نحو وعي بديل

28.06.2017 04:12 PM

اضاءات على مبادرات تجديد الفكر السياسي الفلسطيني

كتب: عوض عبد الفتاح

منذ سنوات طويلة، يصرخ الواقع الفلسطيني في وجه المسؤولين بالحاجه الى خريطة طريق. إلا ان هذا الصراخ يقع على اذان صماء وعقول موصده، فقدت الابداع، والاراده، والرؤيه. إنه صوت الشعب الذي وُعد بالتحرر والانعتاق قبل اكثر من خمسين عاماً، ووجد نفسه الان وقد انتهت ثورته، مُمزقا ديمغرافياً وجغرافياً وسياسياً،  تحت نير نظام كولونيالي وحشي وتحت قياده تغيرت ملامحها، ولونها، وما عادت لها صلة بصورتها الاصليه او بمثلها الأولى و وعودها الكبيره.

لم تُجدِ "الواقعية" السياسيه التي بدأت تنتهجها الطبقه السياسيه الفلسطينيه، منذ اوائل السبعينات والتي انتجت إتفاقيه أوسلو. وهي واقعيه تدحرجت الى واقعية مبتذلة ورثّة، انتهت الى منح شرعيه لنظام ابارتهايد كولونيالي واصل التمدد والتغول حتى قي ظل هذا الاتفاق. وقد بات المطلب الفلسطيني الممسوخ (خيار الدولتين) خرافة، حتى في نظر العديد ممن آمنوا به في لحظه ما.

خلال هذه الحقبه الطويله من الولوج والتورط في ما يسمى عملية السلام، وهي في نظري اكبر عمليه تضليل في التاريخ، جرت تحولات عميقه وخطيره في بنية المشروع الاستعماري الصهيوني الذي تعمق وترسخ اكثر واكثر في الوطن الفلسطيني. كما افرزت "عمليه السلام" تحولات إجتماعيه وسياسيه وثقافيه ومعنويه خطيره داخل المجتمع الفلسطيني وفي الطبقه السياسيه التي تقود الجسم السياسي حتى الان. مضافاً الى كل ذلك، الواقع العربي الرث الذي تفاقم بانتصار الثورات المضاده، وواقع التحولات الدوليه التي تلقي بظلالها الثقيله على القضيه الفلسطينيه وعلى نضال الشعبي الفلسطيني التحرري. حاصل هذه التحولات بالنسبه لشعبنا الفلسطيني، يُنذر بمخاطر أشد في حالة عدم تغير استراتجيه العمل.

ليس الشعب الفلسطيني عاقراً

ليس هذا التوصيف للواقع، على قتامته، مدعاة للنكوص او الخضوع. إن شعبنا ليس عاقراً. وفي داخله لا تنطفأ جذوة الرفض. فبين الحين والاخر، وفي اطار هذا المشهد العام، يُفاجئ الشعب نفسه، ويُفاجئ العدو، بتعبيرات مقاومه ميدانيه بطوليه، تذكر الجميع باستمرار وقوعه تحت الاستعمار،  وبقضيته العادله، وأنه  لن يكف عن الرفض والمقاومه مهما إشتد بطش الاستعمار ومهما طال الزمن. وكان اخر تجليات هذا الرفض الانساني إضراب أسرى الحريه، شهر نيسان الماضي، الذي دام 41 يوماً. وانه لامر مُثير للاعجاب والفخر ان يواصل هذا الشعب، و اوساط واسعه من مناضليه، ومنظماته، التحدي والاستعداد للتضحيه، رغم حالة قيادته الرثه، ورغم استمرار رجحان كفة ميزان القوى لصالح المستعمر.

هذا الشعب يريد قياده حقيقيه قديره، وذات مصداقيه، ويريد إستئناف واستكمال مشروعه الوطني التحرري. ليس بوسع الشعب ان يخوض معركة تحرريه شامله بدون رؤيه واضحه،وبدون قياده وطنيه موحده ومؤهله، وبدون هدف واضح .  نعم اعادة اطلاق معركة التحرر الوطني تحتاج الى قياده قادره وملهمه، وإلى رؤية واضحه، وإلى استراتجيه أمل. ولكن ما العمل عندما تكون هذه القياده قد تحولت الى رهينة وأسيرة إتفاق سعت اليه ليكون منقذاً لها، فتحول الى كابوس مُرعب لشعبنا بأكمله. هو اتفاق اوسلو.

لقد مر اكثر من عقدين على أوسلو، وحصيلته صفر، دون الاستعداد للتوقف والمراجعه، ودون ان تتغير الطبقه القياديه التي تحكم السلطه. منذ أن اشتدت الأزمه وبان عجز الطبقه السياسيه بصوره لا لبس فيها، وتوالت الكوارث، بدأت الاسئله والتساؤلات تزداد. وبات البحث عن المخرج ملحاً ومسألة وجوديه. وهذا البحث يجري خارج إطار مدرسة اوسلو ومن خلال الاستئناف على عدم أُهليه القياده التاريخيه.

يُقال انه عندما يصبح الاصلاح (من الداخل) مستحيلا تصبح الثوره حتميه. وهذا ما حصل في العالم العربي عام 2011. وتساءل الكثيرون عند انفجار الثورات العربيه لماذا لا يحدث ثوره ضد الاحتلال وضد السلطه الفلسطينيه. دون التمحيص في تعقيدات الواقع الفلسطيني والعوائق التي تراكمت بصوره مدهشه منذ توقيع إتفاق اوسلو.

وكانت حركه حماس قد اعتقدت أنها ببرنامجها وعملياتها مؤهله لتكون البديل. ولكن رغم كل التضحيات التي قدمتها، فإنها لم تُقرب شعبنا من التحرر. وُلدت حركه حماس، وتحولت الى حركه مقاومه، خارج إطار الوطنيه الفلسطينيه التاريخيه. وجاء حراكها التنظيمي  والسياسي وعملياتها العسكريه ضد أوسلو، ومن خارج أوسلو، ولكنها عادت لتنضوي في اطار اوسلو من خلال الانتخابات العامه التي جرت عام 2005، بعد مقاطعة طويله. غير أن محاولتها الجمع بين المقاومه والسلطه، أفضى الى أزمه خانقه تعيشها، تحت الحصار، والى إنفصالها عن الضفه والقدس. مؤخراً، ومن خلال قبولها رسمياً دولة في الضفه والقطاع، بدت وكأنها تسير على خطى حركه فتح . وهكذا اكتملت خريطه الازمه وبات الخيار الثالث مطلوباً اكثر من أي وقت مضى، خاصة مع تعمق نهجها السياسي البراغماتي المبتذل مثل اتفاقها مع محمد دحلان مؤخراً.

فكر بديل يفتح الأفق

بعيداً عن اطلاع الجمهور العام، تجري منذ سنوات محاولات دؤوبه من جانب عدد كبير من الاكاديمين والمثقفين والمناضلين، للاجابه على هذه الاسئله. بل يتفرغ بعضهم كلياً للبحث والكتابه والحوار للتصدي للتحديات التي طرحها وصول التسويه الى طريق مسدود، والمشروع الوطني الفلسطيني وقيادته الى مأزق كبير. تتحدى هذه المحاولات والاجتهادات إطار أوسلو، وتغرف من تقاليد مدرسه التحرر الوطني، وقيمها ومن التجارب الانسانيه العالميه، التحرريه والديمقراطيه. وتسير هذه الجهود بالتوازي مع مبادرات شعبيه، بعضها سبق المبادرات الفكريه، كأستئناف على نهج أوسلو. وتتمثل هذه المبادرات الشعبيه في لجان حق  العوده، اللجان الشعبيه لمقاومه الجدار، وحركه المقاطعه، (التي تُعنى ايضاً بالجانب الفكري) والحركات الشبابيه والاكاديميه وغيرها. وقد كان لافتاً، وغير متوقع، لاسرائيل ولفريق اوسلو أن يصدر الرد الاول، العملي، والتنظيمي والفكري والسياسي من داخل فلسطيني ال 48. وتمثل هذا الرد في إقامه حزب التجمع الوطني الديمقراطي عام 1995، الذي رفض أوسلو، وأصر على مواصله مجابهة الصهيونيه عبر المطالبه بتفكيك البنيه اليهوديه الصهيونيه والكولونياليه لدوله اسرائيل كشرط لتحقيق العداله، واقامه نظام ديمقراطي على انقاض الصهيونيه ومشروعها الاستعماري. مع ذلك فإن حزبي ، اي حزب التجمع ، يدرك الحاجه الى مواصله تجديد وتطوير فكره السياسي  ورؤيته للعلاقه مع المشروع الوطني الفلسطيني التحرري .

عوده الى دور المثقف الوطني/ العضوي

على خلفيه الوعي بهذا الواقع، والوعي بالمسؤوليه الوطنيه التاريخيه، ازدادت أعداد المثقفين والباحثين، وخاصة من طلائع ومثقفي الجيل الشاب، الذين يحاولون المساهمه في إعاده إطلاق المخيله الفلسطينيه في مواجهه إشتداد أزمه الحركه الوطنيه الفلسطينيه، وفي ظل العجز المريع للنخبه السياسيه الفلسطينيه التي تقود الحركه الوطنيه منذ خمسة عقود ، التي وصلت الى حالة افلاس كامل عبر كافة المستويات: السياسيه، الاقتصاديه، والنضاليه، والفكريه. لم تكن مسيرة الحركه الوطنيه على مدار تاريخ دورها القيادي، بدون أصوات نقديه واعتراضيه. كانت الاصوات النقديه تصدر في الاساس من فصائل فلسطينيه يساريه، ضد نهج حركه فتح باعتبارها الفصيل الاكبر القائد. اما الاصوات الفرديه الصادره عن مثقفين فنادرا ما كان يُصغى اليها.  اذ ان هذه  الشريحه من المثقفين  لم تكن تحظى بتقدير واحترام من معظم الفصائل الفلسطينيه. وهذا نابع من البنيه العسكريه لهذه الفصائل التي لم تُدرك اهميه المثقف الوطني المستقل.

وقد برز من بين المثقفين الاكثر مثابرة في النقد لاداء القياده، قبل اوسلو وبعد أوسلو المفكر الفلسطيني الامريكي الشهير ادوارد سعيد، الذي أًشتهر بتصديه لنظرية الاستشراق الاستعماريه ، وفي الدفاع عن قضيه فلسطين في أمريكا والغرب عموماً. وكان قد رفع صوته في وقت مُبكر، وبصوره منهجيه، ضد نهج القياده قبل الوصول الى الاتفاق الذي إستشرف نهايته الفاشله، بل الكارثيه، وواصل صب جام نقده الشديد على هذا الاتفاق حتى وفاته عام 2003. وإعتبره خضوعاً لشروط الحركه الصهيونيه، ودعا الى الاقتداء بنموذج جنوب افريقيا المنتصر. وقد عبر عن ذلك، في مقالات كثيره اصدرها لاحقاً في كتاب: "نهايه عمليه السلام.. أوسلو وما بعدها" لعام 2002 . وطبعا في كتب عديده اخرى .

كما أن المفكر الفلسطيني عزمي بشاره، كان ايضاً من هؤلاء، اذ عبر عن رفضه ونقده الشديد في مقال هام كتبه بعد أيام من توقيع الاتفاق. وكان تأسيس التجمع عام 1995، والدور المركزي الذي لعبه بشاره في اطلاق وقيادة هذا المشروع، رداً سياسياً وثقافيا واخلاقياً على اتفاق اوسلو، جريئاً وطليعياً. وفي السنوات الاخيره قدم مساهمات نقديه كثيره من خلال مقالات و كتب عديده .

وفي اطار المركز العربي للدراسات (Dohainstitute) الذي يديره عزمي بشاره، نظمت عده مؤتمرات عن القضيه الفلسطينيه وشارك فيها مئات الاكاديمين والمثقفين الفلسطينين والعرب وقيادات سابقه في فصائل الثوره الفلسطينيه، تحمل فكراً نقدياً ورؤيه لمستقبل اخر، وكان لي شرف المشاركه بورقة  في المؤتمر الأخير الذي عقد في ضوء  الموجه الانتفاضيه التي عرفت بانتفاضة السكاكين .  وصدرت انتاجات هامه عن كيفيه الخروج من المأزق.

بعد قمع الانتفاضه الثانيه، او في اواخرها عام 2003-2004 بدأت تظهر اسماء ومؤسسات بحثيه ومواقع الكترونيه من خارج المؤسسات الرسميه، تتصدى لإطار اوسلو وتتحداه. وظهرت في السنوات القليله الماضيه اسماء اكاديميه شابه، تدلي بدلوها في اطار ما يسمى التفكير "خارج الصندوق". واللافت للنظر ان الغالبيه الساحقه لهذه الاصوات والمواقع ان لم يكن كلها، مستقله. ويُشار الى ان جميع المجتهدين هم إما من الذين غادروا فصائلهم، او انه لم يكن لهم إنتماء حزبي سابق، مما يؤكد ان هذه الفصائل وصلت الى مستوى خطير من الجمود وقمع النقد، او على الاقل عدم الاستعداد للتجاوب مع مطلب التغيير، والعجز عن التجديد. ومن المهم التعريف ببعض هذه الاسماء والمؤسسات طالما اننا نهدف من هذه المقاله، في الاساس، الى المساهمه في نشر المعرفه، وتسهيل وصول طلائع الاجيال الشابه النشطه ذات الوعي باهميه الاضطلاع بالمسؤوليه الوطنيه التاريخيه. ومن ابرز هؤلاء، عالم الاجتماع، الدكتور جميل هلال، القائد السابق في الجبهه الديمقراطيه لتحرير فلسطين، والذي تفرغ لمعالجه جذور الازمه وطرح البدائل. وقد عالج الجذور الاجتماعيه الاقتصاديه للنخبه التي قادت الشعب الفلسطيني واوصلته الى هنا. وقدم تصورات بديله، في كتب ودراسات عديده هامه، مثل "الطبقه الوسطى الفلسطينيه... بحث في فوضى الهويه والمرجعيه والثقافه". وكتاب "إضاء على مأزق النخبه السياسيه الفلسطينيه". ودراسات كثيره اهمها: "استرداد الروايه الفلسطينيه" و "تحديات أمام الثقافه الفلسطينيه" وغيرها.

وأسماء أخرى، مثل جورج جقمان، أحد مؤسسي مؤسسه مواطن في رام الله (مع صديقه عزمي بشارة  منذ اوائل التسعينات). وهذه المؤسسه  عالجت ،  عبر عشرات الكتب ومئات الدراسات الواقع الفلسطيني. و صدرت عن المركز اصدارات هامه عن النظام السياسي، المواطنه، والديمقراطيه. وكذلك الكتور كميل منصور من مؤسسة الدراسات الفلسطينيه، والدكتور حيدر عيد، استاذ الادب الانجليزي وابراهيم براش وعبدالله عوكل وغيرهم من قطاع غزة. وهناك عشرات المحاضرين الفلسطينين والباحثين في الخارج والداخل(خاصه أوروبا وامريكا): كرمه النابلسي،  سلامه كيله، غاده الكرمه، ليلى فرسخ، مي الجيوسي، ماجد كيالي، صالح عبد الجواد، احمد جميل عزم، عبد الرحيم الشيخ، احمد يوسف(غزه)، دنيا الامل إسماعيل، عمر البرغوثي، علي ابو نعمه، نور مصالحه، رجا الخالدي، رمزي بارود، علاء الترتير، ليندا طبر وعلاء العزه وساري حنفي، ومازن قمصيه ، وعدد كبير من الاكاديميين الشباب في كافه تجمعات الشعب الفلسطيني.

ومن المهم الاشاره الى عدد من الاكاديميين من فلسطيني ال 48 المنخرطين في هذا الجهد ان كان في اطار نشاط مستقل او في اطار مؤسسات بحثيه ومن خلال التعاون مع مؤسسات فلسطينيه في الضفه والشتات. وهذا الدور لهؤلاء الاكاديمين والمثقفين يعكس تطور الوعي بأهميه مكانه ودور فلسطيني ال 48 في الصراع وفي المستقبل، وبواجبهم الوطني في المساهمه في الجهد الفكري والبحثي والعملي في بلورة  رؤيه للمستقبل  الفلسطيني المشترك.

ومن هؤلاء: الدكتور نديم روحانا، مدير مركز مدى الكرمل، في مدينه حيفا والباحثين والاكاديمين العاملين في المركز. ايضا نمر سلطاني، نادرة شلهوب، رائف زريق، بشير بشير، اسعد غانم، مهند مصطفى، هنيده غانم(من مركز مدار) إسماعيل ناشف. وفي الثقافه: علاء حليلحل، وعلي مواسي وراضي شحاده وغيرهم. اما المؤسسات البحثيه، منها:
مؤسسه مسار للدراسات، رام الله، التي يديرها الباحث هاني المصري، القيادي السابق في الجبهه الشعبيه لتحرير فلسطين.. ورفيقه خليل شاهين العامل في نفس المؤسسه وهي من اكثر المؤسسات انتاجاً في مجال مراجعه التجربه الفلسطينيه وأقتراح تصورات بديله.

مؤسسه الدراسات الفلسطينيه، في بيروت، ورام الله، وهي أعرق مؤسسه بحثيه فلسطينيه، وواكبت الثوره الفلسطينيه منذ بداياتها، ولعبت ولا تزال دوراً هاماً في بلوره الوعي وتزويد الشعب الفلسطيني بالابحاث والدراسات.
وهناك أطر ومواقع منخرطه في هذا الجهد التجديدي، وابرزها شبكه السياسات الفلسطينيه (al-shabaka.org) وتنشر دراسات ومقالات نقديه باللغتين العربيه والانجليزيه. ويساهم فيها عدد كبير من الاكاديمين الشباب اللامعين اضافه الى الكبار.
هناك مواقع فلسطينيه باللغه الانجليزيه متمركزه حول الرؤيه البديله للسياسه الفلسطينيه السائده، منها:
Electronic Intifada, Chronicle Intifada, One Democratic State Group(ODS)

الخطاب الكولونيالي والتحرر الوطني كاداة تحليل وتوجيه

تظهر وتتكرر في الكتابات النقديه الجديده للواقع الفلسطيني مصطلحات وعبارات مثل: إعادة تأطير الصراع، الخطاب الكولونيالي وما بعد الكولونيالي  سلطة الشعب والمقاومه الشعبيه، إعادة تعريف القضيه الفلسطينيه، خرافة التنميه، خرافة الدولتين، استرداد الروايه الوطنيه الفلسطينيه. اما بخصوص خيارات الحلول المطروحه فنقرأ: عن إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني، الدوله الديمقراطيه الواحده، الدوله الثنائيه القوميه، نظام الابارتهايد، نموذج جنوب افريقيا التحرري الديمقراطي. وتبدو هذه المفاهيم والمقولات للكثيرين، حتى في اوساط النشطاء والقاده في العمل السياسي والوطني، مفاهيم ومقولات عامه لا يجري التوقف عندها بصوره كافيه ومحاولة فهم معانيها ودلالاتها، الثقافيه، والسياسيه والاستراتيجيه،  والحاجه اليها في مسيرة تجديد الحركه الوطنيه الفلسطينيه، ودورها التحرري. وهذا يعني ان النقد الموجه الى الخطاب السياسي السائد، لم يخرج بعد من الدوائر الاكاديميه والمؤسسات البحثيه ليأخذ مجراه بين الناس، وخاصة بين كوادر الفصائل الوطنيه، والاحزاب والحركات السياسيه، وعموم الشباب المهتم بالقضيه الوطنيه الباحث عن البديل. لقد حان الوقت للتفكير في كيفيه تعميم هذه الابحاث والكتابات، والتمهيد لخلق الحامل الاجتماعي الوطني والاجتماعي الذي من المفروض ان يتصدى لمهمه التحرير وتحقيق حق تقرير المصير لشعبنا الفلسطيني. ويهدف سرد وفهم المصطلحات والمفاهيم المذكوره الى المساهمه في تقديم استراتيجيه أمل، وتجنيد وتعبئه الافراد، حول رؤيه متحرره وطنيه وانسانيه.

• إعادة تأطير الصراع والخطاب الكولونيالي Reframing the Conflict:

يعني هذا المصطلح  ان الصراع كان يجري في أطار حاله معينه ثم إنحرف الى إطار مختلف يبتعد عن الهدف الاصلي، وبعدها تنشأ الحاجه لإعادته الى منطلقاته الأولى. ما هي الحاله الاولى للصراع الصهيوني - الفلسطيني(والعربي). هي حالة صراع يخوضه شعب تعرض للغزو والاستعمار من قبل مستعمر جاء من الخارج منذ مئه عام: وطرفا الصراع هما: الشعب الفلسطيني والحركه الصهيونيه.
كان هدف الشعب الفلسطيني الاصلي تحرير ارضه من المستعمر. وهذا الصراع يُسمى بالعلوم السياسيه استعمار استيطاني Settler Colonialism وهو استعمار احلالي، اي احلال مجموعه خارجيه محل مجموعه اصلانيه عن طريق العنف. ويحق لاصحاب الارض الاصليين خوض نضال بكافة الوسائل المشروعه لطرد المستعمر، او لتفكيك نظام المستعمر (حكومه ومؤسساته) التي تقمع الشعب وتضطهده. وكان هناك ثلاثه نماذج تاريخيه من الحلول التي نجمت عن الاستعمار والمقاومه في اطار الاستعمار الاستيطاني:

الاولى : الاستعمار الذي انتصر عبر إبادة السكان الاصليين، ومثال على ذلك امريكا، استرالياـ نيوزلندا.

والثاني: إنتصار اصحاب الوطن، كما حصل في الجزائر ضد الفرنسيين الذين أجبروا على تفكيك مستعمراتهم والعوده الى الوطن الام .  وتحقق هذا الانتصار  أيضاً في عشرات الدول، في أفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينيه.

الثالث: تفكيك نظام الاستعمار والفصل العنصري، وأبقاء المستوطنين البيض، عبر تسوية تاريخيه، تتمثل بتنازلهم عن السلطه السياسيه وعن الهيمنه، والعيش مع اصحاب الوطن الاصليين في اطار دولة ديمقراطيه واحده تقوم على المواطنه المتساويه مثل جنوب افريقيا، (عام 1994). وهو نموذج ينادي به العديد من الاكاديمين الفلسطينين، وكذلك مهتمون اجانب في الشأن الفلسطيني، وتطبيقه على الحاله الفلسطينيه الاسرائيليه. وبات نموذج جنوب افريقيا الديمقراطي موضوع اهتمام متزايد في ابحاث مقارنه في الدوائر الاكاديميه، ونموذج ملهم للمزيد من النشطاء السياسيين.

وكل هذه النماذج هي نماذج صراع بين مستعمر ومُستعمر وليس نزاعاً على حدود.
ولكن الصراع في فلسطين الذي هو في الاصل صراع ضد استعمار استيطاني تحول من خلال  اتفاق اوسلو الى نزاع على حدود، بين دوله الاستعمار (اسرائيل) ودوله فلسطين الافتراضيه، أي قبل ان تقوم. وجاء ولوج  القياده الفلسطينيه الى نفق التسويه و التوصل الى هذا الاتفاق، في ظل العجز عن تحقيق هدف التحرير الكامل. تضمن هذا الاتفاق ان اسرائيل هي دوله طبيعيه وليست دوله استعماريه، دون مساءله طبيعتها وتكوينها الداخلي، اليهودي العنصري الذي ينفي حق اللاجئين بالعوده وحق الفلسطينيين داخل الخط الأخضر بحق  تقرير المصير . هكذا تغير الخطاب الفلسطيني الرسمي وباتت اسرائيل دولة جاره يتمحور الخلاف معها حول حدود الدوله الفلسطينيه المستقبليهالافتراضيه الوهميه.

حاله الصراع الراهنه:

بعد اكثر من عشرين عاماً على اتفاق أوسلو، ومن المفاوضات العبثيه، تبدل الخطاب الفلسطيني، وتغيرت المفردات لتصبح ملائمه ومتكيفه مع ما يسمى عمليه السلام. وقد استفاق الفلسطينيون على واقع استعماري اكثر خطورة، وأعمق مما كان. كما ان الخطاب الاسرائيلي أوغل في التطرف والانكار على خلاف الخطاب الفلسطيني الذي أوغل في الاعتدال والاستجداء. وهكذا يجد الشعب الفلسطيني، نفسه، بكافه تجمعاته واقعاً تحت نظام ابارتهايد إستعماري كولونيالي. أي ان هذا النظام يستعمر الارض ويفصل الفلسطينين ويعزلهم  في معازل غير متواصله يُذكربنظام الابرتهايد الكولونيالي البائد في جنوب افريقيا.

انطلاقاً من هذا الواقع الذي وصل اليه المشروع الاستعماري الصهيوني، يعود الاكاديميون والمثقفون الى جذور الصراع، واستحضار الخطاب الكولونيالي لتحليل اسرائيل كون احتلالها للضفه والقطاع ورفضها حل الدولتين ليس طارئاً او نابعاً من مخاوف أمنيه، وإنما لأن بنية اسرائيل هي بنية استعماريه إستيطانيه وعنصريه ولا تمتلك أليه داخليه لإصلاحها. وبالتالي لا بد من حشد الشعب الفلسطيني والرأي العام العالمي لتفكيك نظامها ومؤسساتها التي تمارس الاستعمار والهيمنه والتمييز والقهر، ليصبح ممكناً تحقيق العداله، وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني في كافه تجمعاته.

• إعاده تعريف القضيه الفلسطينيه واسترداد الروايه الفلسطينيه:

هبطت القضيه الفلسطينيه في خطاب اوسلو الى قضيه الفلسطينين في الضفه والقطاع. الذي همش قضيه اللاجئين، وأقصى فلسطيني ال 48 من أي حل. وهذا التهميش والتجاهل يعني ضمناً، تكريس دونيه فلسطيني ال 48 ، وسد الطريق أمامهم بالحصول على المواطنه المتساوية ، والتخلي عن حق اقربائهم اللاجئين بالعوده الى قراهم ومدنهم الذين هجروا منها. كما باتت فلسطين مختزله في الضفه والقطاع.

ولذلك تدعو المبادرات الجديده لإعادةفلسطين ارضاً وشعباً في الخطاب الثقافي والسياسي باعتبار ان فلسطين هي فلسطين التاريخيه، وان هذا الشعب الفلسطيني يشمل كل تجمعاته في الداخل والخارج.

تُجمع المبادرات المذكوره على أهميه وضروره أسترداد الروايه الفلسطينيه، عبر تفعيل الحقل الثقافي، الراويه، والشعر، والفن، والسينما، والمسرحيات اضافة الى مناهج التعليم ، في ظل "تشتت" الحقل السياسي، أي في ظل غياب قياده سياسيه وطنيه موحده، و سياده خطاب اختزالي يهدد الروايه الفلسطينيه.. وخاصة وان اسرائيل ماضيه بوتيره عاليه في سياساتها وحملاتها الاعلاميه لتكريس روايتها الاستعماريه الزائفه.

وتحتل مسألة الحكايه الفلسطينيه حيزاً كبيراً في الكتابات النقديه المذكوره، ويرى كثيرون انها باتت مسأله وجوديه في ظل تفكك المرجعيه السياسيه وغياب المرجعيه الوطنيه الجامعه. والدعوه الى استرداد الروايه التريخيه، موجهة الى الداخل الفلسطيني والى الخارج. وبخصوص ساحة الخارج لم  يكف ادوارد سعيد خاصة في الثمانينات عن التوجه الى القيادات الفلسطينيه الى تطوير خطابها السياسي والثقافي الموجه الى الجمهور الامريكي والغربي، وكان يرى ان الحكايه يجب ان تأتي مباشره من الضحيه وتطرح كقضيه سياسيه تحرريه، وقضيه معاناه رهيبه تحت نظام استعماري وحشي.

اما على الصعيد الداخلي، فإن تفكك حركه التحرر الوطني الفلسطيني، وتغيير اجنداتها ومفرداتها، كل ذلك يُلح على العوده الى الروايه الفلسطينيه التي تبدأ من الغزوه الصهيونيه قبل اكثر من مائه عام، مروراً بالنكبه الكبرى وحتى اليوم.
وترى هذه الكتابات ان المثقف، او الحقل الثقافي يجب ان يضطلع بالمسؤوليه الوطنيه التاريخيه لحمايةالاساس التاريخي والثقافي والروحي الذي يوحد الشعب ويُبقيه شعباً واحداً اينما وجد خاصة وان لا حل في الافق القريب او المتوسط.

• نخبه أوسلو: ثوار باتوا جزءا من البنيه الكولونياليه

كيف تحول الثوار الذين نهضوا بالحركه الوطنيه الفلسطينيه في الستينات، الى  جزء من البنيه الكولونياليه الاسرائيليه وحراس للنظام الاستعماري  بعد اتفاقيه أوسلو؟! وهل هذا تم فجأه وبدون مقدمات؟ ولماذا يستمر هؤلاء "الثوار" في العمل في إطار هذه البنيه الاستعماريه وهل هم واعون لوضعيتهم الجديده، ولدورهم الغريب عن تجربه حركه التحرر الفلسطينيه، عن تجارب حركات التحرر في العالم:

بالتأكيد هم لم يتخيلوا وصولهم الى هذه الوضعيه السرياليه، بعد كل التضحيات الجسيمه التي قدمها شعبنا الفلسطيني من أجل تحرير وطنه وعودته. لكن للأحداث ديناميات تتولد عنها افرازات غير متوقعه اذا غابت الرؤيه،  ويصبح المبادرون اسرى او رهائن لهذه الديناميات، ويجدون أنفسهم يعيدون انتاج الواقع البائس، ويعذبونه عبر شبكة من المصالح تتشكل موضوعيا في اطار العلاقة مع الاحتلال .

ولهذا لم يعد ممكنا تفسير او  فهم التحولات  الاجتماعيه والسياسيه والثقافيه والذهنيه الخطيره  التي طرأت على الجسم السياسي الفلسطيني، وعلى المجتمع،  من زاويه اختلال ميزان القوى لصالح اسرائيل، بل من خلال اطار العلاقة الجدلية بين النخبه المستسلمة والمستعمر، وشبكة المصالح المتبادله .

ولذلك بدأنا نشهد من خلال الاجتهادات النقديه الجديده، عوده الى أدوات التحليل الطبقي المستمده من الماركسيه باعتبارها أداه تحليل لدور العلاقات الاقتصاديه، وعلاقه التبعيه الاقتصاديه في تغيير الوعي وإنتاج قيم وانماط سلوك سياسيه واخلاقيه مختلفه. كما يلجأ الباحثون النقديون كثيراً الى أدبيات المفكر الثوري فرانس فانون، الذي تناول طبيعه النخبه التي تفرزها علاقات القوه الإستعماريه بحيث تصبح جزءأً وخادماً للبنيه الكولونياليه.

ويفرد الدكتور حيدر عيد، فصلاً كاملاً في كتابه الجديد (باللغة الانجليزيه) "مواجهة النكبه... دوله واحده للجميع"
تحت عنوان قراءه فانونيه (نسبة الى المفكر فرانس فانون) لموقع ودور النخبه الفلسطينيه في الازمه التي تعيشها الحركه الوطنيه الفلسطينيه، معتمداً الخطاب الكولونيالي في تشريح بنيتها، ومفسراً سلوكها السياسي المناهض لمفاهيم حركه التحرر والمتعالي على الشعب ونهج المقاومه.

وفي دراسه مشتركه  لليندا طبر وعلاء العزه بعنوان "المقاومه الشعبيه الفلسطينيه تحت الاحتلال.. قراءه نقديه"
يكتبان :  "وهنا يبرز البعد الطبقي في ظل النظام الاستعماري، بمعنى ان عمليه التماهي مع المنظومه الاستعماريه تتجاوز البعد الثقافي او الوعي السياسي لتصبح ذات طابع بنيوي، أي تخلق مجموعه من المصالح بين النظام الاستعماري والبرجوازيه الوطنيه التي تصير وسيطاً بين مجموعه المستعمرين والرأسماليه. وتتعقد العلاقه الاستعماريه مع تحول البرجوازيه الوطنيه الى وسيط سياسي مع النظام الاستعماري نفسه ولا سيما اذا ما اخذت شكلاً من اشكال السلطه السياسيه"
وفي مكان اخر يوضحان ان استراتيجيه المستعمر تقوم على الاقصاء والاحتواء، "مع القبول السياسي لوجود "شريك" مسؤول عن تصرفاته وتصرفات مجتمعه السياسي من دون وجود تحرر وطني حقيقي في الوقت نفسه تسيطر عليه السلطه الاستعماريه، أي إعفاء السلطه الاستعماريه من استحقاقات الاستعمار". وبالتالي لا تعود هذه السلطه (النخبه) تؤمن بقوه الجماهير ولا بدورها في المقاومه والتحدي.

إن ترويض النخبه الفلسطينيه وتكيفها مع واقع الضبط والسيطره، ومع واقع شبكه العلاقات الاقتصاديه المرتبطه بالنظام الاستعماري، أحدث تغيرات عميقه في الوعي السياسي والثقافي لدى شرائح واسعه من المجتمع الفلسطيني ومن نخبه. كل ذلك، راكم صعوبات كبيره امام مهمة إعاده خلق وعي وطني جماعي، ووعي سياسي جديد بديلاً عن الوعي الزائف، الذي افرزه اوسلو. وكذلك عقد وصعب مهمه بناء استراتيجيه مقاومه شامله وفاعله. إن من إفرازات هذه التحولات هو بروز مظاهر الفردانيه والنزعه الاستهلاكيه على حساب التضامن الجماعي، والنضال والتضحيه.

• إعاده تعريفبناء المشروع الوطني والخيارات المطروحه

القول باعاده بناء المشروع الوطني الفلسطيني، يعني أن مشروعاً وطنياً كان قائماً في السابق، والان اما غير موجود، أو اما أنه مُهدم، او غير واضح، او ان مشروعآ  أخر مطلوب ،  غير "المشروع" القائم حالياً.

في البدايه كان المشروع الوطني الفلسطيني معرفاً، او مستوعباً، كمشروع تحرري فلسطيني من البحر الى النهر، واقامه الدوله الديمقراطيه العلمانيه الواحده، وان يتم التعامل مع اليهود الاسرائيلين كمواطنين متساوين. وكان هذا المشروع والعمل من اجله، يقوم على مؤسسات وثوار واستراتجيات عمل ونضال. وتجسدت قياده الحركه الوطنيه الفلسطينيه في منظمه التحرير الفلسطينيه التي اعادت توحيد الشعب الفلسطيني تحت مرجعيه وطنيه جامعه، بعد النكبه التي شتتت الشعب والجغرافيه.

وكما أشير في السابق، مر هذا المشروعالهدف بتغيرات عميقه، وما عاد يشبه الاصل، بل بات مسخاً. وهي تغيرات بدأت قبل أوسلو وتعمقت بعده، بحيث باتت الارض المحتله عام 67 أرضا متنازعا عليها بين القياده الفلسطينيه ونظام الابارتهايد الاسرائيلي.  ( ليس قبول الكتل الاستيطانيه الضخمه في الضفه والقدس، والاستعداد للمقايضه الا امعاناً في التسليم بما هو اقل من اراضي عام 67).
كما ان اخراج فلسطيني ال 48 كلياً من الحل، ومن الصراع، والاستعداد للمساومه على حق اللاجئين في العوده ليس الامؤشرا خطيرا على المرحله التي وصل اليها المشروع الوطني من خلال خضوع  نخبة أوسلو.

هذا كله يساهم  في تشويش الوعي الجمعي  لدى تجمعات الشعب الفلسطيني المختلفه، بأننا شعب واحد، ننتمي لتاريخ مشترك ولروايه واحده.

اذا، كيف يعاد تعريف وبناء المشروع الوطني الفلسطيني، في ظل هذه التحولات الخطيره، سواء المتعلقه بالمستوى الخطير الذي وصل اليه المشروع الكولونيالي الصهيوني، أو المتعلق بالوعي السياسي الفلسطيني.

ما تطرحه جمهرة الاكاديمين والمثقفين النقديين خيارين رئيسيين:

الخيار الاول: التمسك بمطلب الدوله الفلسطينيه في الضفه والقطاع، بسبب الاجماع الدولي والغربي(رسمياً) على هذا الخيار. مشدداً على ان يشمل البرنامج حق العوده للاجئيين الى ديارهم دون مساومه، وكذلك حق الفلسطينين، داخل حدود ال 48، بالمساواه القوميه والمدنيه الكامله عبر تفكيك نظام التمييز العنصري (وهذا في الواقع ربما مُستمد من برنامج حركه المقاطعه BDS، باستثناء انها لا تذكر الدول الفلسطينيه كحل انما تتحدث عن ازاله الاحتلال والاستيطان).
اما على الصعيد العملي، فأن تبني هذا الخيار يتطلب، عملياً، إعادة بناء مؤسسات الحركه الوطنيه الفلسطينيه، وفي مقدمتها منظمه التحرير الفلسطينيه لتشمل كل فصائل العمل الوطني، بالاضافه الى حركة حماس وحركه الجهاد الاسلامي، واستعادة استقلاليتها من السلطه الفلسطينيه. وايضا تغيير وظيفه السلطه، نحو  حَصرها في خدمه المواطن على المستوى الحياه اليوميه،
والغاء  التسيق الامني و  حراسة الاحتلال،  وتبني منظمه التحرير الفلسطينيه استراتيجيه نضال موحده ضد الاحتلال الاسرائيلي. وفي الوقت ذاته يطرح اصحاب هذا التوجه، أن تحتفظ قياده الحركه الوطنيه الفلسطينيه بخيارات اخرى مثل خيار الدوله الواحده، المرفوض من قبل السلطه الفلسطينيه بصوره مطلقه.

الخيار الثاني: تبني خيار الدول الديمقراطيه الواحده القائمه على المواطنه المتساويه، او ثنائيه القوميه القائمه على الاعتراف بوجود قوميتين متساويتين داخل الدوله. وتقوم نظريه اصحاب هذه الخيار، على مبدأ العداله والمساواه، على انقاض التقسيم العنصري والكولونيالي.

ويُنظر الى هذا الخيار على انه موحد لكل الشعب الفلسطيني، شعباً وأرضاً، الذي بات يستلهم نموذج جنوب افريقيا التحرري الذي تتوج بتفكيك نظام الابارتهايد الكولونيالي وبالعيش المشترك عن قاعده المواطنه المتساويه.

وتزداد الاصوات، خاصة في الدوائر الاكاديميه الغربيه، وبالاضافه الى أصوات عديده داخل المجتمع الاسرائيلي واليهودي الامريكي، الداعيه الى حل الدوله الديمقراطيه الواحده. ويُعلل بعض هؤلاء، هذا التأييد بأسباب براغماتيه واسباب اخلاقيه. بخصوص الاسباب البراغماتيه، يرى هؤلاء ان اسرائيل قتلت حل الدولتين ولم يعد ممكناً تقسيم البلاد، ولا مكان لدوله فلسطينيه مستقله متواصله.

اما فيما يتصل بالاسباب الاخلاقيه، فإن اكثريه المنادين بالدوله الواحده، ينطلقون من مبدئ العداله وحق كافه تجمعات الشعب الفلسطيني في تقرير المصير. اذ ان إبقاء نظام ابارتهايد عنصري في وطن مسلوب غير اخلاقي وغير عادل، ولا يضمن العداله والسلام الدائم. وكما يرى هؤلاء، ان نموذج الدوله الواحده يطرح تحدياً اخلاقياً أمام الصهيونيه، وامام المجتمع العالمي. ولكن لا يزال هذا الطرح يواجه تحديات في كيفيه تحويله الى برنامج عمل. لكن هذا ليس سبباً في رفضه، بل دعوه للتفكير في كيفيه نقله الى الوعي العام والى الممارسه الجماهيريه، وخوض معركة لا هواده فيها ضد نظام الاستعمار الكولونيالي الصهيوني .

وفي اطار الرؤيه لمشروع وطني تحرري شامل، الذي يتضمن حق تقرير المصير لكافة تجمعات الشعب الفلسطيني، فإني  أرى ان موقع ودور فلسطيني ال 48 اي في هذا المشروع يستحقان مزيداً من الاهتمام في الإجتهادات الفكريه الجاريه، وأن يتم تناول تعقيدات وضعيتهم تحت المواطنه الاسرائيليه، وعدم الاكتفاء بالتعامل مع تعبيراتهم السياسيه وكأنها كتله متجانسه في التوجهات والطروحات والرؤيه.

هناك التيار الوطني القومي  ومعه اعداد كبيره من الأكاديميين  والشباب، الذين أُنشأوا وعياً وطنياً فلسطينيا  يتجاوز إطار المواطنه الاسرائيليه الشكليه، الى تحدي يهوديه الدوله العبريه وبنيتها الكولونياليه. وفِي هذا السياق ،  قدمتُ مساهمة أوليه صدرت في كتيب عام 2009 تحت عنوان "مأزق التسويه وافاق الدوله الواحده... دور فلسطيني ال 48 في المشروع الوطني الديمقراطي"، اطرح فيه  تصوراً لشكل هذه العلاقه، وكيفية تطويرها .  كما ظهرت في الاونه الاخيره مساهمات جديه صدرت من مؤسسات بحثيه فلسطينيه في رام الله، وعن اكاديمين فلسطينين من داخل الخط الأخضر. نقول ذلك، لأن هذا الجزء من شعبنا الفلسطيني (داخل منطقه 48)  بات في وعي الكثيرين، ذا تجربه هامه في الصمود والمقاومه والثبات، والأهم في مقارعه الصهيونيه ودعايتها الكاذبه في الغرب. بأختصار لهذا الجزء من شعب فلسطين دور إستراتيجي حالي ومستقبلي في الصراع من جل التحرر والحريه والمواطنه الديمقراطيه في فلسطين التاريخيه، كونه يعيش في خصوصية فريدة .


ضروره الانتقال من الفضاء الثالث الى التيار

ليست هذه المبادرات الفكريه، وحتى الشعبيه، جهداً صادراً عن مركز واحد أو مرجعيه تنظيميه او مؤسساتيه موحده . كما ان المجتهدين، من أكاديمين ومثقفين ونشطاء سياسيين، ليسوا تياراً منظماً. إن التعاون واللقاءات المشتركه ألهامه  التي تحصل بين الحين والاخر، لم تتطور بعد الى بنيه بحثيه أو فكريه او مؤسسيه موحده . وهذا ينطبق أيضاً على مجموعات الاكاديمين والمثقفين الذين لم يطرحوا اليات مفصله  حتى الان لتطوير هذا الجهد وهذا الحراك الى تيار ثالث يتكئ على قواعد شعبيه في المخيمات والمدن والقرى، وقواعد طلابيه في الجامعات. وقد يسأل البعض هل هذا هو دور هذه المؤسسات البحثيه والاكاديمين والمثقفين النقديين ،  اي الانتقال من الفكر الى الممارسه الجماهيريه،  أم دور الفصائل والجماعات المعارضه!!
وفي رأيي، أن هذه المؤسسات والمثقفين، يستطيعوا ، وهذا واجب، ان يلعبوا دوراً اكبر واكثر تأثيراً في مجال تعميم نشر الانتاج الفكري، الذي مازال انتشاره محدوداً خاصه في القواعد الطلابيه الجامعيه، وبين كوادر الفصائل الفلسطينيه في الداخل والخارج والاحزاب السياسيه داخل الخط الاخضر.

ولكن بالاضافه الى القصور في الجانب الميدانيالجماهيري، أعتقد ان هناك حاجه لإضافة بعض النقاط الفكريه والعملية لتعزيز الرؤيه التحرريه في اطار ترجمة الجهد الى  مشروع وطني تحرري :

اولاً: إن صيغه المشروع التحرري المأموله والمتوخاه يجب أن تولي اهتماماً جدياً ومبدئياً للجانب التحرري بمفهومه الشامل. واقصد التأكيد على، وابراز قيم العداله، والمساواه، وحقوق الانسان، ومناهضة الاستعمار و  العنصريه والاستبداد والتمييز الطبقي والاجتماعي. اذ لا يتسق اخلاقياً النضال من أجل تحرر الشعب الفلسطيني من نظام الاستعمار الصهيوني، في حين تداس حقوق الانسان وحرية التعبير والمشاركه في صنع القرار، تحت سلطه او سلطات فلسطينيه، او اي نظام سياسي فلسطيني او مع دعم الاستبداد في اي مكان اخر. من الصعب جذب التأييد العالمي الواسع لقضيتك حين لا تقدم السلطه الفلسطينيه صوره ديمقراطيه وحضاريه، او حين تكون السلطه مرتعاً للفساد دون محاسبه أو مساءله، هذا ناهيك عن تنسيقها الامني مع المستعمر . وهذا ينطبق ايضاً على اي حركه او حزب او جماعه تتبنى رسميا  قيم اليسار والديمقراطيه.
كما ان طرح خيار الدوله الديمقراطيه الواحده يستوجب في من يحملها أن يكون ديمقراطيا فعلاً، ومذوتاً للديمقراطيه والحريات الشخصيه..

ثانياً: البعد العربي القومي اليدموقراطي: إعادة صياغة العلاقه بين الحركه الوطنيه الفلسطينيه، بمشروعها المأمول بحيث تكون جزءً من التيار العربي القومي، الذي يتبنى النهوض بالوطن العربي، من خلال اسقاط الاستبداد وأقامة انظمه ديمقراطيه ووطنيه تربط بين حريه الوطن وحريه المواطن. إن انتصار الثورات المضاده ليست نهايه المطاف. فكل الاسباب التي دفعت الشعوب العربيه الى التضحيه بارواحها ما زالت قائمه: وهي الاستبداد والطغيان ، الرجعيه، غياب العداله الاجتماعيه، تخلف اقتصادي وصناعي وتعليمي، والفشل في تحرير فلسطين وتحقيق الاستقلال الوطني و الارتهان للقوى الخارجيه.

ثالثاً: العلاقه مع تيارات التحرر والحريه في العالم. تكثيف العمل على توسيع حضور القضيه الفلسطينيه في اوساط الحركات اليساريه، والاجتماعيه، والديمقراطيه العالميه المناهضه للنظام الرأسمالي المتوحش الذي تقوده الامبرياليه الامريكيه.
ففي ضوء إنضمام اوساط جديده من المجتمع المدني في العالم خاصه في الولايات المتحده الامريكيه واوروبا، الى حركه التضامن مع النضال الفلسطيني (في اطار حركه المقاطعه BDS مثلاً) وفي ضوء انتعاش هذه الحركات، والعوده الى السياسه والى الحراك ضد حكوماتها، يصبح التواصل معها وتوطيد العلاقات الكفاحيه واجباً وطنياً واخلاقياً.

إن هذا التواصل يجب ان يكون نابعاً ليس من حاجاتنا كفلسطينين واقعين تحت نير الاستعمار فحسب ، بل ايضا  لكون قضية  فلسطين هي احد نتائج ظلم النظام العالمي ، ولكونه نضال شعبها جزءا من نضال تحرري عالمي ،  من اجل الحريه  العداله. وفي اطار هذا الفهم، من المفروض أن نعزز التزامنا بالقيم الكونيه، وبحق كل الشعوب والافراد بنيل حقوقهم والعيش الكريم، عبر التنسيق الدائم مع هذه الاطر والجماعات والحركات التي تطالب بنظام عالمي عادل.

هذه المبادئ والتوجهات هي المكونات الاساسيه لتيار فلسطيني تحرري.. تيار التحرر والحريه. كذلك هي مكونات الشخصيه الفلسطينيه التحرريه الحديثه، والتي تستطيع ان تُحدث تغييراً سياسياً واجتماعياً تقدمياً، واخلاقياً في اطار الكفاح من احل مجتمع جديد ، وانسان جديد  متحرر من نظام الابارتهايد الكولونيالي، ومن الاستبداد.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير