عن حروبنا التي تعيد إنتاج نفسها

23.06.2016 06:40 PM

كتب:علي نسر

من الوهم الاعتقاد بأنّ المشهد الضبابيّ الذي يلفّ أبصارَنا اليوم، من ماء هذا الوطن العربي إلى مائه، غريب علينا أو دخيل، بل هو مشهد اعتادته الذاكرة العربيّة والاسلامية، وظلّت مروّضة على التكيّف معه بسبب ما تنبّأ به العديد من الكتّاب والمحللين، وغالبًا ما أصابوا. لكنّ التصوّرات المستقبلية التي تتحقّق، لا تدلّ على خيال ذي قدرة استباقية للأحداث، بقدر ما تشير إلى قدرة أصحابها على قراءة التاريخ وتشرّبه. وقد سهل على بعض المؤلّفين في بلادنا أن يرسموا صورة للمراحل القادمة، أو أن تتقاطع كتاباتهم مع ما يحصل لاحقًا من أحداث، لما يتميّز به تاريخنا من اجترار أحداثه وشخصياته مع تغيّر في الأسماء، والابقاء على المواصفات نفسها. وهذا يعود إلى سبب تثبته الأحداث الدامية اليوم، وهو بقاء الخلافات الجوهرية على صورتها، بسبب غياب القراءات النقدية الجريئة التي تفلسف التاريخ، للتخلّص ممّا يعرقل الطريق أمام عجلة الحياة وسيرورتها. فقد اختلفوا على معظم مراحل التاريخ وأسباب الصراعات، لكنهم يتفقون على عدم مناقشتها أو محاولة القضاء عليها، لأنّ المذاهب والطوائف يتوقف وجودها البنيوي على هذه الصراعات والاقتناع بأنها مقهورة، ما يستدعي الحفاظ على الوجود كغاية تشرّع مختلف الوسائل.
وتشير بعض المؤلفات إلى ذلك، ومنها، على صعيد المثال، كتاب «القرامطة بين الدين والثورة» للكاتب حسن بزون، الذي استشهد في حرب لبنان وما حملته من امتداد لهمجية معظم حروبنا السابقة. إذ اغتيل المؤلّف عقابًا على ما تحمله بطاقة هويته من مذهب لم يختره بنفسه، وبرصاص أعمى صوّب على رؤوس العديد من المفكّرين وأصحاب الفكر المستنير. يؤكّد هذا المؤلَّفُ المولودُ بعد غياب صاحبه، أنّ ما يحصل اليوم، وبعد عقود من صدور الكتاب، ليس مستغربًا أو مستهجنًا. إذ يعرض النص أوجه التشابه، بين مرحلة الثورة القرمطية قبل ألف عام، وما حدث ولم يزل يحدث، فوق مسرح هذه الأمّة نفسه. فالحكم الرسميّ عوّدنا أن يكون هشًّا، لا يتّعظ أصحابه من الماضي لعدم اهتمامهم بقراءة مفاصله التاريخية، ولم يرسموا خطة استراتيجية مستقبلية، بل جلّ ما اهتمّوا به هو الحاضر، فوصلوا إلى الاحساس بجنون العظمة رافضين الاعتراف بما يمكن أن يهدّد الكيان الرسمي للسلطة. وهذا يؤكّد مدى اهتمام هؤلاء ببناء قوّات أمنية للحفاظ على الكرسيّ، أكثر من بناء جيوش لا تنهار بسرعة أمام أي حرب خارجية أو داخليّة فعليّة. كما يرسم الكتاب صورة لتلك الحركات التي أسقطت على أجسادها أردية ثورية فضفاضة، ما يجعل نيرانها التغييرية تخمد أمام ألهبة الفوضى والدماء والتخريب.
لقد تسلّح القرامطة، كما يؤكّد الباحث، بالدّين منهجًا يخدم حركتهم، لكنّهم ألحقوا الأذى بالمعالم الدينيّة، فدمّروا مساجد، وأحرقوا دورًا، وسبوا نساء واستعبدوا أشرافًا.. ووصلت بهم الأمور إلى سرقة الحجر الأسود، ونقله من مكّة إلى الأرض التي يسيطرون عليها.
وبقدر ما يدلّ هذا على تخبّط حركتهم وانقلابهم على ما نادوا به، فهو يدلّ أيضًا على مدى هشاشة الحكم آنذاك. إذ إنّ وصول اليد إلى أبرز مظاهر الحكم والديانة الرسمية لا يبقي مجالا للشكّ في ضعف الدولة وتصدّعها أمام الأخطار الفعليّة. وهذا ما يؤكّد تكرار المشهد نفسه اليوم، إذ باسم الدين ونشر كلمة الله على الأرض، تُنبش قبور، وتهدم مزارات وتغتصب نساء ويُسترقّ الرجال والأطفال، وتهدم الحضارات ويفجّر العمران، لأنّ التاريخ عوّدنا أنّ الهمجيات في بلادنا، قديمًا وحاضرًا، لا تعرف قيمة للحضارة، خصوصًا لدى العربيّ الذي لم يؤهّل نفسه للخروج من البداوة، فيهدم الصروح ليتّخذ من أعمدتها أوتادًا للخيام، ومن حجارتها أساسًا للموقدة كما يقول ابن خلدون، ويلمّح إليها الكاتب بزون أيضًا.
إنّ تاريخنا الدموي، وصراعاتنا اللاعقلانية، شوّها معظم نظريات الصراع والفلسفات الخاصة بالتغيير الثوري. فلا التغييريون يلتزمون بأصول التغيير وشعاراته، ولا الطبقة الحاكمة تعاملت مع الواقع بحكمة وقوانين دستورية تشرّع العنف الذي يتقبّله الناس. فلم يكن الحكم للدولة بقدر ما كان للسلطة، ولم يكن السجن مشروعًا لأنّه استُبدل بأقبية، ولم يُعط الشرطيّ صلاحية تعميم القانون بقدر ما كانت اليد الطولى للأجهزة الأمنية المخابراتية.

المصدر:السفير

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير