حين استقبلنا الجنوب.. مكللًا بالعزّ

27.05.2016 11:34 PM

 كتبت: إيمان بشير

لا يمكن وصف لحظات التحرير بأسطر قليلة، مشاهد الناس في الطرقات وهم ينثرون الورود والأرز على المارة، رافعين أعلام المقاومة وأعلام لبنان على سياراتهم. لا يمكن أن ننسى ذاك الذي ثنى على ركبتيه وقبّل الأرض المحرّرة شكراً لله، أو عبارة تلك السيّدة الشهيرة التي صرخت "الحمدلله اللي تحررني"، أو وجوه الأسرى الذين تحرروا من قيد المعتقل، وقد غمرتهم فرحة لا توصف. ١٦ عامًا مرّت على التحرير، لكنها لم تكن كافية لتمحو تفاصيلها من ذاكرتنا. هذه هي ذكرياتنا التي تنبض بالتحرير، فكيف ننسى أنه في الجنوب من حرّر الوطن.


كُنت في الثامنة من عمري، حين رأيت أمّي ترقص وصديقتها على أنغام أغنية جوليا «وين الملايين»، عندما سمعنا صباحاً خبر انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان. كان الوقع غريباً على مسامعنا، وبالتحديد على وجه أمّي، الذي غمرته الدموع فرحاً وحزناً في آن، فسرعان ما رسمَتْ على ثغرها ابتسامة صافية بنقاء سماء الجنوب المحرّر. حين نادت بصوتٍ عالٍ "الضيعة حرّة".. "الجنوب تحرّر".. وجدت نفسي وقد انهمرت الدموع على خديّ، دون أن أستفيق بعد من وهلة الخبر، إذ كنت أدرك -رغم صغر سنّي- قيمة هذا الحدث الكبير. كان الناس سُكارى من شدّة الفرح، الزغاريد ملأت المنطقة، والأرز تناثر عالياً فوق الجميع.

لم يعد أبي بحاجة إذاً لتوزيع الحلوى للجيران، كلما قامت المقاومة بتنفيذ عمليّة ضّد العدو الإسرائيلي. "ستكون هذه المرّة الأخيرة يا أبي" قلت له، لكنها حتماً المرّة الأجمل. فالمحتلّ طُرد أخيراً من أرضنا، بكل عتاده وأسلحته وبطشه، وسقط دُفعة واحدة بفضل مقاومة أبت أن تعيش تحت رحمة المحتل. في الضاحيّة هنا لم نكن نعي سرّ المقاومة التي تتصدى للعدو في الجنوب، هذه الثلّة الصغيرة التي هزمت أعتى جيوش العالم. كنا نسمع عنها عبر قناة "المنار" أو إذاعة "النور" أثناء توجهنا بمعاناة من بيروت إلى الجنوب، فقد كان الإعلان عن عمليّات المقاومة عبر الوسائل الإعلاميّة "مكلفاً".

لحظة التحرير، كانت رائحة البرود لا زالت تملأ الهواء الذي نتنفسّ، ولا زال أزيز الرصاص وصوت الطائرات الحربيّة يصدح في الأرجاء. لازال أنين الأمهات يمرّ في أذنيّ، ودعاؤها بالحريّة لفلذات أكبادهن، الذين احتجزهم جيش الإحتلال في المعتقل، وتفنّن في تعذيبهم صباحاً ومساء. لا زال كل شيء حيّاً في ذاكرتنا بعد كلّ ما قاسيناه من اضطهاد واحتلال. هكذا، مرّ كل شيء في ذاكرتي ببرهة لحظة إعلان التحرير، كأنّه الساعة، فكيف ننسى ما فعله العدوّ وطُبع في تاريخ طفولتنا كالنقش في الحجر.

الذكريات الجميلة عن يوم إعلان التحرير لم تنتهِ هنا، ولم تقف عند مشاهد خروج الآليات العسكريّة الصهيونيّة نحو فلسطين المحتلّة. لقد كان مفرحاً أكثر خروج عملاء لحد بذلٍّ قاطعين الشريط الحدودي، وطالبين العون من الجيش الإسرائيلي! على قاعدة أنه يُطلق على العدو رصاصة وعلى الخائن عشر منها. تبع ذلك مشاهد بثتها القنوات التلفزيونيّة لحظة دخول الأهالي إلى معتقل الخيام، عندها راح الناس يطرقون أبواب الزنازين بالحجارة والأوعية الحديديّة، إذ لا مفاتيح هنا يستعينون بها. كما نحن حينها، ودون أية تحضيرات روتينية، انطلقنا نحو الجنوب بسرعة فائقة. كانت الطرقات نحوه تضجّ بالسيّارات القادمة من مختلف المناطق اللبنانية، لمشاركة الأهالي فرحتهم، أو لرؤية ذويهم وهم يخرجون من المعقتل، أو لتغطية الحدث. مما اضطرنا للبقاء ساعات في السيّارة دون ملل أو كلل. توجهوا كباراً وصغاراً نحو الجنوب وقد لبس ثوب العزّ لاستقبالهم. جلنا في الجنوب وفي قراه الحدوديّة لساعات طويلة، رأيته وكأني أراه للمرّة الأولى، مكللاً بالعزّ، لم أرد تذكّر أي لحظة سابقة تخصّ الإحتلال.

لا يمكن وصف لحظات التحرير بأسطر قليلة، مشاهد الناس في الطرقات وهم ينثرون الورود والأرز على المارة، رافعين أعلام المقاومة وأعلام لبنان على سياراتهم. لا يمكن أن ننسى ذاك الذي ثنى على ركبتيه وقبّل الأرض المحرّرة شكراً لله، أو عبارة تلك السيّدة الشهيرة التي صرخت "الحمدلله اللي تحررني"، أو وجوه الأسرى الذين تحرروا من قيد المعتقل، وقد غمرتهم فرحة لا توصف. ١٦ عامًا مرّت على التحرير، لكنها لم تكن كافية لتمحو تفاصيلها من ذاكرتنا. هذه هي ذكرياتنا التي تنبض بالتحرير، فكيف ننسى أنه في الجنوب من حرّر الوطن.

نقلا عن الميادين

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير