نهر أبي فطرس .. أبدع مناظر فلسطين

11.05.2017 08:28 AM

وطن- تقرير: عمر عاصي

كثيرون يعرفونه باسم "العوجا" أو "اليركون" أما اسم "ابي فطرس"  فيكاد يكون اسمًا مجهولًا لأكثرنا اليوم، وهي تسميّة تعكس جهلنا بفلسطين وبهذا النهر البديع في قلب البلاد، والذي لا يتميزّ بطوله فهو لا يبلغ إلا 27.5 كم مع كُل تعرجّاته، بيد أنه يحمل في جُعبته الكثير من الحكايا والجمال، فعلى ضفافه بنى هيرودوس مدينة عظيمة، وإليه لجأ الأمويون في محنتهم مع العباسيين، وعنده بنى الصهاينة أولى مستوطناتهم "بيتاح تكفا" ثم "تل أبيب" على أراضي قرى فلسطينية كثيرة تم تدميرها وتهجير أهلها، تمامًا كما تسبب هذا الاستيطان باستنزاف النهر وتلويثه بعد أن كانت ضفافه وحدائقه "من أبدع مناظر فلسطين".

التسميّة

سواء كُنا نتحدث عن نهر العوجاء أو "العوجا" وكذلك "فطرس" أو "أبي فطرس" وحتى "اليركون" فإن كُل هذه التسميّات تعود لهذا النهر الذي يُعتبر ثاني أنهار فلسطين من حيث كميّة المياه المُتدفقة فيه، وفي المصادر العربيّة القديمة فإن تسميّة "أبي فطرس" أكثر التسميات شيوعيًا من غيرها، فمعظم الكُتب التي تحدثت عن مجزرة الأمويين في فلسطين ذكرت بأنها وقعت عند "نهر ابي فطرس"، وأبي فطرس ليست تسميّة عربيّة بحتة وهي تحريفًا لكلمة "أنتيباتريس" وهي اسم المدينة الرومانيّة التي أقامها هيرودوس عند منبع النهر والتي تعرف اليوم بـ"رأس العين".

هذه التسميّة لم تعد شائعة اليوم، فتسمية "العوجا" أكثر شيوعًا وهي تدلنا على أكثر ما يميّز النهر وهي أنه "أعوج"، تمامًا كتسمية "يركون" العبريّة، بحيث أن كلمة "ياروك" تعني "أخضر" وكلمة "يركون" تُشير إلى لون مياه النهر المائلة للخُضرة.

أعوج، أخضر وبديع ..  !

قُد تكون "خُضرة" المياه مؤشّرًا لتلوّث النهر، ولكن في نهر "أبي فُطرس" حتى المياه النقيّة "الممتازة" تبدو خضراء، بالأخص في القسم العلوي من النهر والقريب من المنبع عند "رأس العين"، حيث تُرى زهور "النيوفلر الأصفر" البديعة، وتنمو على الضفاف فاكهة توت العليق البري اللذيذة، كما الشلالات الصغيرة التي يستمتع البعض بالاستحمام عندها في  تجوالهم عند النهر.

وللتجوال عند هذا النهر خاصيّة مميزة، فمجرى النهر ليس مستقيمًا ولا منحنيًا ككثيرٍ من أنهار فلسطين، فلو تأملنا مجرى النهر لوجدنا تعرّجات كثيرة على شكل حرف "اوميغا" اليوناني، وهذه الظاهرة تصنف في علم الأنهار باسم Meander وهناك أنهار كثيرة حول العالم تتميز بهذا الشكل وتبدو فيها هذه الظاهرة أوضح.

في نهر العوجاء يصل طول النهر كما ذكرنا إلى 27.5 كم علمًا بأن المسافة الجويّة من المنبع إلى المصب 14 كم فقط، وهي مسافة قصيرة نسبيًا يُمكن عبورها مشيًا خلال 3 ساعات فقط، بيد أن التجوال على ضفاف النهر على طوله تستغرق مسافة يوم مشيًا وهي "8 ساعات تقريبًا"، وهناك "مسار" خاص بهذه المنطقة وهو جُزء من مسار طويل جدًا يبلغ طوله 950 كم تقريبًا ويمتد من الحدود مع مصر إلى الحدود مع سوريا ولبنان عند جبل الشيخ شمال فلسطين.   

في موسوعته "بلادنا فلسطين" أشار الباحث مصطفى الدبّاغ إلى جمال جنان نهر العوجاء قائلًا: "ومنظر ضفاف نهر العوجاء من أبدع مناظر فلسطين، بما فيه من خضرة وجنان زاهرة"، وفي جريدة فلسطين الصادرة يوم الجمعة 11 أيار 1945، أي قبل النكبة بثلاثة أعوام، نجد إعلانًا لـ«متنزه العلمين» على ضفاف نهر العوجاء، قرب قرية "الشيخ مونس" باعتباره "من أفخم المطاعم والمقاهي في البلاد .. وفي بقعة تشرف على مناظر طبيعيّة خلابة" وبحسب الإعلان فإن على كُل من أراد الترفيه عن نفسه... اللجوء إلى الريف الهادئ الجميل على شاطئ نهر العوجاء.

أثر الاحتلال على النهر

بعد احتلال فلسطين وتزايد أعداد المستوطنين بشكل غير طبيعي، بدأت عمليّة استنزاف لمياه النهر بشكل أدى إلى تجفيف هائل للنهر، وبالأخص في الخمسينيات حين بدأ بن غوريون بتشجيع الاستيطان في النقب وبلاد بئر السبع فأنشأ مشروعاً لجر قسم كبير من المياه إلى المستوطنات الجديدة، واستمر الاستنزاف حتى بدأت تظهر آثاره الوخيمة وبالأخص بعد تزايد الشركات والمنشآت الصناعية على الضفاف.

في عام 2008 اندلع حريق هائل في مصانع شركة سانو "الإسرائيلية"، وقامت الشركة بضخ كميّات هائلة من مواد التنظيف إلى النهر وهو ما أدى لتلوث خطير للمياه، حتى أصبحت رائحة المياه كرائحة الكلور وكانت النتيجة كارثيّة، حيث تسبب هذا التلوث بموت 100 طن من الأسماك.
ليست هذه الحادثة بالنادرة، فقدت أكدت تقارير بيئية بأن مصانع "تاعس" التابعة لجيش الاحتلال الاسرائيلي تسببت بتلويث المياه الجوفيّة في منطقة "رمات هشارن" المُقامة على أراضي عرب أبو كشك، الأمر الذي اضطر السلطات البيئية لإيقاف سحب المياه من بعض الآبار.

القرى الفلسطينية المُهجّرة

لم تنحصر الأضرار على ضفاف النهر على المياه أو النباتات والحيوان، بل طالت العديد من القرى الفلسطينية التي كانت في هذه المنطقة من فلسطين حيث تم تهجير كُل القرى في محيط النهر، وكانت أكبر هذه القرى "عرب أبو كشك" حيث امتدت أراضي أهلها على مساحات شاسعة جدًا تصل إلى البحر الأبيض، وأشهرها قرية "الشيخ مونس" التي أقيمت على أراضيها جامعة تل أبيب، كما كانت هناك قرى صغيرة جدًا لا تزال بعض آثارها قائمة مثل "المحمودية" و"المر" و"جريشة" وهذه أفضل حالًا من القرى التي لم يبقَ منها أي أثر مثل "الجماسين" و"عرب السوالمة".

اليوم، يُمكن للمتجوّل على ضفاف النهر أن يزور القلعة العُثمانية التي لا تزال قائمة عند مدينة "ابي فطرس" التاريخية عند منبع النهر، كما يُمكنه أن يشاهد بعض بيوت قرية "عرب المويلح" وعدد من الطواحين التي كانت تعمل بواسطة القوّة المائية "الهيدروليكيّة" عند قرية "المر" وأخرى تُسمى "طواحين أبو رباح" لا تزال قائمة وتُعرف بهذا الاسم حتى اليوم وتقع عند مستوطنة "بيتاح تكفا" التي كانت تسمى "ملبّس"، وعند قرية "جريشة" الصغيرة توجد بقايا من مطحنة القرية التي تقع ضمن ما يُسمى "بارك جاني يهوشع". وفي قرية الشيخ مونس لم يبق إلا منزل واحد يُعرف بالبيت الأخضر وتستغله جامعة تل أبيب للاحتفالات.

ختامًا، فإن نهر العوجاء ومع اختلاف تسمياته يحمل الكثير من حكايا أرض فلسطين منذ معركة أفيق قبل ألف عام من الميلاد مرورًا بنكبة عام 48 وحتى يومنا هذا، كما أنه من أجمل أنهار فلسطين حتى لو كانت مياهه تميل إلى الخضرة أو الصفرة أحيانًا، إلا أن مشاهد أشجار الكينا والنيوفلر الأصفر على الضفاف بديعة جدًا ولا تتكرر كثيرًا في فلسطين المحتلة ولهذا علينا أن نعيد استكشافه والإصغاء إليه جيدًا!

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير