من يتعظ ويعتبر ?...بقلم: فهمي هويدي

06.08.2011 11:21 AM

إذا كانت محاكمة الرئيس السابق حسنى مبارك قد صنعت تاريخا، فأشك فى أنها وحدها يمكن أن تصنع مستقبلا. والتاريخ مهم لا ريب لكن المستقبل هو الأهم بامتياز.

فالحدث فريد فى بابه ووقوعه لم يكن يخطر على بال أحد، ودلالاته وعبرته ستظل تدوى فى الفضاء المصرى والعربى إلى أجل لا يعلم مداه إلا الله. إذ منذ الأربعاء الماضى فى يوم المحاكمة وظهور مبارك وولديه ووزير الداخلية وأعوانه فى قفص الاتهام، والتعليقات والحوارات لم تتوقف حول مغزى الحدث وصداه المفترض عند الناس وعند أهل السلطان. وكل ما قيل فى هذا الشق أو ذاك أوافق عليه تماما.

مستثنيا ما ورد على بعض الألسنة من عبارات التشفى والرغبة فى الانتقام، رغم تقديرى لمشاعر الضحايا والمكلومين ممن تعذبوا أو فقدوا أعزاء لهم على أيدى نظام مبارك ورجاله.

المعنى الذى تواتر على ألسنة الجميع خلاصته أن ما جرى لمبارك سيظل عبرة لمن يأتى بعده، وأن الله يمهل ولا يهمل وأن لكل ظالم نهاية.. إلخ. والسؤال الذى خطر لى وأنا أتابع تلك الحوارات هو: صحيح أن ما جرى عبرة لغيره، ولكن ما العمل إذا لم يعتبر ذلك الغير؟ أما الفكرة التى ألحت علىّ فهى أن العبر كثيرة لكن الذين يعتبرون قلة، فكيف لا نترك المستقبل للمصادفة، بحيث لا تصبح حظوظنا متروكة لهوى الحاكم القادم وميوله. إذ كما أنه قد يلهمه الله بعد النظر والبصيرة. فيتعلم الدرس ويتعظ منه، فربما حدث العكس، وجاءنا من يرفض الاتعاظ ويشيح بوجهه عن العبرة؟

إن الرئيس السابق لم يعتبر من مرتين نجا فيهما من الموت. يوم اغتيال السادات، حيث كان جالسا إلى جواره، وحين تعرض لمحاولة الاغتيال عندما كان متجها إلى أديس أبابا لحضور القمة الأفريقية، وهو ذاته الذى قال فى بداية حكمه إن القبر ليس له جيوب.

وهو لم يعتبر حين حل به المرض، ولا حين مات حفيده وهو طفل. ولم يعتبر مما حدث فى أوروبا الشرقية، حين تساقط الطواغيت فيها واحدا تلو الآخر عقب انهيار الاتحاد السوفييتى، إذ أغمض عينيه وأصم أذنيه، ومضى فى طريقه غير آبه بكل ما صادفه أو أحاط به.

 

ليس وحده بطبيعة الحال، لأن ما نشهده فى العالم العربى يدل على أن الحكام المستبدين لا يتعلمون، فيرسلون ولا يستقبلون، ولا يرون إلا سلطانهم وطموحاتهم. والحاصل فى سوريا واليمن وليبيا خير دليل على ذلك، حيث يتصرف حكام هذه الدول وكأنهم لم يسمعوا بأن الشعوب خرجت من محبسها وكسرت حاجز الخوف، ولا يزال كل واحد منهم متشبثا بالكرسى، الذى يقعد عليه وعلى استعداد لأن يدمر بلده ويريق دماء المئات والألوف من أبناء شعبه ثمنا لبقائه فى السلطة.

لأن الأمر كذلك، فلا يكفى أن تتوفر العبرة أو تتحقق العظة، لأنه بغير الشق الآخر المتمثل فى الاعتبار والاتعاظ، فإن الحدث يفقد قيمته المرجوة، ويظل جزءا من التاريخ لا صدى له أو أثر على أرض الواقع. ولذلك قلت إن المحاكمة تصنع تاريخا ولا تكفى بذاتها لأن تصنع مستقبلا. وإنما يشترط لذلك أن تهيئ المقادير من يستوعب الدرس ويتعلم من خبرة من سبقه، فلا يكرر أخطاءه أو يرتكب جرائمه، ليتجنب مصيره.

لكن ثمة عملا ينبغى أن يؤدى حتى لا يترك الأمر للحظوظ والمصادفات ويصبح مصير البلد معلقا على ظهر «المخلص المنتظر».

لا سبيل إلى تجنيب البلد التعرض لتلك المغامرة إلا من خلال مجتمع قوى قادر على كبح جماح حكامه ونزواتهم. مجتمع يقوم على مؤسسات ديمقراطية منتخبة تمارس حقها فى المشاركة والمساءلة. بحيث يصبح مصير الحكم بيد تلك المؤسسات وليس مرهونا بإرادة فرد أو بمصادفة تاريخية من أى نوع. وهذه الخلفية تسوغ لنا أن نقول إن محاكمة مبارك إلى جانب كونها تقتص للشهداء الذين سقطوا والألوف الذين عذبوا فى ظل نظامه، فإنها يمكن أن تطوى صفحة الطغيان وتخدم المستقبل فى حالة واحدة، هى ما إذا شرعنا على الفور فى إقامة تلك المؤسسات المنتخبة دون تسويف أو تنطع.

إن بعض مثقفينا مشغولون بهوية الدولة المدنية بأكثر من انشغالهم بإقامة المجتمع المدنى، الذى تديره المؤسسات المعبرة عن إرادة الشعب وليس ذلك أغرب ما فى الأمر لأن الأغرب أنهم قبلوا بإطالة حكم العسكر فى حين أنهم يرفعون رايات الديمقراطية والليبرالية. وذلك من ألغاز السياسة فى بلادنا التى ترشح المشهد لأن يضم بجدارة إلى فوازير رمضان التى يستعصى حلها.

                                                                              عن جريدة الشروق المصرية

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير