ذاكرة الطريق .. من دلعونة الفلاحين والانجليز، والملك ابو جلدة الى فجر ثائر حماد

12.11.2016 12:53 PM

رام الله - وطن: على الطريق الواصل بين محافظتي نابلس ورام الله، ذاكرة وطنية مزروعة في في السهول والوديان والسفوح وعلى رؤوس الجبال، ربما لا يدركها الكثيرون منا، ذاكرة تشي بها الارض حين تنبش ترابها فتخرج حكايات الدم، وكأن للارض ذاكرة، لا يصيبها خرف او نسيان.

على الدلعونا .. شيفرة ثورة 36

حاجز زعترة، جنوب مدينة نابلس، يعد احد ابرز الحواجز العسكرية في الضفة الغربية، الذي طالما مارست قوات الاحتلال عليه، صنوفا من الاذلال للمواطنين اثناء تنقلهم، وهدفا للعمليات الفلسطينية المسلحة ، منذ ان كان الفلاحون يغنون  في السهول "على الدلعونا".

في ثورة عام 1936، كان "وادي البلاط" او ما يعرف بـ"طلوع زعتره" وعيون الحرمية، احد المكامن الرئيسية للثوار الفلسطينيين، اثناء مقاومتهم للانتداب الانجليزي في فلسطين، اذ كانوا ينصبون كمائنهم للدوريات الانجليزية المارة من هناك، اذ كانوا يعمدون الى اغلاق الطريق بالحجارة و"الدبش" امام الدوريات الانجليزية، ما يضطر الجنود الى النزول من ارتالهم العسكرية لازالتها، وعندئذ تبدأ المعركة.

في تجوال #باص_سوشيال_ميديا، الذي انطلق من مدينة رام الله الى مدينة نابلس، روى المرشد حمزة العقرباوي، الذاكرة النضالية لعشرات الاماكن التي مررنا بها على الطريق، والتي يجهلها الكثيرين منا.

قوات الانتداب الانجليزي، التي تكبدت خسائر فادحة بسبب تلك الكمائن على الطريق الواصل بين رام الله ونابلس، لم تجد وسيلة للتخلص من رصاص الثوار، سوى استخدام المزارعين الفلسطينيين المتواجدين في السهول اثناء حراثة الارض او جني المحصول، لاستخدامهم كدروع بشرية تحميهم، اذ كانوا يضعونهم في مقدمة الارتال العسكرية لتجنب رصاص الفدائيين، الذي لا يعرف احد اين ومتى وكيف كانت ستنهمر عليهم.

ظن الانجليز في ذلك الوقت انهم نجحوا في ايجاد الحماية لهم، لكن فطنة الفلاحين كانت كفيلة بارسال شيفرة الى الثوار، لمساعدتهم، فحين كان الجنود الانجليز يضعونهم في مقدمة الرتل العسكري، كانوا يغنون بصوت واحد ( على الدلعونا على الدلعونا واحنا الاوايل لا تضربونا)، وكانت بمثابة رسالة الى الثوار، انهم في مقدمة الرتل العسكري، وعليهم ان يضربوا مؤخرة الرتل، وحين تنبه الانجليز لذلك ويضعوا الفلاحين في مؤخرة الرتل، كانوا يغنون (على الدلعونا على الدلعونا، ونحن التيالا لا تضربونا)

منطقة عيون الحرمية، شكلت بيئة مناسبة للعمل الفدائي، بسبب جغرافيتها الوعرة، ووجود القرى العربية على رأس الجبال ، التي كان الثوار يلجؤون اليها، بعد ان يقوموا بعملياتهم الفدائية، وكانت تنجدهم اذا ما تعرضوا لكمين.

 

ابو جلدة . .ملك فلسطين وصاحب "البارودة التي تخاوي الطيارة "

 

يعد احمد المحمود (ابو جلدة) وصالح العراميط، من ابرز الاسماء التي ارتبطت بتشكيل خلايا ثورية، ضد القوات الانجليزية، بين عامي 1930 -1934،  وتعود جذور أبو جلدة إلى بلدة طمون شرقي نابلس، بينما رفيقه أبو العراميط الى قرية بيتا جنوب نابلس.

ابو جلدة والعراميط، لاحقتهما القوات البريطانية، بتهم جنائية حسيما كانت تزعم في ذلك الوقت، واسسا خلية فدائية قامت بثورة من العمل الفدائي ضد الانجليز، حت ىتحول ابو جلدة الى اسطورة، ولقب بملك فلسطين، والعرميطي نائبا له، وورد اسميهما في التاريخ  والمذكرات والاهازيج الشعبية:

قال أبو جـلـدة وأنا الطموني … كـل الأعادي ما بهموني
قال أبو جلدة وأنتا العرميطي .. وأنا إن متت بكفيني صيتي
قال أبو جلدة يا خويا صالح ... اضرب لا تخطي والعمر رايح
قال ابو جلدة وانا الغدارة عندي بارودة تخاوي الطيارة
وأبو جلدة ماشي لحاله.. والعرميط راس ماله
وأبو جلده والعرميط .. ياما كـسروا برانيط
ابو جلدة والعرميط ربطوا الطرق تربيط


ومن حكايات ابو جلدة انه كان متواجدا بالقرب من منطقة عيون الحرامية، حين لقي محصل الضرائب البريطاني، ليقوم بـ"تقشيطه" ملابسه، والاموال التي بحوزته، وابلغه رسالة الى الملك البريطاني مفادها "ان الملك ابو جلدة اخذ حصته من الضرائب".
في عام 1933 وقع العراميط و ابو جلدة  في الاعتقال، بعد كمين انجليزي محكم نُصب لهما بعد وشاية بهما ، ليتم اقتيادهما الى سجن المسكوبية بالقدس، ليصدر بحقهما حكم الاعدام في القدس، وكانت اخر كلمات ابو جلدة في طريقه لحبل المشنقة  "بخاطركم يا شباب.. فلسطين أمانة في أعناقكم.. إيّاكم أن تفرطوا في حبّة رمل من أرض فلسطين".

 

خان اللبن وباص ابو محمد المقدسي

 

في ثورة 1936، كما يروى العقرباوي، كان ابو محمد المقدسي، يعمل سائقا على حافلة، قد وصل الى منطقة عيون الحرامية، حين اوقفته القوات الانجليزية، من اجل الصعود معه بالقوة، والذي اكتشف حين وصوله الى "قوربات اللبن"، ان هناك معركة بين الثوار والجنود الانجليز في المكان، وان الجنود الذين ركبوا رغما عنه ما هم الا مدد للقوات المشتبكة مع الثوار الذين سيكونون في مأزق.

لم يجد ابو محمد المقدسي في ظل ذلك الموقف، سوى ان يساعد الثوار في معركتهم، فقرر ان يضحي بنفسه، وقام بقلب الحافلة بمن معه من الجنود الانجليز، في شجاعة نادرة.

وخان اللبن، هو مملوكي البناء، جرى ترميمه لاخر مرة في العهد العثماني، واقام فيه الانجليز مخفرا للدرك لملاحقة ابو ابو جلدة ورفاقه.

 ابو كباري .. والهروب من سجن عكا

 

تعد خلية ابو كباري، من اوائل الخلايا العسكرية المسلحة التي  جابهت الانتداب البريطاني في فلسطين، بقيادة (أبو كباري) من بلدة بيتا ومعه صالح أبو سليقة من عقربا وحموده الطموني الملاحقين من قبل القوات الانجليزية.

وتعود بداية الخلية، الى العام  1923، حين قدم ثلاثة من المعتقلين في سجن عكا إلتماساً للحكومة لنقلهم لسجن نابلس كان منهم أبو كباري وابراهيم أبو سليقة وحميده الطموني الذين كانوا قد خَططوا للهرب من السجن عند نقلهم.

وفي لحظة تنفيذ المُخطط المتفق عليه بين المعتقلين الثلاثة، قام إبراهيم أبو سليقة؛ باختطاف بندقية العسكري الذي يقودهم وألقى به على الأرض وقتله، ثم تقدم مع رفيقيه أبو كباري وحميده، وقصدوا الباب للخروج من السجن، ففاجأهم الحارس الذي على البرج فأطلق عليهم النار فَفرَّ اثنان ووقع إبراهيم أبو سليقة على الأرض مُدَرجَاً بِدِمائه.

فَرّ أبو كباري وصاحبه، وأعلنت الحكومة عن مقتل أبو سليقة وهرب اثنان آخران من السجن، والتحق بهما صالح أبو سليقة  ورافقهم في فرارهم من وجه الدولة، عندئذ قرروا مغادروا البلاد وتوجوا للاردن، فسكن صالح وحميده في بلدة (عنجرة) قضاء عجلون بينما أقام صاحبهما أبو كباري في قرية (سوف) .

بدأ ابو كباري ومعه ابو سليقة وحميده  بتنظيم غارات في فلسطين والقيام بهجوم على الدوريات وأحياناً النهب والتقشيط ثم يعودون الى أماكنهم في الأردن، وأمام مُلاحقة الحكومة وتعقبها لهم قررت المجموعة مُغادرة الأردن والعودة الى الأغوار والأختباء فيها، ليشاركوا  في عدة معارك ضد الشرطة البريطانية .

حاولت الشرطة البريطانية الايقاع بخلية ابو كباري أكثر من مرة، فأعدت لها كميناً حيث أفرجت عن شخص مَحكوم بالاعدام من سجن عكا أثناء نقله الى سجن نابلس وأذاعت نبأ هَربه وأن أي معلومة تُقدم عنه ستكون مكافأتها(200)جنيه فلسطيني وهو مبلغ ضخم جداً في حينه، فبلغ أبو كباري ورفاقه الخبر فقرروا احتضانه وضمه لعصابتهم ، ولذا بدأوا بالبحث عنه حتى وصلوا اليه، وقد رافقهم لعدة أيام ثم غادرهم لزيارة أهله ولما عاد أخبرهم عن رؤيته لمحصلي الضرائب وهم يَتجهون الى منطقة قبلان فذهب أبو كباري وحميده وصالح الى (عقبة زعتره) على الطريق بين نابلس – القدس، لنصب كمين لهم ولم يكونوا يَعلمون بخيانته وأن هذا التحصيل كان فخاً لهم. وحدثت المعركة التي قتل فيها أبو كباري وَفرَّ صاحباه الى عنجره مجدداً.

اعتقل صالح أبو سليقة بعد فترة في منطقة عنجرة وَسُلِّمَ للشرطة البريطانية وَنُقِلَ لسجن نابلس وجرت محاكمته وحكم عليه بالاعدام شنقاً، وخفف  للمؤبد، وامضى 17 عاما، ليتم الافراج عنه عام 1943 بعد تدخل مختار بلدة عقربا.

 

ثائر حماد .. 24 رصاصة بعد صلاة الفجر

ولا يمكن الحديث عن الطريق بين نابلس - رام الله، واغفال عملية عيون الحرامية التي وقعت في اذار 2002، ونفذها الاسير ثائر حماد.

ويروي حماد العملية المعقدة التي نفذها بمفرده في المكان، في مقابلة خرجت الى وسائل الاعلام من سجنه في عام 2008،  قائلاً فيها "خرجت من المنزل بعد أن أديت صلاة الفجر وكنت قد جهزت نفسي بعد مراقبة للموقع العسكري الاسرائيلي استمرت اربعة ايام وعرفت تبديل المناوبة والأوقات الى حد كبير خاصة أن حاجز عيون الحرامية يقع في أراضي سلواد وكنت في تلك الليلة قد حسمت الأمر والقرار أن يكون التنفيذ في اليوم التالي".

ويضيف "استيقظت فجراً وبعد الصلاة أخذت معي بندقية من نوع M1 وثلاثة مخازن وأربعين رصاصة كنت اشتريتها على نفقتي الخاصة، وخرجت من القرية مشياً على الأقدام حوالي الساعة السادسة صباحاً وذهبت الى الجبل المقابل للحاجز العسكري وعلى بعد 60 -70 م أخترت شجرة زيتون مع جذع عريض وكبير واحتميت بها ونصبت البندقية، وبدأت أطلق النار طلقة طلقة وكان أول ما أطلقت النار على جندي جاء في جيب عسكري من جهة نابلس وأصابته كانت قاتلة ثم كان هناك جنديان على الحاجز اطلقت عليهما النار وقتلا على الفور وخرج من المبنى الصغير قرب الحاجز ثلاثة جنود واطلقت عليهم النار ولم يعرف أحد أصلاً جهة أطلاق النار، ثم جاءت سيارة مستوطنين ووقفوا على الحاجز وأطلقت النار عليهم قبل أن يدركوا مصدر الرصاص، ثم جاءت سيارة عسكرية وبدأوا مباشرة بإطلاق النار على موقعي وأصبت منهم أثنين حيث وصل مجموع القتلى الى 11 قتيلاً وأكثر من عشرة جرحى بإصابات بالغة ولم يزد ما أطلقته عن 24 رصاصة أصابت جميعاً ثم أنفجرت البندقية في هذه الأثناء وحاولت أصلاحها فتفتت بين يدي وجرى ذلك أثناء اطلاق النار ومجيء عدد آخر من السيارات العسكرية فقررت الانسحاب أثناء أطلاق النار".

ويقول حماد " الغريب أنهم لم يجرؤوا على الملاحقة وكانوا في حالة من الذهول والذعر ولم يجرؤوا على الأقتراب من الجرحى لفترة من الزمن، وقد غادرت الموقع وتسلقت الجبل وذهبت الى طريق بلدة جلجولية غرباً ثم عدت شرقاً وقطعت الشارع باتجاه بلدتي سلواد وقبل الساعة السابعة والنصف كنت قد أخذت حماماً واستلقيت على فراشي واخذت أغط في نوم عميق، استيقظت ظهرا وأذا بالجميع وكل وسائل الاعلام في العالم والناس في البلدة يتحدثون عن العملية وقد تصرفت كباقي الناس ولم أقل أية كلمة لأحد ولم يبد علي اي انفعال أو تأثر بهذه العملية."

 

تصميم وتطوير