الانسحاب الأميركي من اتفاقية باريس للمناخ... سيناريوهات مستقبلية

23.07.2017 08:27 AM

وطن- تقرير: جورج كرزم

اتخذ الرئيس الأميركي دونالد ترامب قراره بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، في وقت تشير التقديرات إلى أن سنة 2017 ستسجل أعلى ارتفاع بدرجات الحرارة، وفي وقت شهدت دولة البيرو بأميركا اللاتينية فيضانات غير مسبوقة أصابت أكثر من مليون شخص بأذى رهيب وتسببت باقتلاع مائة ألف شخص من أرضه، إضافة إلى خطر حدوث وفيات جماعية واسعة في أنحاء مختلفة من إفريقيا التي تعاني من أسوأ موجة جفاف سجلها التاريخ المناخي الموثق، ما سيفاقم المجاعات.

وفي حين أن ارتفاع درجة حرارة العالم قد وصل إلى حوالي 1 درجة مئوية، فإن احترارا عالميا أكبر من ذلك بكثير أمرٌ لا مفر منه: النافذة الصغيرة المفتوحة التي تسمح بتجنب احترار عالمي فوق 1.5 درجة مئوية آخذة بالإغلاق المتسارع، وبخاصة أن مستويات ثاني أكسيد الكربون قد سجلت رقما قياسيا بمقدار 410 جزءًا من المليون.

يضغط ترامب باتجاه إعادة التفاوض على اتفاقية باريس وبالتالي منح الولايات المتحدة امتياز أن تقلل كثيرا الحد الأدنى من إجراءاتها الهادفة إلى مكافحة التغيرات المناخية.  العالم، باعتقادنا، لا يمكن أن يسمح للولايات المتحدة أن "تجرجره" مرة أخرى في مفاوضات عقيمة هدفها الأميركي المسبق تخريب وشطب ما توصلت إليه معظم دول العالم، متجسدا باتفاقية باريس.  يفترض بالعالم أن يتخذ إجراءات فورية لمكافحة المناخ، مع أو بدون الولايات المتحدة.  والسؤال هو:  هل تمتلك "القيادات العالمية" الجرأة الكافية لممارسة ضغوط اقتصادية وسياسية لإرغام الولايات المتحدة على العمل المناخي الجدي والمساهمة بحصتها العادلة لمكافحة التغيرات المناخية، لحماية مستقبل الوجود البشري والحياة على الكرة الأرضية برمتها؟

وفي الوقت الذي أخذت الشعوب والمجتمعات في جميع أنحاء العالم بالولوج في حقبة جديدة من الطاقة المتجددة، كما أن عصر الوقود الأحفوري يواجه نهايته السريعة والحتمية عاجلا أم آجلا؛ فإن الولايات المتحدة  تريد جر العالم معها إلى الخلف.  ولا يكتفي ترامب بإنكاره للمقولات العلمية حول التغير المناخي- سواء من حيث تلوث المناخ أو توفير التمويل الدولي لمكافحة التغير للمناخي – بل إنه يتجاهل ملايين الناس في أفقر المجتمعات بالعالم، المكشوفين للتغيرات المناخية المتطرفة والمهددين بوجودهم. 

المفارقة أن الشرائح الأمريكية الأكثر فقرا التي لا تعود أصولها العرقية إلى بشرة ترامب الشقراء وعيونه الزرقاء، تعاني فعليا من الظلم البيئي، ومع ذلك فإن ترامب يفاقم معاناتها.  والحقيقة أن غالبية الأميركيين يناهضون أجندة ترامب المتطرفة التي تمنح الأولوية لأرباح الوقود الأحفوري على حساب صحة وحياة الناس. 

من خلال انسحابه من اتفاقية المناخ، حَوَّلَ ترامب الولايات المتحدة إلى طليعة القوى الشريرة المدمرة للمناخ في العالم.  وأمام هذا المشهد المناخي-السياسي المأساوي، يجب على بقية العالم أن يتحرك بقوة، بعيدا عن المُسَاهِم التاريخي الأكبر عالميا في انبعاثات غازات الدفيئة.  ويفترض بالمجتمعات المدنية والحركات الاجتماعية في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية وأوروبا والولايات المتحدة ذاتها، أن تتحرك بالاعتماد على الطاقة التغييرية لدى الطبقات الشعبية لمواجهة الأزمة المناخية العالمية.

الانسحاب الأميركي من اتفاق باريس يجب أن يُدان ويشجب بأشد العبارات من قبل جميع شعوب العالم؛ ليس لأن اتفاق باريس هو الكمال، وبالتأكيد ليس لأن اتفاق باريس سينقذ العالم من الكارثة المناخية، بل لأن الانسحاب الأميركي يكشف عن عجرفة استعمارية وتجاهل تام لمصير البشرية، لصالح استمرار هيمنة النخب الأميركية ومصالح الشركات الكبرى، ناهيك عن الرفض الاستبدادي لقبول الحقائق العلمية.

بفضل التلويث الأميركي التاريخي، فإن أنحاء مختلفة من العالم، بما في ذلك منطقتنا العربية، تعاني فعليا من عواقب الاحترار العالمي المتسارع، على شكل جفاف وحرائق وفيضانات تعيث خرابا في سبل العيش والحياة، بل تتسبب في تشريد مجتمعات بأكملها.  ترامب يريد أن يفاقم هذا التلوث التاريخي، ويحكم على الأجيال الحالية والقادمة في دول الجنوب بمزيد من المعاناة والموت.  لا يجوز السماح بذلك، بل يجب أن تتحمل الولايات المتحدة عواقب سياسية وقانونية واقتصادية قوية تفرض عليها.
 

رب ضارة نافعة                                                                                                                 

الرئيس الأميركي دونالد ترامب اتخذ قرر الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ بعد أيام قليلة من نشر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) التي تعتبر الولايات المتحدة عضوا فيها، تقريرا شاملا حول العلاقة بين التغير المناخي والاقتصاد.  الاستنتاج الأساسي للتقرير يقول بأن الدول المتقدمة في العالم تستطيع الالتزام بالأهداف التي نصت عليها اتفاقية باريس بخصوص خفض انبعاثات غازات الدفيئة، ومواصلة حفاظها على النمو الاقتصادي في ذات الوقت.  تحقيق هذا الأمر يتطلب من تلك الدول أن تستثمر بذكاء في بنى تحتية أكثر كفاءة لإنتاج الطاقة، وللمواصلات ولنشاطات أخرى.  وفي كل الأحوال لا يمكن الطعن بالأرباح الإنسانية والاقتصادية الناتجة عن هذا التوجه الأخضر.

بما أن معظم دول العالم صادقت على اتفاقية باريس، فإن انسحاب الولايات المتحدة منها لن يغير الاتفاقية ولن يؤدي إلى إبطالها؛ علما أن الاتفاقية قائمة على الالتزام الطوعي للدول، ولا تتضمن أي عقوبة يمكن أن تجبر أي حكومة على تلبية الأهداف المحددة.  لكن، المفارقة أن التزام هذا العدد الكبير من الدول بتحقيق أهداف خفض الانبعاثات، تم التوصل إليه، إلى حد كبير، نتيجة التفاهمات التي تمت بين رئيسي الصين والولايات المتحدة حول ضرورة مواجهة أزمة المناخ.

الاقتصادان الضخمان في العالم (الصين والولايات المتحدة في عهد باراك أوباما) رسما عام 2015 طريقا واضحة للالتزام باتفاقية باريس، وبالتالي، فإن انفصالهما لمسارات منفصلة قد يغري دولا أخرى على تفضيل مصالحها الاقتصادية قصيرة المدى، من خلال مواصلة استعمال الوقود الملوث والرخيص.  من الآن فصاعدا، سيكون من الصعب إقناع صناع القرار في تلك الدول بأن تدعم اقتصادً أكثر كفاءة وفعالية من حيث التكلفة، لتحقيق إنجازات على المدى الطويل ولمنع الأضرار الجسيمة لتغير المناخ.

رب ضارة نافعة.  هذا المثل الشعبي ينطبق على الانسحاب الأميركي من اتفاقية باريس، والذي (أي الانسحاب) قد لا يكون بالضرورة سيئا لمستقبل تنفيذ الاتفاقية، ذلك أن الولايات المتحدة بزعامة ترامب شرعت في كل الأحوال بتقويض الاتفاق، قبل انسحابها الرسمي منه، من خلال تشجيعها لاستعمال الفحم وإلغائها برامج ترشيد استهلاك الطاقة.   

اللافت أن سياسة ترامب المعادية لاتفاقية المناخ تقلق شركات الطاقة الكبيرة في الولايات المتحدة، ليس بسبب التزام تلك الشركات بخفض الانبعاثات.  بعض تلك الشركات، مثل شركة "إكسون موبيل" تؤيد التمسك بالاتفاقية من خلال زيادة استخدام الغاز الطبيعي الذي تسوقه، وبالتالي، زيادة أرباحها.

اللاعبون البارزون الذين سيحددون، إلى حد كبير، مصير اتفاقية باريس هم الاتحاد الأوروبي، الهند والصين.  الأخيرة اتخذت قرارا استراتيجيا بالتحول نحو اقتصاد قائم على استخدام الطاقات المتجددة؛ إلا أنه من غير الواضح ماذا ستكون النتائج طويلة الأمد لعملية التحول هذه.  أما في الهند فالصورة أقل وضوحا، إذ أن استخدام أنواع الوقود الملوثة لا يزال يعتبر حيويا لنمو الاقتصاد الهندي. 

الاتحاد الأوروبي سيبقى العامل المركزي المقرر لمصير اتفاقية باريس؛ علما أنه اتخذ إجراءات بعيدة المدى لتقليل انبعاثات غازات الدفيئة.  ويَعْتَبِر الاتحاد الأوروبي توجهه هذا مهمة تقليدية قام بها لوحده لغاية السنة الماضية، دون الولايات المتحدة والصين اللذين، ولغاية التوقيع على اتفاقية باريس، لم يكونا ملزمين بتخفيض انبعاثاتهما.

 

الرأسمال الأميركي يدمر المناخ

في الواقع، لا يشكل قرار ترامب بالانسحاب من اتفاقية باريس مفاجأة، إذ ومنذ سنوات طويلة، وبالرغم من مطالبة الدول الفقيرة بأن تتعهد الولايات المتحدة بزيادة نسبة تخفيضها لانبعاث غازات الدفيئة حتى العام 2020؛ إلا أن الأخيرة رفضت بقوة هكذا تعهد، وتمسكت بخطة اوباما (عام 2009) لخفض الانبعاثات الأمريكية بنسبة 17% مقارنة بمستويات عام 2005 بحلول عام 2020، علما بأن مجلس الشيوخ لم يصادق على هذا الهدف.

في الحقيقة، الدوافع الأميركية الأساسية للتفتيش عن بدائل للطاقة النفطية (النفط الصخري مثلا)، بما في ذلك خلال فترة رئاسة أوباما، ليست بيئية تهدف إلى الحد من الانبعاثات الكربونية، بل تجارية-اقتصادية-سياسية بالدرجة الأولى، نابعة من التخوف الأميركي من أي تغيرات أو انقلابات سياسية جذرية تطيح بالأنظمة الخليجية النفطية الحالية الحليفة للولايات المتحدة.  لذا، الحسابات الأميركية هي تجارية – سياسية في المقام الأول.

المنتدى الدولي للعولمة كشف قبل بضع سنوات، وتحديدا في تقريره الذي نشر عام 2012، عن الوجوه الرأسمالية الأميركية التي تقف خلف أزمة المناخ العالمية، وتجعل من الولايات المتحدة أكبر العقبات التي تحول دون تثبيت التزامات دولية متعددة الأطراف لتقليص الانبعاثات الغازية الخطرة المتسببة في تخريب النظام المناخي؛ علما أن الولايات المتحدة تعد من أكبر ملوثي الغلاف الجوي في العالم. 

التقرير المذكور بيّن دور أبرز الرأسماليين الأميركيين الذين أسماهم "مليارديرات الكربون"، أمثال الأخوين شارلز ودفيد كوخ- بيّن دورهم في شل السياسة المناخية الأميركية التي أوصلت مفاوضات المناخ (حتى ما قبل التوقيع على اتفاقية باريس عام 2015)، في إطار الأمم المتحدة، إلى طريق مسدود.  وقد دأب أولئك الرأسماليون الذين يستثمرون أموالا هائلة في الوقود الأحفوري، إلى جانب شركات النفط الضخمة، مثل "إكسون"، على قتل أي احتمال لسن تشريعات أميركية خاصة بالمناخ، من خلال حملات التأثير المكثفة على المشرعين في الكونغرس ومجلس الشيوخ، وتمويل الأبحاث العلمية الهادفة مسبقا إلى إنكار وجود تغير مناخي سببه العنصر البشري، ومهاجمة قوانين الهواء النظيف، ومنع إزالة الدعم على الطاقة الأحفورية، ناهيك عن إعاقة عملية وضع معايير أقوى لمنشآت الطاقة الأميركية ونشاطات أخرى تهدف إلى التأثير السلبي على السياسة المناخية.  واعتبر المنتدى أن المفاوضين الأميركيين في محادثات المناخ يمثلون رأسماليي شركات النفط، ولا يمثلون الشعب الأميركي.

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير