"زيتونة نابلس" شادية أبو غزالة.. باقية هنا

28.11.2015 07:48 AM

رام الله- وطن- جنان أسامة سلوادي: "في إحدى ليالي عام 1949، أطلقت الداية زغرودتها لتملأ جدران المنزل، وتعلن عن ولادة الذكر السابع للعائلة، لكن وبعد ساعتين، عندما بدأت جدتي تبدّلُ ملابس هذا الطفل الصغير؛ أطلقت صرخة تعبر عن صدمتها: "لقد تحول إلى بنت، لقد تحول إلى بنت" قالت، وبالطبع، فإنّ هذا الصغير لم يتحوّل، لقد كان منذ البداية أنثى، وإنما كانت خطّة رسمتها الداية لتأخذ إكرامية الولد!".

هكذا بدأت إلهام أبو غزالة حديثها وهي تستعرض ألبوم صور لأختها الشهيدة "شادية ابو غزالة" للباحثين من المتحف الفلسطيني ضمن مشروع "البوم العائلة"؛ الذي يوثق التاريخ والثقافة والمجتمع الفلسطيني من خلال صور يحتفظ فيها الفلسطينيون في ألبوماتهم العائلية.

توفيت والدة إلهام بعد ثلاث سنوات من ولادة شادية في نابلس، على خلاف إخوتها العشرة الذين ولدوا في يافا؛ فتحولت شادية بذلك إلى "دلوعة العائلة" تقول إلهام، وحصلت على حب وحرص شديد من جميع أفراد العائلة، إلا أن هذا لم يشكل بديلاً عن أمرين بديا ناقصين كلّما مرت الأيام: الوطن، والاعتراف بالهوية الاجتماعية للفتاة في المجتمع الفلسطيني.

أنهت شادية دراستها للمرحلتين الابتدائية والإعدادية في مدرسة الفاطمية، وأكملت الدراسة الثانوية في مدرسة العائشية في نابلس، وفي حزيران عام 1967؛ أنهت عامها الدراسي الأول والأخير في جامعة "عين شمس" واستقلّت إلى الوطن آخر طائرة هبطت في مطار القدس/ قلنديا. وفي القاهرة، اختارت شادية أن تدرس علم الآثار، وكانت تسكنها رغبة الحفاظ على التراث الفلسطيني.

كانت شادية محبّةً لقراءة الأدب والشعر. "أحبت شادية قراءة الشعر فحفظته عن ظهر قلب، كما أنها قرأت في الفلسفة وعلم النفس، أمّا سارتر فكان الأحب إلى قلبها، فتعمقت بأطروحاته وبالفكر الوجودي" تقول إلهام وهي تستعرض إحدى صورها بجانب المكتبة، مضيفةً أن شادية وبحكم تأثّرها بالفكر الاشتراكي؛ أصبحت منحازة بالفطرة، للفقراء ومصالحهم.

في الخامس من حزيران 1967؛ وقعت حرب الأيام الستة، وأصبحت الهزيمة بركاناً وناراً في قلوب الناس، فرفضت شادية وبتصميم مطلق، أن تخرج من البلاد وتعود إلى جامعتها في مصر، رغم إصرار إخوتها ووالدها، "ليس هنالك زوج أهم من الشهادة الجامعية، الشهادة أولاً ثم الزواج" هذا ما كان يردده والدها، فتجيبه "ما فائدة الشهادة إن لم يكن هناك حائط تعلق عليه"، بعد ذلك، التحقت بمعهد النجاح في نابلس، وكان ذلك صدمة للجميع.

الثوريون لا يموتون أبداً
شادية التي آمنت بكل أشكال النضال، مارست العمل الاجتماعي، وطبّقت إيمانها بدور المرأة ووثقت بقدراتها وإمكانياتها، وفي الأردن، تلقت شادية تدريبها في معسكرات الثورة وكانت من طليعة المناضلين والمناضلات، لتعود إلى نابلس، وتقود تنظيماً للفتيات، مشكّلةً أول خلية نسائية مسلحة.

رغم حداثة عمرها؛ استطاعت شادية بوعي كبير أن تخفي كلياً انخراطها في العمل المنظم وفي صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الأمر الذي لم تعرف عنه العائلة شيئاً إلا بعد استشهادها، وتلقّته من أفواه الصحف وحديث الأصدقاء، قبل ذلك، لم يكن هناك أي تغير في تصرفات شادية أو شخصيتها، سوى أنها تزداد صلابة يوماً بعد يوم، قادت تنظيماً مسلحاً للفتيات، وشكلت أول خلية نسائية مسلحة وتدربت في معسكرات الثورة، ونظمت الأفراد وقامت بتأمين الاتصالات وجمعت التبرعات، وأخفت السلاح والمقاومين وطبعت منشورات، ولم يكن لنا أي علم! تقول إلهام.

بعد الهزيمة، كان اجتياح نابلس، تروي إلهام، آنذاك، رأينا البيوت وهي ترفع الخرقة البيضاء على أسطحها، إيذاناً بالتسليم للمحتل، لكن شادية رفضت ما رأيناه على البيوت؛ ودعت إلى معاقبة الطابور الخامس كما وصفتهم.

ذات مساء، توجهت صديقة شادية، عصام عبد الهادي، إليها لتخبرها أن المناضلين في الجبال ترتعش مفاصلهم من البرد، وعندما عادت إليها في الصباح التالي، وجدت بيتها مليئاً بالملابس الشتوية والأغطية، كانت قد جمعتها من زميلاتها، في ذلك اليوم، كدستها في حقائب كبيرة ونقلتها للمقاومين.

بعد إعلان حرب حزيران، اندفعت الأختان شادية وإلهام وغيرهما من الفتيات والنساء إلى المسؤولين، للمطالبة بالتدرّب لمواجهة العدو، حينها وُعدت الفتيات بتلقي التدريب في العائشية، وفي ذلك الموعد، وجدن أنفسهن محاصرات هناك دون مدربين، ومع انتظارٍ غير بائس؛ حل الظلام، وأُبلغت الفتيات أنّ المدربين هربوا من البلد! لم يتمكن أحد من النوم آنذاك، تقول إلهام، أمّا شادية وبهدوئها المعهود، فكانت تردد أن ما هو آت أقسى، ويجب الاستعداد له. في الصباح، أبلغت الفتيات من فتحات صغيرة في الجدران المدرسة أن اليهود اجتاحوا البلد، وحلّت الهزيمة، كان ذلك الخبر مثل الصاعقة، وبين صراخ الفتيات وانهيار بعضهن، نهضت شادية لترتّب الأمور، "نخرج في مجموعات من خمس، نأخذ طريق البلدة القديمة، حيث من الصعب أن يكونوا قد دخلوها، نمشي قرب الجدران والأقواس، تراقب كل مجموعة أمامها تحسباً، ولا بدّ من أن يحمينا أهل البلدة القديمة" وعلى ضوء هذه التعليمات، خرجت الفتيات، يحرّكهن الحذر، وتسبقهن دقات قلوبهن، وشادية في المقدمة، تستكشف الطريق.

في الساعة الثامنة وخمس وعشرين دقيقة من مساء الثامن والعشرين من تشرين الثاني 1968؛ استشهدت شادية.

"كنا جميعاً حول مائدة الطعام، كانت غرفة الطعام في أقصى الزاوية الجنوبية الشرقية من بيتنا القديم الكبير، ذي الأقواس العالية والقبب المرتفعة، قُرع الجرس؛ قفزت شادية لتفتح الباب، وفي لحظة، انفجر المنزل، واقتحم اللهيب كل مكان من البيت، رأينا ألسنة النيران من كل حدب وصوب، تراكضنا مذعورين لمعرفة ما الذي جرى وسط الظلام الدامس، أخذت الأصوات تتعالى، ابحثوا عن شادية. ابحثوا عن شادية". هكذا تروي إلهام ما حصل، وفي ذهول الجميع أمام الحطام واللهيب، كان والدها يئنّ تحت صخرة كبيرة من جدران المنزل، ويُسمع في تمتماته اسم شادية يتردد.

خلال الساعات التي أعقبت الفاجعة، كانت العائلة تظنّ أن الانفجار تسببت به أنبوبة الغاز، بعد أن امتلأ البيت بالجيش والمخابرات، اتّضح كلّ شيء، كان السبب قنبلة بحجم 22 كيلو غرامًا من مادة شديدة الانفجار معدة للقيام بعملية عسكرية.

بكت نابلس وأهلها الشهيدة أبو غزالة بحرارة، وخرجت المدينة لتوديعها، وعلى قبرها، كتبت أبيات الشاعر معين بسيسو التي لطالما رددتها شادية "أنا إن سقطت، فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاح".

*خريجة حديثًا من دائرة الإعلام بجامعة بيرزيت

المصدر: جريدة الحال

تصميم وتطوير