خالد بطراوي يكتب لـوطن: انهم يسرقونك ثم يشتمونك

29.08.2016 08:23 AM

في ستينات القرن المنصرم عندما كنت صغيرا، كثيرا كنت أحزن على ذلك الرجل الجالس قرب دكان المرحوم عطية الرمحي في ميدان المنارة بمدينة رام الله حيث صندوق البريد الأحمر على قارعة الطريق.

كان يجلس على قطعة خشبية واضعا على ركبتيه قطعة جلدية سوداء يدعو للمارة بكل الأدعيات فينقدونه ما تيسر من النقود يضعونها فورا على قطعة قماشية يفرشها على الأرض أمامه، وكثيرا ما كان المرحوم عطية الرمحي يتفقده اما بكأس من الماء أو الشاي ويشاركه وأخرين طعامههم.

الى أن بدأت حرب الأيام الستة في حزيران عام 1967 عندما شاهده أهل المدينة يولي الأدبار هاربا على قدميه السليمتين في الشارع المؤدي الى حسبة البيرة وسط ذهول الجميع الذين حتى لم ينشغلوا بأخبار الحرب بقدر انشغالهم بهذا اللص مدّعي الاعاقة المتسول مستغلا قناعة الناس الدينية المستمدة من القرآن الكريم من خلال ما ورد بالقول "أما السائل فلا تنهر".

أثناء مغادرتك وعودتك عبر ما يسمى بمعبر الكرامة بأعينهم الحادة يلتقطونك، موظفي نقل الأمتعة فيرددون أمامك معسول الكلام حول ما يتوجب عليك اتباعه من اجراءات تعرفها تمام المعرفة ويحملون لك حقيبتك رغما عنك ويقولون أنهم سيضعونها فورا في الحافلة لتضمن وصولها الجانب الآخر بسرعة بدلا من انتظار الشاحنة التالية لتنقدهم ما تيسر وعندما ينظرون الى ما وضع في يدهم ... يشتمونك .. وتسمع شتيمتك بأذنك وتصلك حقيبتك على الجانب الآخر متأخرة.

عند شارة ضوئية تجد رجلا يحرّز على ورقة صادرة عن الشؤون الاجتماعية قبل سنوات كان قد جلتنها جيدا .. كيف لا .. وهي مصدر رزقه .. يبرزها للسائقين المتوقفين عند الاشارة الضوئية وبعينيه الذابلتين يعرض الورقة من بعيد ويتمسكن كي تنقده ما تيسر كيف لا .. ووازعك الديني يقول لك "وأما السائل فلا تنهر" وعندما تتحول الاشارة الى خضراء تسمع شتيمتك بأذنك.

شباب يحملون خرقة متسخة يهرعون نحو سيارتك المتوقفة أيضا عند الاشارة الضوئية يمسحون بل يزيدون زجاج السيارة وسخا أيضا لتنقدهم ما تيسر ويفرضون عليك عملية المسح رغم أنك تشير لهم أن لا يفعلوا فيستمروا " سياسة فرض الأمر الواقع" وعندما لا تنقدهم ما تيسر أو تدفع القليل لا يشكرونك بل يشتمونك وتسمع الشتيمة أيضا بأذنيك ولا أدري ان كانت نكاشات الأذن بقادرة على ازالة هذا الكم من المسبات التي تسمعها يوما بعد يوم.

شاب على كرسي متحرك يقف عند الشارة الضوئية يسير بكرسيه بين السيارات لا ينطق بكلمة بل بابتسامة عريضة لا يبيع شيئا سوى اعاقته فيستدرج عاطفتك فتدفع ما تيسر وتراه كما غيره من المتسولين كما الموظف بدوام كامل لا يكتفي بما تصدق به المتصدقون بل يجني أكثر من يومية مجموعة من العمال تتسلخ اكتافهم بسطل الباطون يحملونه لنقل من هنا الى هناك.
سيدة تجلس على أرضية الرصيف قرب مستشفى وأحيانا تتنقل الى كراجات السيارات تمطرك بكل الدعوات .. أعرفها منذ كنت صغيرا ... ربما تزوج أحفادها هذه الأيام .. تداوم طيلة النهار تضع في يدها النقود تنظر الى المقدار ووفقا له اما تزيد الدعوات أو تشتم في داخلها وان لم يكن مع "فراطة" تفرطلك.

أننا أيها الأحبة نتعرض يوميا للسرقة وللشتيمة ووتجلى السرقات في مظاهر عدّة سنوردها في هلوسات لاحقة ولا أريد أن أسأل أين مديريات الشؤون الاجتماعية من ذلك كله وأين اتحاد الأشخاص ذوي الاعاقة والشرطة وأين وأين .... لأنني هنا لا أتحدث الا عن المشاعر التي تعتمر داخلي وربما داخل كل من يتعرض لمثل هذه السرقات التي تتبعها الشتائم.

الى الان ما زلت – رغم أنني وقتها لم أكن هناك – أتخيل كيف ولىّ هذا الحرامي الأدبار أول أيام أكذوبة حرب الأيام الستة عام 1967 راكضا على قدميه من ميدان المنارة نحو حسبة مدينة البيرة وأتخيل مشهد كل من كان قد نقدّه ما تيسر من نقود وكل منهم " فاتح ثمو وراخي ...... " كما يقول المثل الشعبي.

وفي ذات الوقت، أتمنى من كل قلبي أن تزبط معي ولو لمرة واحدة عند شارة ضوئية أغنية هدى حداد التي تقول " ع الشارة التقينا ... والشارة حمرا ... والتقوا عيننا لأول مرة .. جرب يحكي كلمة ... يسألني على اسمي ... هدر الهدير ... عليوو الزمامير ... مشيت الشارة الخضرا ... هوي راح شمال ... أنا روحت يمين ... راح تبعد المسافة وتصير سنين .. يا ريت بقينا ع الشارة مسمرين ... تيخلص الحكي .. تيشبع الحنين .. ويوقف نهر السيارات بالمرة .. واتضل الشارة حمرا .. حمرا".

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير