من ذاكرة الوطن ومن عبق الابداع .. يحضر الشاعر والمناضل والأسير محمد علي الصالح

29.11.2015 11:45 AM

وطن - كتب: حسن عبد الله : كم شعرت بالأسى وأنا أقرأ ديوان الشاعر والمناضل الفلسطيني القديم والمتجدد "محمد علي صالح" رغم رحيله منذ سنوات. وقد صدر الديوان مؤخراً وحمل عنوان "مرافيء العمر"، حيث ما أن تلقفته من يد نجله الشاعر المبدع ووكيل وزارة الثقافة "عبد الناصر صالح"، حتى أقبلت عليه قراءَة واستيعاباً واستمتاعاً.

ومصدر الأسى الخصه في نقطتين واحدة خاصة والثانية عامة: أما الخاصة فتتمثل في عدم المامي من قبل بالمكوّنات الشعرية والشخصية لمناضل فلسطيني وشاعر كبير أمضى في المعتقلات البريطانية ست سنوات خلال استعمار فلسطين، ولأنني أعتبر واحداً  من الذين أرخوا ووثقوا لتجربة الأسر الفلسطينية في الماضي والحاضر، واصدرت مجموعة من الدراسات والبحوث في هذا الشأن، ولم أتطرق فيها لهذه القامة النضالية الشعرية الفلسطينية الباسقة، لا من باب الإهمال وإنما لأنه لم يتسن لي الاطلاع من قبل على دور "الصالح" النضالي وتراثه الشعري، ولو أتيح لي ذلك لأثرت التجربة المذكورة ما أنتجت وأصدرت على هذا الصعيد.

أما النقطة الثانية، وهي قضية عامة، تتعلق بنا نحن الفلسطينيين، لأننا ما زلنا نعاني قصوراً في مجال التأريخ والتوثيق، فما أنجزناه ظل متواضعاً ولم يصل إلى مستوى تجربة طافحة بالمعاناة والمرارة، عمرها أكثر من قرن، أي منذ ان أُستهدفت بلادنا أرضاً وشعباً.

وأقول إن هناك محطات نضالية لم يؤرخ لها كما ينبغي، في حين لم توثق تجارب وابداعات "أعلامنا" الرواد الذين لهم حق علينا بتخليدهم لأنهم يستحقون ذلك، مع الإشارة الى الجهد الفردي الرائع على هذا الصعيد الذي يبذله الباحث والمؤرخ الفلسطيني الصديق" جهاد صالح"، لكن العملية تحتاج إلى عمل مؤسساتي وإلى فرق بحثية متكاملة، فالمهمة كبيرة وشائكه.

ما ذكرت ووصفت ينسحب تماماً على تجربة الشاعر والمناضل "الصالح"، غير انه يمكن لنا معالجة القصور، فالفرصة ما زالت قائمة.

وقبل أن اسلط الضْوء على أشعار هذا المناضل لابد من التقديم لذلك ببعض المعلومات التاريخية المهمة:-
أولاً- ان "محمد علي الصالح" هو من أوائل من أبدعوا قصائدهم في المعتقلات البريطانية، إذ أمضى اسيراً صلباً أكثر من ست سنوات.
ثانياً- كان الشاعر سباقاً عندما كتب في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي عن القدس كعاصمة للدولة الفلسطينية.

ثالثاً- حذر مبكراً من وعد "بلفور" المشؤوم وتداعياته، حينما كان طالباً في "الكلية الإسلامية" بالقدس.
رابعاً- أسهم في تأسيس إتحاد طلبة فلسطين ما بين عامي 1924-1925.
خامساً- انتخب رئيساً للمؤتمر الثاني للطلبة الفلسطينيين الذي عقد في عكا، في العام1930 بينما عقد المؤتمر الأول في يافا عام 1929 برئاسة "محمد أديب العامري".

ويمكن تلخيص أهم الموضوعات التي كتب "الصالح" فيها شعراً:- الوطني، التعبوي، التثقيفي، التحريض ضد المؤامرات، الرئاء، المدح، الغزل، الحث على العلم، الحنين، إضافة إلى أشعاره القومية الوحدوية.
وتمتاز قصائد الديوان التي نظمها على بحور الشعر العربية المعروفة، بقوة اللغة وجزالة التعبير والتسلسل السلس، حيث ان التماسك اللغوي والمنطقي في بنيان القصيدة، لم يكن على حساب المعنى، لأنه نأى بقصيدته عن التعقيد والتقعر اللغوي، وجعلها قصيدة قابلة للفهم والاستيعاب.

وعندما نظم قصيدة "الفدائي" التي أهداها إلى "فريد يعيش"، أو عندما رثى الشيخ المجاهد القسام، فانه فتح أبواب اللغة على مصارعيها، ليكون بمقدور القاريء، أن يقرأ ويتعلم ويستوعب ويتمتع ويعيد الأبيات بينه وبين نفسه مرات ومرات، وكأن القصيدتين تصلحان في كل مكان وزمان للتعبئة والشحذ الواعي الذي يتغلغل في العقل والوجدان.
"الصالح" نفث قصائده من روحة ومن شفافية نفسه وعمق وطنيته، فحين كتب في المعتقل، كتب بقلم صموده وأعصابة وسنوات شبابه، لم يجلس في زنزانته مكسوراً محبطاً مهموماً،وإنما راح يبشر بغد قادم، حتى وإنْ تأخر، فان قدومه حتمي صحيح ان استعماراً رحل واستبدل باحتلال ، الا أن قصيدة "الصالح" رأت الإستقلال منتصباً شامخاً على ركام استعمار وركام إحتلال من بعده. فقناعة الشاعر قد حملتها قصيدة كانت حرة طليقة حتى والشاعر يرسف في الأغلال، لأنه كان يتحسس الحرية باصابع القصيدة. لقد رحل عن الدنيا بعد سنوات وسنوات وهو مصدق ان أصابع القصيدة الحقيقية لا تخطىء وأن عينيها ترى الإستقلال بمنطق القوانين التاريخية والإجتماعية حتى قبل ان يتجسد ذلك بعقود.

في ديوان "مرافيء العمر"، قرأت وعلمت أن البلاغة تورث وأن الوطنية غدت تسري في الجينات وأن إحساس الصدق وصدق الإحساس ينتقل من أب مناضل وشاعر إلى ابن مناضل وشاعر، ليستهل الإبن الشاعر "عبد الناصر صالح" ديوان الأب الشاعر ب "مرثية لفارس القصيدة" عبّرت عن وفاء وبر بالوالد وإحترام للذكرى، في تأكيد وطني وشعري وابداعي، أن "عبد الناصر" حمل أمانة لواء القصيدة، وسار بها من طولكرم إلى كل مدننا وقرانا وبلداتنا.
توقفت دورة حياة الشاعر، لكنه ظل حياً في القصيدة، يتحدث بها ....ومنها.... إليها.... إلينا- حيث ما انفكت قصيدته تقول:
إنَ في الحيّ شَباباً أثْبَتوا
                             أنَّهُمْ، في الحَقَّ، أُسْدٌ نُجُبا
وطَنٌ يَنْبِضُ فيهِمْ قَدَراً
                             وبِهِمْ يَسْمو "جَليلاً".. "نَقَبا"
عاهَدوا الأرْضَ بأنْ يَنْتَفِضوا
                            ضِدَّ وَغْدٍ واهِمٍ أنْ نُغْلَبا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير