حلب.. القصة الكاملة

06.05.2016 11:41 AM

وطنتحقيق مريم زم - نضر فارس

فيما كنا نكتب هذه السطور، كانت القذائف تنهال على الأحياء السكنية في مدينة حلب، وتشهد أحياؤها الغربية أعنف الهجمات من قبل المسلحين الذي شنوا أيضاً هجوماً على خان طومان. بالمقابل يقوم الجيش السوري بقصف مناطق سيطرة المسلحين وطرق إمدادهم. وبين هذا وذاك يسقط المدنيون. أبناء حلب يقتلون في الطرقات والمشافي وحتى في غرف نومهم.

ليس ما يجري في حلب اليوم من قصف ودمار وأشلاء خارجاً عن سياق الحرب اليومية في سوريا، بل هو مشهد تكرر في أكثر من مدينة وبلدة سورية في مسرحية الحرب العبثية، بل ليس الأول الذي يمر على حلب نفسها، فهي وإن حاولت النأي بنفسها بداية عن نار الحرب، إلا أن موقعها وأهميتها جعلاها تتصدر المشهد منذ العام 2012 وحتى اليوم.
تخلفت حلب عن ركب الأزمة السورية، حتى كان صادماً للكثيرين عدم خروج مظاهرات مناوئة للنظام في المدينة حتى وقت متقدم من السنة الأولى للأزمة، وجهدت المعارضة لحشد شعبي في العاصمة الاقتصادية الأهم في سوريا، لكنها لم تفلح إلا في بضع مظاهرات متفرقة.

ولكن الريف الحلبي كان قد سبق المدينة بأشواط، فتشكلت ألوية وكتائب في معظم بلداته الشمالية وكانت عماد الجناح العسكري الأول للمعارضة "الجيش السوري الحر"، وخصوصاً "لواء التوحيد"، الذي تسلل إلى حلب وسيطر على عدد من أحيائها في شهر تموز/يوليو 2012، وبين هذه الأحياء صلاح الدين وسيف الدولة والصاخور والسكري ومساكن هنانو.

حاول الجيش السوري استعادة الأحياء التي فقدها، نجح في بعضها ولم يفلح في غالبيتها، بينما كانت قوات المعارضة تتمدد في الريف الحلبي، وشهدت أحياء المدينة لاحقاً عمليات كر وفر، وتقريباً بدأت خطوط التماس تظهر بشكل واضح بعد نهاية 2013، هكذا أصبحت المعارضة تسيطر على أغلب الريف الحلبي، وعلى ما يقرب من 40% من المدينة، فيما تسيطر القوات النظامية على 60% منها.

عملت المعارضة على خنق حلب اقتصادياً، وذلك من خلال سيطرتها على الطرق الدولية المؤدية إلى حلب، ابتداءً من مدخل حلب الجنوبي الغربي (طريق الشام)، ومدخلها الشمالي الغربي (طريق حلب – إعزاز)، ومدخلها الشرقي عند مطار حلب الدولي، وحوصرت المدينة لأشهر وقطعت عنها الكهرباء والماء والمواد الأساسية، فعمد الجيش السوري إلى هجوم واسع استعاد من خلاله الطريق من السفيرة إلى شرق حلب، وبات  هذا الطريق الشريان الوحيد لأهالي حلب الموجودين في أماكن سيطرة الدولة السورية، بينما كانت مناطق سيطرة المسلحين مفتوحة على الحدود التركية شمالاً وعلى الريف الإدلبي غرباً.

عند بداية التدخل الروسي العسكري في سوريا، بات واضحاً أن حلب ستكون من أهم أهداف هذا التدخل، خصوصاً عندما وقع الخلاف الروسي التركي إثر حادثة إسقاط السوخوي الروسية قرب الحدود التركية، وباتت معركة حلب مهمة للروس لكسر الأتراك باعتبار الأهمية الاستراتيجية والمعنوية والاقتصادية لحلب عندهم.

بدأ الجيش السوري معارك حلب بدعم جوي روسي، ولكنه انطلق من الريف، باعتبار معارك الريف قد تمهد لـ "نصر سهل" في المدينة، وكسب الجيش الرهان في ريف المدينة الجنوبي وسيطر على مساحات واسعة، كان أهمها السيطرة على "الحاضر"، المعقل الأساسي لجبهة النصرة وأحرار الشام في المنطقة، ثم استكمل المعارك بفك الحصار عن مطار كويرس العسكري، الذي كان محاصراً من قبل داعش، وكانت النهاية بفك الحصار عن بلدتي نبل والزهراء في ريف حلب الشمالي، والذي شكل حدثاً أعطى انطباعاً بأن الجيش السوري بات صاحب اليد الطولى في معارك حلب، وأن القادم من المعارك لن يصب إلا في صالحه.

مدينة خارج الهدنة

بعد أن تم التوصل إلى اتفاق وقف الأعمال القتالية في سوريا، بدا واضحاً أن جبهات حلب خارج الاتفاق، باعتبار وجود تنظيم "جبهة النصرة" على أغلب هذه الجبهات، وكون التنظيم مصنفاً على لائحة الإرهاب، وغير مشمول بالهدنة.
على الرغم من ذلك لم يبدأ الجيش السوري أي معركة في حلب حينها، وكانت التقارير تتحدث عن حشود ضخمة تتوجه إلى حلب، كما نقلت مصادر المعارضة وبعض المصادر الغربية أخباراً عن وصول قوات خاصة إيرانية إلى حلب للمشاركة في معركتها.

خرقت جبهة النصرة هدوء الجبهات أكثر من مرة، وخصوصاً على محور تلة العيس بريف حلب الجنوبي، انتهى أكبر هذه الهجومات بسيطرة الجبهة وحلفائها على التلة الاستراتيجية، فكان الرد من "غرفة عمليات حلب" التي تقود عمليات الجيش السوري وحلفائه في حلب ببيان يتوعد المسلحين "بنار جهنم".

ولكن في يوم السبت 23 نيسان/أبريل 2016 بدأ المسلحون حملة قصف شديدة على الأحياء الغربية والشمالية الملاصقة لمناطق سيطرة المسلحين، وتركز القصف على أحياء الخالدية والأشرفية وشارع النيل والسبيل والموكامبو والميدان والعزيزية والسليمانية، فيما كان مصدر القصف بشكل كبير من حي "بني زيد" شمال غرب حلب الذي تسيطر عليه جماعات مسلحة قريبة من جبهة النصرة وأحرار الشام.

لماذا حلب؟ ولماذا التصعيد الأخير فيها؟

على مر العصور لم تكن حلب مدينة هامشية أو غير مؤثرة في صنع التاريخ، فعلى مدى التاريخ كان موقع المدينة وطبيعتها يؤهلانها للعب دور مهم في تاريخ الدول والممالك، وقد تعرضت المدينة للتدمير عدة مرات بفعل الحروب التي طاولتها.
وما يحدث اليوم ليس خارجاً عن السياق التاريخي، فحلب اليوم تدفع ضربية أهميتها الاستراتيجية، وموقعها المميز، وعن ذلك يقول عبد القادر عزوز أحد أعضاء الوفد الحكومي المفاوض في جنيف وأستاذ العلاقات الدولية بجامعة دمشق "المعركة في مدينة حلب هي معركة دوليّة مصغّرة، ولا شك أن الكلمة الفصل فيها ستكون للجيش السوري، فوضع الجيش جيد والحاضنة الشعبية له في حلب كبيرة، في حين لا يوجد أي تقبّل لثقافة الموت التي تحملها الجماعات المسلحة".
ويتابع "تأتي أهمية المعركة من التحول الدراماتيكي الرهيب لمسار الحرب الدائرة منذ خمس سنوات، وهذا يدركه الجميع، فحلب هي بيضة القبان في المعركة الإقليمية والدولية الخاصة بسوريا".
أما عن السبب الأساسي للتصعيد العسكري الأخير في مدينة حلب المتمثل بقصف الأحياء السكنية والهجوم على خطوط التماس في حلب، فيرى عزوز "إن ذلك بسبب شعور المجموعات المسلحة بأن وقف الأعمال القتالية خدم نسبياً الجيش السوري في معركة تحرير تدمر والقريتين وأنه ربما سيكون له انعكاس على معركة تحرير حلب، ولم يرق لهم ذلك، بالإضافة إلى أن ما جرى هو محاولة لتعطيل مسار جنيف 3".
ويتابع عزوز إن "سوء نوايا المسلحين تجاه الهدنة دفعهم لاستثمار هذه المرحلة بتخزين السلاح والحصول على سلاح نوعي مضاد للطيران وبناء الأنفاق والمتاريس، حيث لم تكن الهدنة نابعة من قناعاتهم بالعمل السياسي، والدليل أن هذه المجموعات التي أعلنت قبولها بالهدنة لم تفك ارتباطها مع جبهة النصرة وبالتالي عندما أعطيت إشارة الإنطلاق في خرق الهدنة خرقتها وهاجمت الأحياء الآمنة في حلب".

الخارطة الميدانية.. لمن تميل الكفة؟

بحسب مراسل الميادين في حلب رضا الباشا يسيطر الجيش السوري يسيطر على نسبة 60% من المدينة وتتركز سيطرته في الأحياء الغربية ووسط وجنوب غرب وشمال غرب المدينة، بينما تسيطر المجموعات المسلحة على 40% منها وتتركز سيطرتها شرق المدينة وبعض الأحياء الشمالية الشرقية والجنوب شرقية، ويقتطع الأكراد جزءاً من هذه السيطرة في حي الشيخ مقصود شمال حلب.
غالبية الجماعات المسلحة في حلب تابعة لجبهة النصرة أو مرتبطة بها، بالإضافة لبعض الفصائل المدعومة من تركيا مثل "نور الدين الزنكي" و"مراد باشا"، ومجموعات تابعة لأحرار الشام، وأخطر هذه المجموعات هو لواء "شهداء بدر" الذي كانت له اليد الطولى في قصف أحياء حلب الآمنة بقذائف محلية الصنع مصنوعة من قوارير الغاز.

بلغ عدد سكان مدينة حلب قبل الأزمة ما يقارب 4 ملايين نسمة، بقي منهم مليونا نسمة  في المناطق التابعة لسيطرة الدولة السورية، و300 ألف نسمة في مناطق سيطرة المعارضة المسلحة.

وإذا استطلعنا خارطة توزع السيطرة نرى أن الجيش السوري يملك نقاط قوة كبيرة، منها سيطرته على الطريق إلى نبل والزهراء وعلى مخيم حندرات، وهذا يتيح له في حال التقدم غرباً على ذلك المحور أن يقطع خطوط إمداد المسلحين إلى قلب المدينة، كما إن تقدمه جنوب المدينة يعطيه ثقلاً كبيراً في الريف يتيح له التمدد غرباً، ولكن تبقى معركة حلب القديمة والأحياء الشعبية ذات طبيعة خاصة ربما تشكل صعوبة على الجيش في حال أراد الدخول إليها، وتشكل نقطة قوة للمسلحين الذين لا تزال خطوط إمدادهم مفتوحة من الحدود التركية مروراً بالريف الإدلبي القريب من جهة الغرب، والتي تعطيه نقطة قوة في هذا المجال. 

المعارضة تتهم النظام والروس بخرق الهدنة

المعارضة سواء بشقّها السياسي أو العسكري، اتهمت الجيش السوري بقصف الأحياء التي تسيطر عليها في حلب وبخرقه الهدنة في المدينة، وفي هذا السياق يقول ملهم الدروبي القيادي في جماعة "الإخوان المسلمين" للميادين نت إن "خروقات الهدنة موثقة منذ أول أيامها، نحن في اليوم 67 من الهدنة والخروقات قاربت الألف من قبل القوات الروسية والنظام، المعارضة والجيش الحر لم يخرقا الهدنة مطلقاً، قد يكون هناك بعض الفصائل التي لم تكن داخلة في الهدنة أصلاً وغيرها ونحن غير معنيين بذلك".
لكن الدروبي يتنصل من الممارسات التي تقوم بها جبهة النصرة، دون أن يفك الارتباط بها نهائياً، معترفاً بأنهم طالبوا بشمولها بالهدنة بداية، قائلاً "موقف المعارضة السورية من جبهة النصرة معروف وواضح. نحن لا يجمعنا شيء مع النصرة سوى محاربة النظام السوري، ولا يوجد تنسيق بيننا وبينها، لكن في بداية الإعلان عن الهدنة اقترحنا أن تكون شاملة لجميع الأطراف المتصارعة في سوريا كي نتفادى أن يكون هناك أية خروقات، لكن طبعاً لم يستمعوا لنصيحتنا".

ورداً على الاتهامات التي ساقها مؤيدو الجيش السوري حول استغلال المعارضة للهدنة للتزود بالسلاح النوعي والتحضير لقتاله، يقول الدروبي "دفاع الإنسان عن نفسه في ظل قصف متواصل من قبل الطيران الروسي ليس تهمة، الهدنة هي الالتزام بوقف إطلاق النار، ونحن التزمنا بذلك، على عكس الجيش السوري والقوات الروسية".

يؤكد الدروبي أن "المعارضة شأنها شأن كل الأطراف كانت تستعد خلال فترة وقف إطلاق النار وحشدت لمعركة حلب" قائلاً "يجب أن نستعد بكل ما لدينا من إمكانات وقوة، لا يعقل أن نقف مكتوفي الأيدي أمام هذا الغزو والاعتداء من جهات لا تلتزم بشروط الهدنة ولا بالإتفاقات الدولية".

لا ينفي الدروبي سقوط مدنيين جراء القذائف التي تطلقها المعارضة على أحياء حلب الغربية حيث يقول "بكل تأكيد سيكون هناك ضحايا مدنيون، يجب أن ننظر من هو المتسبب في خرق الهدنة التي وقّع عليها الجميع، لا يعقل أن يكون الناس آمنين في حلب والقوات الغازية الروسية وقوات النظام تقصفهم ويقفون مكتوفي الأيدي، بالتأكيد سيدافعون عن أنفسهم والدفاع عن النفس قد يتسبب في بعض الأحيان بسقوط ضحايا من المدنيين".

الحكومة السورية بين الهدنة ومعركة تحرير المدينة

رفضت الحكومة السورية ضمنياً ضم حلب لاتفاق وقف الأعمال القتالية، ذلك أن غالبية الجبهات في المدينة وريفها تسيطر عليها جبهة النصرة وحركة أحرار الشام ومجموعات مرتبطة بهما، وهما تنظيمان "إرهابيان" من وجهة نظر الحكومة، كما إن هناك تداخلاً كبيراً في السيطرة داخل أحياء حلب بين المجموعات المسلحة، ولا يمكن الفصل بينها.
لكن الحكومة السورية رغم ذلك لم تبادر بقصف أو شن هجمات على حلب منذ بداية الهدنة وفق عبد القادر عزوز الذي يقول إن "الدولة السورية التزمت بالقرار الأممي وهي ملتزمة بالتوافقات الدولية، وما يظهر حسن النية لدى الحكومة هو أنها عندما وافقت على وقف الأعمال القتالية كانت الكلمة العليا للجيش السوري، خاصة في مدينة حلب وريفها بعد التقدم المهم الذي حققه في هذه الجبهات".
لكن المصادر المعارضة تعتبر أن الجيش مع حلفائه الإيرانيين وحزب الله كانوا يعدون العدة لبدء معركة السيطرة على حلب، وكانت الهجمة الأخيرة في سياق رد الفعل الاستباقي على ذلك.
غير أن المصدر العسكري يقول إن "الحشود التي تمت في حلب هي لتعزيز الجبهات في المدينة والريف، والعمل على منع أي تقدم لقوات المعارضة في أي اتجاه، وخصوصاً أن المعلومات التي كانت تتوفر للجيش السوري وحلفائه تفيد بتحضير الآلاف من المرتزقة والإرهابيين لشنّ هجمات مكثفة على كل المحاور في حلب، وهذا ما تحقق في الأيام الأخيرة، وثبتت صحة معلوماتنا".
أميركا وروسيا.. بين توسيع الهدنة أو توسيع دائرة النار؟

أعلنت روسيا على لسان وزير خارجيتها أنها اتفقت مع الولايات المتحدة الأميركية على نظام لوقف إطلاق النار في حلب، ودخل الاتفاق حيز التنفيذ رغم ضبابيته، لكنه سرعان ما سقط بدءاً بخروقات وسقوط قذائف على أحياء حلب الغربية وصولاً إلى الهجوم الذي شنته المجموعات المسلحة على خان طومان انطلاقاً من تل العيس وحي الراشدين وريف إدلب.

وفق محللين فإن أي تثبيت لاتفاق وقف إطلاق النار يحتاج للمرور عبر الحلفاء، وتحديداً حلفاء الولايات المتحدة، في ظل اتهامات لتركيا والسعودية بالوقوف خلف التصعيد الأخير في حلب، وهنا نصطدم باحتمالية رفض تطبيق الاتفاق باعتبار العلاقات المتأزمة بين واشنطن وحليفيها في الرياض وأنقرة.

وهنا يعتبر عبد القادر عزوز أن "الدور الأميركي ليس بريئاً بالمطلق، وليس مع وقف القتال وتثبيت الهدنة في حلب". يقول "أميركا داعم بشكل أساسي لتقويض الحكومة السورية والذهاب بعيداً في استنزافها، ولكن في السياسة لا نستطيع أن نحكم على النوايا، ما يهمنا هو الأفعال، فنحن نرى أن هذا التصعيد لم يكن ليجري لو لم يحصل على ضوء أخضر أميركي".

أما الجانب الروسي فيبدو مرتاحاً على وضعه أكثر، حيث أعلن الروس أنهم ليسوا في وارد الضغط على الحلفاء السوريين لوقف العمليات في حلب، وخصوصاً أن عمليات المسلحين وهجماتهم المكثفة لم تنجح حتى الساعة في كسر أيٍ من خطوط الدفاع، وكل ما نجحت فيه هو استهداف المدنيين من أبناء حلب.

كما إن الساسة الروس لا ينسون أن يذكروا دائماً نظرائهم في البيت الأبيض أن موسكو على استعداد لاستئناف عملياتها العسكرية الجوية الداعمة للجيش السوري، لضرب المنظمات التي تعتبرها إرهابية، وتتسلح بقرار مجلس الأمن الذي صنف جبهة النصرة تنظيماً إرهابياً.

وحتى تتوضح طبيعة الاتفاق الأميركي الروسي وردود الدول الإقليمية عليه، تبقى حلب المدينة تدفع الثمن يومياً من دماء أبنائها وأمنهم.

الميادين

تصميم وتطوير