أيام الزمن الجميل

02.01.2017 07:54 PM

كتب:طارق عسراوي

يَعرفُ جيداً كيف يجدِل طرفي المقلاع بحيث ينفلت بانسيابية تجعل للحجر جناحين، وصوت رفرفة تدلل على قوة الانعتاق. مرارا ما تفوّقَ على أصدقائه في إصابة الهدف المحدد في ألعابهم .. وما زال يبتسمُ كلّما تذكّر رهانه مع صديقيه على إصابة علبة الزيت الفارغة الموضوعة فوق سور حارتهم كهدفٍ للرماية من بعيد، يومها صرخ صديقه أحمد بعد أن طارت علبة الزيت الفارغة: "والله انك صقر"، وهكذا صار اسمه "صقر" لسنوات طويلة!

كنت أستمع إليه بإصغاء، وهو يتحدث عن ذلك اليوم، ينفعل والابتسامة تضيء محيّاه تارة، وتارة تلمع نجمتان في عينيه قبل أن يبعثرهما بسبّابته منعا لانسيابهما حارتين فوق خديه!

أحمد وعقل وصقر، كانوا ثلاثة أصدقاء اجتمعوا في مقعد واحد في المدرسة، وفي حارة واحدة، وفرّقتهم اقدارٌ كُتِبت قبل أن يولدوا بيد سماوية، أحمد الذي أحب الجبال.. استشهد فيها! كان أكثرنا جسارةً، قال.

في تلك الليلة الباردة صدحَ في صمت المدينة صوتٌ عبر مكبّر الصوت اليدوي، كان الصوت حاداً وهو يتلوا الآية 169 من سورة عمران، ويلحِف بالقسم على مواصلة الطريق فالعهد هو العهد والقسم هو القسم، وكان أحمد مسجّى في صوت "عقل" وبين كلمات القسم، فقد سقط مبكرا برصاصة قوّة خاصة انتشرت في الأحراش القريبة. لم يتمالك عقل مشاعره وهو يتلو بيان النعي، حيث كان حاسماً، ملتهبا، على مسمع ليل المدينة، و "صقر" الذي جلس يراقب الطريق شاهد أضواء السيارات العسكرية وهي تلحق صوت النداء ورصاصتين أطلقتا في الهواء عهدا وتحديا.

فكّ مقلاعه عن وسطه، وتناول حجرا مناسبا، لم يلجأ لاستخدام المسدس المعلّق في خاصرته، حيث لم يشأ أن يصعّد الامر لحظة الانفعال واكتفى بسلاحه اليدوي، مقلاعه المنجنيق.

كانت الدوريات تصعد طريق الجبل والمقلاع يلف فوق رأس صقر دورته الخاطفة، وحين انفلت طرفه من بين أصابعه كان الحجر يرفرف بعزم صوب مركبة الجنود، وبينما تصاعد صوت الرصاص عشوائيا من بنادق الجنود، تناول حجرا اخر، ولقّمه مقلاعه بينما هم يتحركون حول المركبات .. و فرّررر، مقلداً رفرفة الحجر تابع حديثه مبتسماً،

لقد فقدت الناس في تلك الأيام الكثير من أحبابهم، وتعرضوا للاعتقال مرات ومرات وذاقوا أصناف التعذيب المرعبة في اقبية التحقيق، دوهمت بيوتهم وأصابتهم الأمراض. نعم .. انتكسنا وتقرحت قلوبنا حين سقط بعض من رفاقنا في شراك الاحتلال ووحله، لكنك ستجدنا نحن أبناء ذلك الجيل، أقصد من انخرط في تلك المرحلة، لدى كل واحد منّا حكايته الفردية التي تتجمع كلها كالفسيفساء لتشكل حكايتنا العامة والكليّة عن تلك المرحلة.

كنت أصغي إليه باهتمام، في ليلة الثامن من كانون أول والتي تصادف الذكرى التاسعة والعشرين لانطلاقة الانتفاضة الأولى، وهو يسرد الحكايات بعاطفة وشوق، وعجبت منه حين تنهّد في نهاية الأمر وهو يقول مبتسماً: كانت تلك أيام الزمن الجميل!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير