رسالة من "داخل" سميح القاسم.. خارج القضية!

19.08.2017 06:48 PM

كتب: طلال سلمان

جاءني صديق من فلسطين التي هي فلسطين والتي تبقى فلسطين، والتي نسيتها القيادة الفلسطينية، ونسيها العرب، وتُركت لمصيرها "داخل كيان الاحتلال". قال إنه يحمل رسالة عتاب من سميح القاسم إلى كل الكتّاب والصحافيين، لا سيما منهم من يعمل في المرئيات، والذين انتقلوا من نسيان القضية إلى تقصّد إهانة أهل الداخل، إذ يستكثرون عليهم صفة "الفلسطينيين".

كان سميح القاسم قد تفجّر غضباً في إحدى مقابلاته التلفزيونية حين مُسّت "فلسطينيته"، وقال إن الذين يشكّون في عروبته هم الذين يجب أن يخجلوا من جهلهم… وذكر أنه هو من وصف الإسرائيلي بقوله: "زبد أنت على شاطئ قبري واحتمالي/ ريحك الحمقاء والهوجاء لن تنجح في هز جبالي/ أيها الهائم من ليل الأساطير إلى ليل الزوال/ يا عدو القمح والماء الزلال".

يقول سميح القاسم في رسالته: "هل ارتكبنا جريمة في الوطن؟ ألسنا نحن الهمّ الأكبر للمؤسسة الصهيونية؟! ألستم تلاحظون أن الإسرائيليين يعيشون في رعب الهمّ الديموغرافي.. إن خوفهم الأكبر هو من هذه الأقلية القومية الرائعة".

قال الضيف الذي تحمل ثيابه رائحة الأرض المباركة: لقد روى لي سميح القاسم "المباراة" بينكما على الصبايا في واحد من المهرجانات الثقافية في دبي. وقال إنه هزمك في جميع المعارك، وهو يرسل إليك اعتذاراً متأخراً، باعتباره "فارساً".

وهي لم تكن "مباراة".. لكن معظم العاملات الطارئات المجال الإعلامي بكفاءة الجمال لا الدراسة أو الخبرة، لا يعرفن الشاعر الكبير، ولا يحفظن قصائده، إلا في ما ندر… ولقد كانت مهمتي أن أحمل إليه أكبر عدد ممكن من الصحافيين والصحافيات ليس للتعارف فحسب، بل لكي نعود معه إلى فلسطين بشعره الأقوى من دبابات الاحتلال وطيرانه، والذي يسكن الآن وجدان أجيال من العرب.

لكن الشاعر، أي شاعر، يرى نفسه الفارس، حيثما حلّ، وينبغي أن تكون له الأفضلية المطلقة… فهو ليس متقدماً بين متساوين، بل يجب أن يظل المميّز والمفضّل والمحبوب والنجم. الساحر، المدهش، الذي لا يطيق المنافسة، ولا يقبل أن يدخل في مباراة أو في امتحان أو في مفاضلة… في حضور النساء، ولو تمثلن بواحدة.

ولقد سكن سميح القاسم وجدان الأمة منذ أول قصيدة، خصوصاً أنها كانت فتحاً جديداً في عالم الشعر المرتبط بالأرض وأهلها، والذي لا يتوجه إلى إثارة حماستك بقدر ما يتوجه إلى ضميرك الوطني وإلى انتمائك القومي فيزيد من شعورك بالتقصير.

وبالتأكيد فإن سميح القاسم وقبله ومعه توفيق زياد، حادي النضال من أجل التحرير، قد أشعرانا جميعاً بالعجز إلى حدود التخلي كمدخل للخيانة الوطنية.

ولقد كنت قريباً من الشهيد غسان كنفاني وهو يعمل بدأب على جمع قصائد سميح القاسم وتوفيق زياد، ومن أحمد سعيد محمدية حين أخذ يصدر دواوين شعراء الأرض المحتلة حتى من دون إذن، عن "دار العودة".

الأرض بأهلها، هي الأصل. وسميح القاسم هو الأهل. هو رمز الأرض المقدسة بجبالها وسهولها وزيتونها ومعارج الأنبياء فيها التي تجعلها مباركة وتدخلها وجدان الشعوب في أربع رياح الأرض انتصاراً للحق وشرف الإنسان.

لقد كان سميح القاسم بين أوائل من أطلقوا النفير.. وهو ما زال يناضل في الميدان الأخطر: الثقافة.. بالشعر الذي يدل على عمق الصلة بوجدان الأمة عبر لغتها، بقدر الارتباط بالأرض التي تنبت الشعراء.

قلت لرسول سميح القاسم: طمّن دون كيشوت أنني لا أملك القدرة على منافسته لا في الشعر ولا في مغازلة النساء، فسلاحه يخترق الحواجز والمسافات ويدخل الوجدان مباشرة فيهزه.

قال الرسول مداعباً: صحيح أن المرأة ما دخلت بين صديقين إلا وأفسدت الصداقة.

قلت: ولكنها كانت لقاءات عابرة في بهو الفندق، وأراهن أن معظم أولئك الفتيات قد نسين أسماءنا فور مغادرتهن مجلسنا… ولقد كان دوري المعرّف فحسب. في أي حال، بلّغ سميح القاسم أننا إذا ما التقينا مرة أخرى فسأكتفي بأن أحيّيه عن بُعد وهو في مجلس هارون الرشيد. أما الصداقة فباقية وراسخة كما التقدير لهذا الفارس الفرد الذي لا يتعب من النضال باسم شعبه بل باسم الأمة جميعاً.

… وهذه تحية لشاعر القضية الذي ما زال قلبه ينبض شغفاً بالوجه الجميل والصوت الرقيق، كأي إنسان نبيل. حتى بعد ثلاث سنوات على غيابه.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير