عشية المؤتمر السابع.. التجمع الوطني وفلسطينيو الـ48- كتب: عوض عبد الفتاح*

28.04.2016 11:40 AM

تنشأ الأحزاب الجدية كنتاج حالة تفاعلية بين نخبة مرهفة الحس بغياب العدالة، وواقع تموج فيه عوامل الغليان يحتاج إلى تغيير. وإنشاء حزب عملية ليست سهلة، والحفاظ عليه، عبر جهد مستمر لا يتوقف، أكثر صعوبة. في ظروف ثورية مواتية ومزاج عام مهيئ لاحتضان الفكرة الجديدة والمشروع الجديد، يكون إنشاء الأحزاب أقل تعقيداً. ولكن حين يكون الانكسار قد أخذ كل مأخذ من جماهير الشعب فإن المهمة تبدو مستحيلة. مع ذلك نجحنا في بناء حزب وطني جديد، هو حزب التجمع الوطني الديمقراطي، تحول بعد فترة قصيرة إلى حزب مركزي وأكثر الأحزاب استهدافاً من قِبل المؤسسة الإسرائيلية.

كانت فكرة إطلاق حزب فلسطيني وطني جديد داخل الخط الأخضر في أوائل التسعينات، فترة الانهيارات والانكسارات الكبرى، تبدو خيالية. وهو الآن، ورغم محاولات الشطب المتكرر، وحملات التحريض الدموي، والملاحقات، يتهيأ الحزب لعقد مؤتمره السابع أوائل حزيران القادم. لقد كانت المؤسسة الإسرائيلية قد شخصته، بعد فترة من انطلاقه، كحزب متطرف لا يعترف بحق اليهود في دولة اليهود، مع أنه حزب يخوض انتخابات الكنيست. واعتبر رئيس المخابرات (الشاباك) السابق، عامي أيلون عام 2001، "أن حزب التجمع ورئيسه عزمي بشارة تجاوزا الخط الأحمر ويجب تقديمهما للمحاكمة"، وأضاف "أن التجمع استطاع نقل هذا الخطاب السياسي من هامش المجتمع إلى مركزه". غير أن المحكمة الإسرائيلية لم تجد مبرراً قانونياً بشطب الحزب، ومع ذلك ظلت محاولات شطبه تتكرر منذ عام 2003 عشية كل انتخابات للكنيست. هناك الآن أصوات من داخل الحكومة الإسرائيلية تطالب بحظر التجمع بعد حظر الحركة الإسلامية بحجة تحديه ليهودية الدولة ودعمه للنضال الفلسطيني التحرري. ويقود الحملة ضده رئيس الحكومة، بنيامين نتانياهو نفسه، وهذا أمر غير مسبوق.

جاء إطلاق حزب التجمع رسمياً عام 1995، في ظروف بالغة الصعوبة، حيث ساد مزاج شعبي قانط ومستنكف. فالهزائم والانهيارات العالمية والعربية والفلسطينية كانت تلقي بظلالها الثقيلة على النفوس والعقول. ومع توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 بدا وكأن الصهيونية سددت ضربتها النهائية لمشروع التحرر الوطني الفلسطيني، وكأن ما عاد أمام شعبنا الفلسطيني في الضفة والقطاع والشتات سوى التعلق بالوهم وانتظار الوعد الزائف المتضمن في أوسلو أنه بعد خمس سنوات ستأتي دولة فلسطين وتقوم على 22% من فلسطين، وأن الطريق ستفتح بعدها أمام ملايين اللاجئين. عارض التجمع اتفاق أوسلو وتوقع فشله.
  اما الفلسطينيون داخل الخط الأخضر، حاملو الجنسية الإسرائيلية الذين تم إخراجهم من الحل واعتبارهم شأن إسرائيلي، وبعض الأحزاب معهم، فقد ظنّ الكثير منهم أنه لم يبق أمامهم سوى التسليم لواقع الدولة اليهودية وشرعنة بل أدلجة الوهم بأنه بالإمكان تحقيق المساواة دون إلغاء يهودية الدولة. وقد فاقم هذا الوهم إقدام إسحاق رابين رئيس حكومة إسرائيل آنذاك على زيادة ميزانيات مالية للمواطنين العرب، واعترافه بوجود تمييز ضدهم.

كان أوسلو، الذي منح الشرعية للنظام الإسرائيلي، نظام الأبارتهايد الكولونيالي، يعني إهالة التراب على قضية فلسطينيي ألـ 48 كقضية وطنية، كجزء من قضية فلسطين، وكجزء من الصراع العربي-الصهيوني.

لم تخل ساحة فلسطينيي الداخل من الحراك الوطني والسياسي منذ عام 1948، بل نشطت منذ ذلك التاريخ قوى وأوساط وشخصيات في مواجهة التمييز والعنصرية ومصادرة الأرض وبشكل خاص الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي رفض الصهيونية كأيدلوجية ولكنه مجّد إسرائيل كدولة "تُجسد حق تقرير المصير لليهود". ولكن من تصدى لجوهر المشروع الصهيوني ولمخططات طمس الهوية الوطنية الفلسطينية، تعرض لقمع مضاعف، وطورد ولوحق، ونزعت عنه الشرعية القانونية. وعرف هؤلاء المناضلون بالقوميين، أو التيار القومي. (حركة الأرض، وحركة أبناء البلد وحركات وطنية محلية أخرى).

لم يكن ليتصدى، أيدلوجياً ووطنياً، وعبر خطاب سياسي حديث، للأوهام التي نثرها اتفاق أوسلو، سوى التيار القومي الذي هو امتداد لحركة الأرض ولحركة أبناء البلد وللشخصيات ذات الميول القومية في أحزاب وحركات أخرى. وقد جرى إعادة بناء هذا التيار، بصورة خلاقة، بعد إجراء عملية نقدية داخلية جريئة، كحزب جماهيري كبير هو التجمع الوطني الديمقراطي. بل يمكن القول أن بناء حزب التجمع، من عدة تيارات وشخصيات، وهي تجربة حزبية اندماجية غير مسبوقة على الساحة الفلسطينية عموماً، شكلت أهم وأكبر عملية نقد مُثمرة، لمجمل التجربة السياسية لفلسطينيي ألـ 48 ولمسيرة  أحزابهم كلها. وقد جرى بناؤه سياسياً وفكرياً بطريقة تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية العميقة التي طرأت على مجتمعنا الفلسطيني داخل الخط الأخضر وعلى المشهد الإسرائيلي، وعلى المشهد الفلسطيني والعربي والعالمي. ونقصد بالمتغيرات، تلك التي مست علاقة المواطنين العرب بالمواطنة الإسرائيلية إلى جانب علاقتهم بالهوية الوطنية الفلسطينية، وهي العلاقة التي بدأت تشهد تحولاً منذ السبعينات بعد نشوء شريحة متعلمة واسعة نسبياً، وبرجوازية صغيرة، مرتبطة اقتصادياً بالنظام الإسرائيلي. ما معناه أن بعض هذه الشرائح بدأت تتعامل مع المواطنة الإسرائيلية بجدية وتسعى إلى تحقيق ما تتضمنه من حقوق. وتُرجم ذلك في برنامج سياسي يجمع بين الحفاظ على الهوية الوطنية لفلسطيني الداخل وحقهم في التنظيم القومي، من جهة، والمطالبة بالمواطنة الديمقراطية الكاملة في مواجهة البنية الصهيونية- الكولونيالية للدولة العبرية، وليس في إطارها.

لم يقصد المؤسسون للتجمع حصر الصراع بالفلسطينيين داخل الخط الأخضر، وإن كانت هذه الساحة هي الميدان الرئيسي لنشاطه. إنما أيضاً ضمّنوا في برنامج الحزب تجديد الصراع ضد الحركة الصهيونية وتجسيدها إسرائيل وهذا بحد ذاته كان رداً على تخلي التيار الرئيسي داخل منظمة التحرير عن الكفاح ضد الصهيونية باعتبارها مصدر الظلم اللاحق بشعب فلسطين. وبالتالي فإن ذلك شكل التزاماً من جانب حزب التجمع، باعتباره العمود الفقري للتيار الوطني الفلسطيني، والقومي العربي، داخل الخط الأخضر بمواصلة تصديه للأيدلوجية الصهيونية ولمحاولات منحها الشرعية. وكان ذلك مفاجئاً للمؤسسة الإسرائيلية وأذرعها، التي اعتقدت أن جميع الفلسطينيين داخل الخط الأخضر سيسارعون بتأييد أوسلو الذي وقع عليه حزب العمل الصهيوني وقيادة منظمة التحرير، والبدء بالتصرف كمواطنين موالين لدولتهم لمجرد أن الدولة اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية (الحزب الشيوعي أيد أوسلو). فقد اعتقدت قيادة حزب العمل وأذرعها الأمنية أنها أسدلت الستار على المطالب القومية لفلسطينيي الداخل، إذ في مفهومهما، جرى التعبير عن هذه الحقوق في الاستعداد لإقامة كيان فلسطيني على جزء من الضفة الغربية. وإذ بها تفاجئ بظهور المطالب القومية مجددا، وإعادة إحياء الهوية الوطنية، من داخل منطقة ألـ 48، وبحلة جديدة، تربط تحصيل الحقوق اليومية والمدنية والحق في الأرض وفي التطور الطبيعي، بإلغاء يهودية الدولة، أي البنية الصهيونية، في إطار مطلب دولة المواطنين.. وهو أمر تراه المؤسسة الصهيونية، تفكيك الدولة اليهودية وانحلالها. وهكذا تمكن التجمع من وضع إسرائيل، ولأول مرة في تاريخها، ومن داخلها، أمام حقيقتها.

كيف جسّد التجمع علاقته بالقضية الفلسطينية

لقد جسّد التجمع علاقته بالقضية الفلسطينية وبالمشروع التحرري عبر الممارسات التالية: أولاً، مواصلة وتجديد الصراع ضد الصهيونية كأيدلوجية وكممارسة.
ثانياً، عبر النضال  والتمسك بمطلب إنهاء الاحتلال والاستيطان، وعبر المطالبة بالتمسك بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم (48).

وثالثاً، عبر رفع شعار المساواة الكاملة وخوض نضال من أجل تفكيك منظومة القهر العنصري والكولونيالي التي تمارس سياسة التمييز والنهب ضد المواطنين العرب. ويُعبّر عن ذلك في التثقيف الحزبي الداخلي، والكتابة في الصحف، والاجتماعات الشعبية، والحملات الانتخابية، والخطابات في الكنيست، وفي الجولات في دول العالم، والمخيمات الشبابية والطلابية.
أما على المستوى القومي العربي، فقد جسّد التجمع هذه العلاقة، عبر:

أولاً، عبر التثقيف المنهجي للشباب والكوادر الحزبية، على الانتماء التاريخي والثقافي والحضاري للأمة العربية واستلهام الوحدة العربية من خلال نقدها وتطويرها في سياق الربط بين القومية والديمقراطية كبديل عن الدكتاتورية والاستبداد التي حالت دون تحقيق نهضة قومية عربية حقيقية (وهذا لا تقوم به الأحزاب الأخرى). بكلمات أخرى، لقد تميّزت قومية التجمع عن غيرها من الكثير من الأحزاب القومية العربية الحاكمة وغير الحاكمة، من خلال ربطها بالفكر الديمقراطي، وحرية الإنسان العربي، وحرية الشعوب. ولهذا وقف التجمع مع الثورات العربية منذ اليوم الأول وذلك انسجاماً مع التزامه بنهضة الأمة العربية التي باتت غير ممكنة بدون إسقاط الاستبداد وتحقيق حرية الإنسان. وإطلاق طاقاته لبناء وطنه، ولمواجهة الهيمنة الخارجية.

ثانياً، جرى تجسيد العلاقة مع الامة العربية، عبر التواصل الفعلي مع العالم العربي، ومع نخبه ومناضليه، وأحزابه ومثقفيه. مما لا شك فيه فإن البطش بالثورات العربية ومحاولات تدميرها وفتح الباب أما التدخلات الإمبريالية العالمية، والعربية والإقليمية الرجعية، أدى إلى تعثر هذا التواصل مع شعوب العالم العربي. رغم الكوارث، فإن الشعوب العربية، كسرت حاجز الخوف، وأدركت طريق الخلاص، وأن هذا الطريق الإجباري صعب وطويل.   

ما هي المهام أمام التجمع؟

قبل المحاولة الإجابة على السؤال؛ ما هي التحديات التي تواجه فلسطينيي ألـ48، وهل يمكن فصلها عن تلك التحديات التي تواجه شعبنا في كل مكان.

التطورات الجارية على مشهد الصراع في العقد الأخير، تقود إلى وضوح منظومة القهر. أنه نظام الأبارتهايد الكولونيالي الذي قطع خطوات كبيرة باتجاه تضييق الفوارق في المعاملة بين الفلسطينيين "مواطني دولة إسرائيل" والفلسطينيين في الضفة والقطاع. حيث أصبح اليمين الاستيطاني الحاكم ينظر إلى الفلسطينيين من على شقي الخط الأخضر، أكثر من أي وقت آخر كعدو واحد. ولم تحسم النخب الإسرائيلية الحاكمة سياستها الواضحة والنهائية تجاه 1.4 مليون عربي يحملون المواطنة الإسرائيلية. ومع أن الأحزاب العربية داخل الخط الأخضر لعبت ولا تزال دوراً هاماً في الدفاع عن حقوق المواطنين العرب، ورفع مستوى الوعي السياسي، ألا أنها مختلفة في كيفية تجسيد العلاقة مع الدولة العبرية ومع القضية الفلسطينية ومع المشروع الوطني، وقد بدأ هذا النقاش يتطور في السنوات الأخيرة، أي من موقف يكتفي بالنضال من أجل المساواة في داخل دولة إسرائيل دون مجابهة يهودية الدولة، إلى موقف، يذهب أبعد من ذلك، نحو المطالبة بإلغاء يهودية إسرائيل ومنظومة القهر العنصرية (قوانين ومؤسسات) والارتباط فعلياً بالمشروع الوطني الفلسطيني التحرري. كما يطرح ويمارس التجمع الوطني الديمقراطي.

يرى التجمع أن فلسطينيي ألـ48 يستطيعون أن يلعبوا دوراً مهماً في المشروع الوطني الفلسطيني، على المستوى الاستراتيجي:

أولا: في إبقاء الصراع مع الصهيونية مشتعلاً، والسعي المنهجي في فضح إسرائيل كنظام أبارتهايد كولونيالي وليس كدولة طبيعية تمارس التمييز ضد جزء من مواطنيها غير اليهود، والاحتلال لدولة جارة.

ثانياً: عبر تطوير النشاطات والنضالات المشتركة الفكرية والثقافية، والأكاديمية والشبابية، والشعبية التي تساهم في الصيرورة الجارية نحو إعادة الوعي إلى كوننا شعب واحد وله حق تقرير المصير في كافة أماكن تجمعاتنا، وإلى كون قضية فلسطين هي قضية تحرر وطني من نظام كولونيالي استيطاني.

ثالثاً: المشاركة في الحملات الدولية (حملات المجتمع المدني) لمقاطعة إسرائيل.

لكن كيف يمكن أن نقوم نحن الفلسطينيين في الداخل بهذا الدور بشكل أفضل:

أولاً: عبر تقوية مؤسساتنا الوطنية وهيئاتنا التمثيلية، وهذا يأتي عبر تقوية لجنة القيادة العليا للجماهير العربية الفلسطينية (لجنة المتابعة) التي يطرح التجمع منذ قيامه ضرورة جعلها مؤسسة عربية، ومنتخبة من الفلسطينيين مباشرة، كبديل، أو بالإضافة، إلى انتخابات الكنيست. وهذا يجب أن يكون المشروع القادم لهذا الجزء من شعبنا.
هذه اللجنة العليا مُشكلة من كل الأحزاب العربية، ومن رؤساء السلطات المحلية، ولكنها غير منتخبة وليس لديها مؤسسات حتى الآن. وبالتالي فإن المطلوب، هو بناء مؤسسات مهنية وفي مقدمتها صندوق قومي يكون سنداً لمشروع البناء الذاتي.

ثانياً: تعزيز وتطوير القائمة المشتركة، دوراً وخطاباً، التي خاضت انتخابات الكنيست، في الدورة الانتخابية الأخيرة، 2015. وهي خطوة تاريخية، جرى العمل عليها منذ سنوات طويلة بعد رفع نسبة الحسم، وبعد أن اضطر الحزب الشيوعي إلى سحب اعتراضه على فكرة القائمة المشتركة. وكان للتجمع الدور الأبرز في الوصول إلى هذه القائمة، كونه حزباً قومياً عربياً نظر ودعا بصورة منهجية على مدار 20 عاماً لإقامة تحالف انتخابي شامل في مواجهة الأحزاب الصهيونية، والمؤسسة الإسرائيلية، في إطار نظرته القومية الوحدوية.

إن نجاح الفلسطينيين داخل الخط الأخضر في توطيد هويتهم الوطنية، وإقامة مؤسساتهم، وتطوير خطابهم السياسي –الوطني، وتطوير استراتيجية نضال شعبي ضد مخططات المصادرة والحصار، والافقار، والقوانين العنصرية السافرة، هو مساهمة فعلية ومنهجية، استراتيجية، في الدفاع عن الشعب الفلسطيني وقضيته.
وبالتالي فإن قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية مطالبة بتطوير مفهومها لدور وموقع هذا الجزء من شعبنا في المشروع الوطني الفلسطيني، باعتباره  ذخراً استراتيجيا في مشروع التحرر.

 

*الأمين العام لحزب التجمع الوطني الديمقراطي- الناصرة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير