بلسان كالسوط: ترامب رئيس واحد بثلاثة خطابات

27.08.2017 11:05 AM

رام الله- ترجمة خاصة- وطن: خلال فترة لم تتجاوز (48) ساعة هذا الأسبوع، قام الرئيس ترامب بلعب ثلاثة أدوار مختلفة: دور القائد العام للجيش الامريكي، ودور المقسم، ودور الموحد.

كما لو كان على شاشة أحد برامجه التلفزيونية الواقعية، اتخذ ترامب أدورا لشخصيات ذات صفات متناقضة، وعرض اراءا متباينة، حتى بدا وكأنه في اليوم الأخير من أيام رئاسته التي يحاول تخليص الكثير من المهام فيه. أو بالأحرى، بدا ترامب وكأنه منتج تلفزيوني يحاول رفع نسبة المشاهدات لبرنامجه التلفزيوني.

ففي ليلة الاثنين 21/8/2017، في فورتماير بولاية فرجينيا، وأمام المئات من ضباط وجنود الجيش الأمريكي، أعلن ترامب، وبرصانة وجدية لافتتين، عن استراتيجيته الجديدة للحرب في أفغانستان.
وبينما كان الصحافيون يقومون بقراءة نص خطابه المعروض على شاشة الصحافيين أثناء القائه للخطاب، كان ترامب يجول بنظره في زوايا مكتبه الجذاب خلال الحديث، حيث بدا وكأنه فكر مليا قبل اعلان استراتيجيته، متعهدا بالخروج منتصرا من هذه الحرب، والتي لا تحظى بأية شعبية بين الأمريكيين، علما أنها أطول حروب الولايات المتحدة، فهي مندلعة منذ (16) عاما.

في اليوم التالي، طار ترامب إلى فينيكس. وهناك كان جحيم موضوع الهجرة التي قام ترامب نفسه بإشعالها، يغلي كلهيب الشمس الحارقة تقريبا.
وفي ذات اليوم، كانت مسيرة "لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى" ليلة الثلاثاء بمثابة صمام أمان لتنفيس وضعه الذي يمكن تشبيهه بوضع "رئيس مظلوم ومكبوت ومحاصر"، وفق الكاتب. طيلة (75) دقيقة، تبجح ترامب في خطابه وبصوت هادر كأنه في "ملحمة بطولية"، متبعا أسلوب ما سماه "التحدي من خلال طرح الحقائق"، ولكن وفق معاييره الخاصة. أكثر من ذلك، وبينما بدت كلماته كأنها من القلب، كرر عدة مرات استعمال كلمات ذات دلالات متعاكسة مثل "لنا" و "لهم".

فعلى سبيل المثال، كان يشير باستعمال كلمة "لنا"، الى نفسه (أي ترامب)، والى الأقلية المتناقصة من الأميركيين البيض المؤيدين له بحماسة، وفق خطابه.

أما باستعماله لكلمة "هم"، فقد كان بالفعل يعني كل شخص آخر، مثل:
وسائل الإعلام (الملعونة وغير الأمينة، بالنسبة الى ترامب)، الديمقراطيين ("المعرقلين"، وفق وصف ترامب)، اثنين من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكيين عن ولاية أريزونا ("الضعيفين"، حسب تصنيف ترامب)، والمهاجرين غير الشرعيين ("الحيوانات"، بالنسبة إلى ترامب) والناس الذين كرسوا أنفسهم لمحو الإرث الاتحادي لأمريكا ("إنهم يحاولون محو ثقافتنا، والتخلص من تاريخنا"، وفق ترامب).

وبحلول يوم الأربعاء، 23/8/2017، انطلق ترامب إلى رينو في ولاية نيفادا. وهناك وحيث وجد ترامب نفسه وسط احتمالية المواجهة مع الكثير من المعلقين الصحافيين ورجال التلفزة المهرة، الذين استبقوه متناولين خطاباته السابقة في فينيكس، ونقلوها بشكل مباشر، وعلقوا عليها بشكل مفتوح ودون تردد، انقلب ترامب في خطابه في نيفادا إلى بث "رسائل الوحدة" التي لا تتوقع أن تسمعها إلا في خطابات البابا فرنسيس.

وقال ترامب هناك، بمناسبة المؤتمر الوطني للجيش الأمريكي: "لقد حان الوقت لالتئام الجروح التي تفرق بيننا، وعلينا أن نسعى الى إيجاد وحدة جديدة تقوم على القيم المشتركة التي توحدنا".

وعودة الى فينيكس، فقد كان ترامب قد هاجم السيناتور جون ماكين (عن أريزونا) دون ذك اسمه، على الرغم من أن ماكين يعتبر أحد أبطال الحرب الأمريكيين. أما في رينو (ولاية نيفادا)، فقد دعا ترامب أحد الأشخاص، وهو السيد دونالد بالارد، إلى خشبة المسرح مانحا إياه وسام الشرف بعد احتضان دافئ بين الرجلين.
إن التناقض والتضارب و"التلاطم" بين خطابات ترامب الثلاث، رغم أنها كانت على التوالي، تجسد حالة الارتباك والفوضى التي تتسم بها فترة رئاسته حتى الان.

يبقى السؤال، هل يحاول ترامب معالجة جروح بلد اخترقته مظاهرة خطرة وقاتلة تحت اسم "السيادة للبيض"، والتي انطلقت من منطقة شارلوتسفيل بولاية فرجينيا هذا الشهر؟ أم أنه يحاول التمادي والذهاب إلى أبعد من ذلك؟

 هل كان تصرف ترامب حكيما عندما قرر تعزيز القوات وإرسال آلاف الجنود الأمريكيين الإضافيين إلى أفغانستان؟ وهل جاء هذا القرار بعد إجراء مراجعة معمقة ومستنيرة لمختلف الخيارات العسكرية؟

بالمقابل، فإن المتتبع لخطابه في فينيكس لا بد أن يتساءل: هل هو رجل متهور وغير متعقل ومندفع بما يمتلك بين يديه من شيفرات نووية؟
وفي هذا السياق، قام جيمس كلابر، وهو مدير سابق في المخابرات الوطنية، والمتقاعد من سلاح الجو الأمريكي، بتلخيص فهمه لترامب بأنه "مخيف ومزعج بكل ما في الكلمة من معنى".

تجدر الإشارة إلى أن كلابر من ضمن الأشخاص الذين تقدموا بملخصات وتقييمات وتقارير الى ترامب، خلال الفترة الانتقالية الرئاسية، بصفته كان مسؤولا استخباراتيا كبيرا في إدارة الرئيس السابق باراك أوباما. أما اليوم، فلا شك بأن تقييم كلابر لرئاسة ترامب تتدهور يوما إثر يوم منذ ذلك الحين، رغم أنها رئاسة حديثة العهد. ويبدو أن تقييم كلابر هذا وصل إلى أدنى مستوى له هذا الأسبوع بما قاله عن ترامب (أي قول كلابر في الفقرة السابقة).

وقال كلابر خلال مشاركته في برنامج على شبكة سي ان ان: "أنا أشكك حقا في قدرته وجدارته لهذا المكتب" (أي الرئاسة). وتساءل في البرنامج: "ما هي المدة التي يجب على البلاد أن تقضيها في تحمل هذا الكابوس والصبر عليه؟"

وصل ترامب إلى فينيكس وأمامه مهمة صعبة، وهي تضميد العديد من الجراح، علما أن معظمها من صنع يديه. فقد استقال العديد من رجال الأعمال من مناصبهم في المجالس الاستشارية للبيت الأبيض، خوفا من ربط أسمائهم بالرئيس ترامب على خلفية تعليقاته العنصرية والتقسيمية والتي قد ثير خلافات عرقية. تلك التي أطلقها في شارلوتسفيل.

ولذات السبب، قامت العديد من الجمعيات الخيرية بإلغاء عدد من المهرجانات والاحتفالات التي كانت قد خططت لإقامتها في منطقة مارالاغو الشاطئية في ولاية فلوريدا، وهي بالمناسبة تضم منتجع ترامب الخاص. فوق ذلك، فإن بعض الجمهوريين البارزين الذين أيدوا ترشيح ترامب، وبكل حماسة، باتوا يتساءلون الآن عما إذا كان قرارهم صائبا، وفيما إذا كان ترامب جديرا بالفعل لمنصب الرئاسة.

ومؤخرا قال رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، بوب كوركر (نائب جمهوري عن ولاية تينيسي): "إن الرئيس لم يتمكن بعد من تثبيت الاستقرار، كما لم يبدي بعد ما يكفي من الكفاءة التي يحتاجها هذا المنصب للتدليل على إمكانية نجاحه كرئيس للولايات المتحدة". يذكر أن كوركر كان مرشحا سابقا لمنصب نائب الرئيس، ومنصب وزير الخارجية.

مع عطلة نهاية الأسبوع (أي خلال الفترة 19-20/8/2017)، كان ترامب ينتهي من "عطلة عمل" لمدة أسبوعين في نادي الغولف الخاص به في بدمينستر بولاية نيوجيرسي. ووفق أحد المقربين ممن تحدثوا إليه، فقد كان وقتها في مزاج حاد جدا ومكتئب حيال اضطراره لإلغاء عطلته في منتجعه المفضل مارالاغو، بسبب الأحداث هناك.

إن ما ورد ليس إلا اخر التطورات والأحداث المزدحمة في صيف من الأزمات التي واجهت إدارته التي زادت من تدني شعبيته ليبلغ تراجعها مستوى تاريخيا.
وفي هذا السياق، أثارت التحقيقات المتوالية حول الدور المحتمل لحملته الانتخابية في التدخل الروسي في انتخابات عام 2016 غضب ترامب، الذي يصر على أنه بريء، ويكرر التأكيد على أن هذه الحملة عبارة عن "مطاردة من قبل مجموعة من الأشرار"، على حد قوله.

إلا أن هنالك الكثير من الأسباب الأخرى التي تزيد سخط ترامب واستياءه، بما في ذلك الاتهامات في الأسابيع الأخيرة - سواء بشكل ضمني أو صريح - من قبل زملائه الجمهوريين في الكونغرس، وكذلك الديمقراطيين، ورجال أعمال، وقادة عسكريين، وضباط في الشرطة. حتى أن فرق الكشافة الأمريكية وجدت لنفسها مجالا لانتقاده.

في ذات الوقت، سعى كبير موظفي ترامب في البيت الأبيض، وهو ضابط كبير من فئة النجوم الأربع، والمتقاعد من فيلق البحرية، جون كيلي، إلى فرض المزيد من النظام والانضباط على البيت الأبيض، بما في ذلك السيطرة على خطابات الإدارة، التي غالبا ما يصيغها أو يعيد صياغتها الرئيس بنفسه.

غضب ترامب منذ مدة من محاولات بعض مستشاريه السيطرة عليه. وهو يؤمن أنه هو أفضل "رسول لنفسه" ليعبر عن ذاته، وأن الملايين من الأميركيين الذين انتخبوه رئيسا، يتطلعون دوما إلى الاستماع لآرائه كما هي دقيقة وغير محرفة، ومهما كانت صريحة. سواء كانت تلك الآراء عبارة عن "تغريدة" ذات (140) حرف على موقع تويتر، أو كانت من نوعية خطابات الحملات كالمهرجانات والمسيرات، مثل تلك التي ألقاها في فينيكس.

إن المتأمل في عباراته العديدة في خطابه يوم 12/8/2017 في شارلوتسفيل يلاحظ الكثير من التناقضات وقلة التوازن:
فبعد أن وجه لومه إلى ما أسماه "العديد من الأطراف" على أعمال العنف في شارلوتسفيل، رافضا الإشارة إلى "العنصريين من البيض"، أقنعه مستشاروه في خطاب بعد يومين بإلقاء "تصريحات مكتوبة" من داخل الغرفة الدبلوماسية بالبيت الأبيض.

ولكن، على عكس اسمها ك "غرفة دبلوماسية"، كانت الغرفة هي المكان الذي أدان منه الرئيس من أسماهم "المجرمين والبلطجية، بما في ذلك جماعة "ك. ك. ك."، النازيين الجدد، العنصريين من البيض، وغيرها من مجموعات الكراهية البغيضة والبعيدة عن أعراف الأميركيين"، كما قال.

ورغم ذلك، وفي اليوم التالي مباشرة، تخلى ترامب عن كلامه، وقدم رواية ثالثة. فقد قال ترامب في مؤتمر صحفي، في لوبي برج ترامب في مدينة نيويورك، إن كلا "الجانبين" مسؤولين عن العنف، وأن هناك "أشخاصا جيدين" واكبوا تلك المسيرة سائرين جنبا إلى جانب مع المتظاهرين، الذين كانوا يلوحون بأعلام الحرب الأهلية الأمريكية والصلبان المعقوفة.

مرارا وتكرارا، استمر ترامب على ذات المنوال من التقلب. ففي الوقت الذي يبقى فيه ترامب مركزا في موضوع خطابه، كما هو الحال في كلمته يوم 14/8/2017 في البيت الأبيض، فإن هذه الحال الجيدة لا تدوم طويلا. بل تبدو وكأنها مقدمة "لتدهور خطابي لاحق"، مثلما حدث في مؤتمره الصحفي في اليوم التالي.

بطريقة أو بأخرى، كان أداءه تجاه مسيرة فينيكس شبيها بأدائه في "برج ترامب" قبل أيام، والذي كان عبارة عن عرض لرئيس اتسمت الأشهر السبعة الأولى من رئاسته بالحماسة والغضب معا.

بالعودة إلى مركز مؤتمرات فينيكس، حيث عقد أول تجمع ضخم من حملة ترامب الانتخابية، خلال شهر تموز 2015، وقد كان تجمعا ناريا ضخما إلى حد الغرور، ظل ترامب مغلفا بصيت الأيام الخوالي، قبل أن يأتي بالصداع لنفسه من خلال قذفه لوسائل الإعلام بأنها تروج "الأخبار الكاذبة". ورغم أنه حاول لاحقا تصحيح قوله، إلا أن علاقته بالإعلام تراوحت بين حب وكراهية، مع تفضيله الواضح لوسائل الاعلام التي تبدي "الاهتمام المطلوب" به وبرئاسته.

 

"عن: ذي واشنطن بوست - ترجمة ناصر العيسة"

تصميم وتطوير