كيف تعاملت بريطانيا مع "القات" فترة تواجدها في عدن، إذ عمدت الى إقرار ضريبة مرتفعة على "القات"، وعبر ترخيص محدود للتجار، الأمر الذي أدى بالمقابل الى رفع قيمته بشكل كبير جعل القليل من الناس فقط تقوم بشراءه، نجحت الفكرة في رفد خزينة الدولة بأموال طائلة وبالتقليل من تعاطي "القات".

لكن مشكلة "القات" تتعدى مسألة "القات" نفسه، إذ ليس من المتوقع أن تتخلي السلطة عن دعمها المستميت إلا، كما قلت، عبر تحول جاد يعكس مفهوماً جديدا للسلطة تجاه "القات" من ناحية وبلورة علاقة مختلفة أكثر إيجابية بين السلطة والشعب من ناحية أخرى، مالم فإن أية محاولات فردية أو مجتمعية لمحاربة القات لن تكون ذا تأثير واضح وفعَال، ولن ترقى الى مستوى هذا التجذر العميق في المجتمع اليمني .... فعندما تتحول السلطة سيتحول كل شيء معها تلقائياً ويصبح كل شيء آخر مجرد أستراتيجيات تنفيذية.

تصميم وتطوير