بناء البديل التحرري العربي

30.07.2016 06:14 PM

وطن: كتب حنا غريب / الامين العام للحزب الشيوعي اللبناني

انعقدت القمة العربية في نواكشوط بعد خمس سنوات على الانتفاضات العربية، التي وإن لم تغيّر المشهد السياسي العربي إلاّ أنها أعلنت وبشكل صارخ انتهاء النظام العربي القديم. هذا النظام الذي أنتج الحروب وعمل على تصفية القضية الفلسطينية وفشل في تحقيق التنمية الاقتصادية وعمّق الفروقات الطبقية وعدم المساواة في توزّع الدخل والثروة ضمن الدول؛ وفي ما بينها، وانتهى إلى الحطام الذي نشهده اليوم على مدى الجغرافيا العربية (...).

ويأتي انعقاد القمة بعد أن جرى إخماد الانتفاضات العربية تحت رماد نيران «مشروع الشرق الأوسط الجديد» التي تلتهم بلداناً وشعوباً بأكملها ما عزّز غبطة العدو بإعفائه من معضلة مواجهة شعوبنا ومقاومتها، وعلى وهج إعادة الاستعمار المباشر لبعض البلدان العربية تحسباً لأية محاولة تسمح بإنزال الضرر بمصالحه.
ذلك هو نموذج العلاج بـ «الصدمة» المطبق في بلداننا؛ والذي بموجبه يتم إيصال الشعوب إلى حالة من الإحباط واليأس لتصل بعدها إلى قبول أي شيء من شأنه تخفيف الألم والدمار ــ إنه العلاج بالمزيد من التفتيت والتقسيم من أجل إعادة التركيب بما يتلاءم وتأبيد التبعية.

إن المأساة التي تعيشها شعوب المنطقة كلها من دون استثناء، وإن أخذت أشكالاً مختلفة، عليها أن تدفعنا كيساريين وتقدميين عرب إلى التفكير عميقاً في دورنا الجديد الذي لا يمكن إلاّ أن يكون إنقاذياً باتجاه العمل الجاد على بناء حركة تحرّر عربية جديدة تتخطّى الحدود، لأن الأزمة في أصلها وفي تجلياتها هي بذاتها لم تعد محلية وإنما تطال العالم العربي ككل.

قبل 2011 وحتى قبل الغزو الأميركي للعراق في 2003، أي قبل كل هذه الحروب، كان المشروع العربي في سياقه التاريخي مأزوماً. فبعد عقود من محاولات التنمية المستقلة في البلدان التي حكمتها أنظمة وطنية كالعراق وسوريا والجزائر ومصر، ومن تراكم الثروة المالية من جرّاء الانفجار الهائل في أسعار النفط بعد عام 1973 لم يحقق العالم العربي تنمية حقيقية. فالتجارب الوطنية انتهت إلى الاستسلام للنيوليبرالية التي أطلّت برأسها أولاً في أوائل السبعينيات في مصـــر مع سياسة الانفتاح الســــاداتية وانــتقلت على التوالي من بلد إلى آخر؛ لتحطّ أخيراً بشكل أو بآخر في سوريا.

لقد كان لهذا التغيير الوقع الكبير على تطوّر هذه الدول فتوقفت التنمية وراوحت مكانها فازداد الفقراء فقراً والأغنياء غنىً وظهرت طبقات جديدة رأسمالية طفيلية تحالفت مع النخب الحاكمة لتشكل نموذجاً رأسمالياً متخلّفاً جلّ ما يقدّمه هو تركز الثروة بأيدي القلة وانفلات الاستهلاك وتراجع القطاعات الاقتصادية الصناعية والزراعية والتخلف التكنولوجي والبطالة وسيطرة الريع على الاقتصاد.
في الوقت عينه، كانت الدول النفطية الغنية تغرق في الوفرة المالية لتتحوّل إلى الاستهلاك ومراكمة التسلح الحربي وهروب رؤوس الأموال للاستثمار ليس فقط خارج هذه الدول بل خارج المنطقة العربية ككل.

هذان التطوران قضيا على ما كان يمكن أن يكون عالماً عربياً متقدماً اقتصادياً وتكنولوجياً يحول الثروة النفطية إلى أصول حقيقية وإلى محرك للتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى الثقافي (...)

وفي ظل الحروب التي تشهدها منطقتنا، وبعد فشل المشاريع القومية في التحرّر الوطني والاجتماعي، إذ بدلاً من الوحدة تعمّقت التجزئة وبدلاً من الحرية تفاقم الاستبداد وبدلاً من الاشتراكية زادت الرأسمالية توحشاً وتخلفاً، وبعد أن وصلت المشاريع البديلة ذات الطابع الديني إلى الفشل بفعل حال الصدام المذهبي والطائفي الذي يلاقي المشروع الأميركي الإسرائيلي في منتصف الطريق.. لا بدّ من بذل كل الجهود لبناء البديل، بناء حركة تحرر وطني من نوع جديد، على أنقاض كل هذه المشاريع وبالإفادة من دروس تجاربها الفاشلة.

وتقع على عاتق اليسار مسؤولية كبرى في تجاوز عجزه المتعدد الجوانب وأوله في وعي ومعرفة الواقع العربي بملموسية تتيح له طرح برنامج قادر على جذب الجماهير وتأطيرها في جبهات وطنية تحررية على المستوى العربي وعلى المستوى الوطني واستخدام وسائل النضال كافة ـ من النضال الديموقراطي العام وصولاً إلى المقاومة المسلحة ـ وذلك من أجل إسقاط المشروع الأميركي ـ الصهيوني وأذنابه في أنظمة الذل والتبعية، وإفساح المجال أمام الجماهير العربية من المشاركة في تقرير مصيرها.
إن قيام هذه الحركة التحررية الوطنية هي الأمل لعالم عربي جديد يقوم على:

1ـ بناء دول علمانية مدنية وديموقراطية.

2ـ إعادة توزيع الثروة لكسر سيطرة الأقلية على هذه الثروة على المستوى الوطني وتحقيق العدالة الاقتصادية والقضاء على الفقر والتهميش الاقتصادي والاجتماعي.

3ـ بناء الاقتصاد المنتج والتنافسي عبر استعمال عائدات الثروة النفطية في الاستثمار في القطاعات الصناعية والزراعية وتطوير التكنولوجيا، وذلك من أجل قيام اقتصاد ديناميكي متطور ينتج الوظائف العالية الأجر والتي تمتص العرض الكبير للشباب، وبالأخص المتعلم في سوق العمل والذي حالياً يتحول إلى البطالة والهجرة وفرص العمل المتدنية الأجر والإنتاجية وأكثرها في العمل غير النظامي.

4ـ إقامة اتحاد عربي يُمأسس العلاقات العربية المشتركة في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والتشريع. وأهم مهام هذا الاتحاد هو التوجه نحو اتحاد اقتصادي في مجالات التجارة والاستثمار وحركة العمالة، بالاضافة إلى برنامج منهجي للاستثمار في الدول والمناطق الأقل تقدماً والأكثر حاجة يستعمل الفائض المالي الناتج عن الثروة الطبيعية من أجل تحقيق تنمية متوازنة على مستوى العالم العربي ككل.

السفير

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير