قيامة ارطغرل والتهاوي العربي...

19.10.2017 03:31 PM

كتب: رياض سيف*  : لم اكن يوما من مشاهدي المسلسلات التركية على الاطلاق , بل كنت احد الذين يلومون المحطات العربية على عرضها المسلسل التركي كون هذا الفعل يأتى على حساب عرض المسلسل العربي , مما يؤثر سلبا على صناعة الدراما العربية , واذا ما أخذنا بعين الاعتبار ان المسلسل التركي يمتد الى مئة حلقه وما فوق ندرك كم هي الحصة الكبيرة التى يستهلكها المسلسل التركي على حساب المسلسل العربي , ناهيك عن مبررات اخرى في عدم توافق الطرح التركي مع التقاليد العربية المسموح بها اخلاقيا وتربويا الى ما هناك من اسباب فنية في التطويل في المشاهد والتكرار في المعلومة    الذي يعتبر مملا في عرف الدراما العربية . مع الاعتراف بحرفية التقنيات الفنية والتكوينات وجمال الصورة التى تتفوق فيها على الاعمال العربية  .

لكن ( وهي كلمة مشتركة بين العربيه والتركية ) تغيرت الصورة تماما لدي , حين شاءت الصدف ان اتابع حلقة من مسلسل قيامة ارطغرل   على احدى القنوات العربيه , وكانت كفيلة بشد انتباهي الى هذا العمل الكبير  , بل ودعاني شغفي  ان احرك مؤشر البحث عن بداية حلقاته عبر اليوتيوب لاشاهد اجزاءه الثلاث والتى تقدر بثلاثمائة حلقة تلفزيونية جمعت بين التاريخ والحكاية عبر احداث درامية تحمل الكثير من المعاني والرسائل والاصالة التى يعتز بها كل تركي ومسلم .كونها تحكي قصة قبائل الاوغوز والاتراك التى كانت مجرد قبائل رعوية تواجه الصراع فيما بينها كما تواجه عدوان التتار والصليبيين , ليظهر من بين قبيلة الكاي ارطغرل بن سليمان شاه ليقف في وجه الخيانة الداخليه ويصد عدوان الاعداء وفي ذهنه بناء الدولة التى تمجد اسمه لالاف السنين , وكان له ذلك في ابنه عثمان مؤسس الدولة العثمانية من بعده .
وكان انتقاء المخرج لشخوصه اثرا في نجاح عمله , فأنت امام شخوص من الماضي مرسومة بشكل لايدع مجال للشك لدى المشاهد انه يشاهد ذات الشخوص نفسها في زمنها . فكل شخصية بشكلها وادائها وهيئتها وضعت في المكان الصحيح . وكان الجميع ابطالا متميزين في مواضعهم .

ورغم التطويل في الحوار والتكرار في المعلومة , واحيانا رغم الحوارات التى هي اقرب الى الخطابة التقريرية  منها الى الحوار الدرامي والتى من شأنها ان تشعر المشاهد بالملل والتى لو ان كاتبا عربيا كتبها لاعتبرت سقطة قاتلة بحقه , الا اننى ولاول مرة اجد ان كل هذا التطويل والتكرار في نقل المعلومة لا يقلل من شأن المسلسل بل يزيده نكهة خاصة لاتقل نكهة عن حكايات ما قبل النوم التى كنا نسمعها صغارا من جداتنا وامهاتنا بكل شغف وانتباه وهنا تكمن البراعة والحنكة في قلب مفاهيمنا عن الدراما التى عرفناها .

واهم مافي هذا العمل المتميز انه يعيد قراءة التاريخ برؤيا درامية مشوقه تُنمي روح الكبرياء لدى الاجيال وتزرع قيما عظيمة في الانتماء والتربية الاسلامية السامية في نفوس الصغار قبل الكبار . بل وتمنحهم جرعة حب الفداء والتضحية من اجل اوطانهم ومعتقداتهم النبيلة . هي مدرسة متكاملة انعدمت في مناهجنا التعليمية وجاء هذا العمل لسد نقص كبير وخطير في نشأة انساننا الذي بات يتخبط من هول ما يجري حوله من تزوير وتعهير وانسياق خلف اعلام مغرض ومدروس من قبل بعض محطاتنا العربية التى تمسك بعصب الاعلام وتوجهه حسب ما هو مخطط لها في افراغ العربي من قيمه واخلاقه وانتمائه نحو وطنه وامته .
وهذا ليس العمل التاريخي الوحيد الذي تقدمه الشاشة التركية لتعزيز انتماء ابنائها لوطنهم بل هناك اعمال كثيرة وكبيرة و ويبقى ارطغرل هو الجذر الذي تستقي منه الاعمال الاخرى عظمتها وقوتها ..ومنها ما يعرض مؤخرا بعنوان ( السلطان عبد الحميد ) وغيره من الاعمال التى تستحق المتابعه ..

اما وقد انحدرت الدراما العربية عن تقاليدها واستبدلت ثيابها بأعمال العنف والقتل وقطع الرقاب مما يرتقي بها الى فكر داعش وما تمثله من خطر على اعتياد المشاهد وتقليده لتلك التصرفات البغيضه اضافة الى نقل صورة  العشوائيات بصورها السيئة واستثارة الغرائز والتسابق على كسر المحرمات في اطار ممجوج الغرض منه ليس معالجة ماهو معوج بل اعوجاج ما هو غير معوج بحيت فاقت بجرأتها الاعمال التركية الحديثة والتى نأخذ عليها المأخذ الكثيرة , بل وعممت الظاهرة لتطال معظم الاعمال العربية ان لم تكن كلها , دون ان تكسر هذا النهج بأعمال تخفف من وطأة هذا الهجوم اللاأخلاقي بعمل تاريخي نفخر به او بقضية انسانية ووطنيه نعيشها في زمن يموت ويشرد وتنتهك فيه اعراض الانسان العربي , وتحتل اراضيه من قبل الفرس والروم والعجم والبجم ..حيث تغيرفي هذا الزمن العربي ثالوث الممنوعات الرقابية ( الدين والجنس والنظام) ليحل محلها ( التاريخ العربي , وقضايا الامة , وكل ما يمت لفلسطين بصله ).

وحتى اذا ما صادفنا وشاهدنا عملا عربيا تاريخيا او معالجة درامية لعمل من الثراث العربي وجدنا ان هذا العمل يُحرف لمصلحة وجهة نظر مشوهة , القصد منها النيل من نهج ما لا يتفق مع نهج الحقيقة التاريخيه وان اتفق في بعض المواقف الا ان هذه المواقف تجير لمصلحة مغرضة بحق تاريخنا وينحرف بأفكار الجيل الى التشويه والتعميه .
قيامة ارطغرل وغيرها من الاعمال المشابهة  بكل معانيها ومراميها شاهدة على فشل القوى الناعمة العربية , بل يجعل منها متهمة بالتواطؤ سواء في الفعل الدرامي او البرامج التلفزيونية التى اجمعت على اعلاء السلطان على الوطن , وتبديل ماهو سام بما هو رخيص , ولمجرد متابعة بسيطه لما يجري على الشاشات العربية من ردح وذم ودعوات الفرقه , بل الى استعداء العدو على الاخ العربي , بل وتفضيل السداسية الصهيونية على الهلال والصليب , نجد اي انهيار وصلنا اليه واي هاوية تجاوزنا قعرها .

والسؤال هنا على لسان عنترة العبسي :هل غادر الشعراء من متردم , وبالمعنى الحديث للجملة هل فقد الكتاب ادواتهم ليصنعوا لنا ملاحم مجيدة تعيد للانسان العربي هيبته وتنمي في الاجيال القادمة تربيتها الوطنية وانتماءها . وحب التضحية من اجل قيمها وانسانيتها , وتحصين الذات العربية مما يخطط لها من مؤمرات تمس كيانها وجذورها ومعتقداتها .

اعتقد ان الكثيرين مثلي يحتفظون بأدرجهم بنصوص بحجم قيامة ارطغرل وهم مدركون تماما انهم انما يكتبون لامل بعيد المنال في ظل تهافت شركات الانتاج والمحطات العربية على قلب المجن وتقديم ما يأمره بهم اسياد المال المرتبطين بأهوائهم وشبقهم الشخصي او الموجهين من قبل تحالف الشر القاضي بتعهير الجيل العربي الجديد بكل ماهو شاذ ومهين , حتى يبقى الاحتلال سيد الموقف وتبقى العبودية قائمة لنهب الثروات , ونزع ما تبقى من كرامة عربية ترفض او تقاوم .

عوراتنا تكشفها اعمال الاخرين التى تمجد تاريخها وتعمل لاجل مستقبل اجيالها , اما نحن فنلهث خلف الفتات مما يقدمه الاعلام العربي من تفاهات لا ينجى منها حتى الموسم الرمضاني الذي بات عروضا للعهر ونكوصا نحو احياء الليالي بما لذ وطاب من المغريات والاناث والساقطات ممن ابتدعتهن محطات الدعارة والعار.
فمتى نستيقظ من غفلتنا وندرك اننا الى منزلق خطير تضيع فيه الهوية والتاريخ ويصبح المستقبل مظلما اكثر مما هو عليه .
فمتى تستيقظين  يا أمة ضحكت من جهلها الامم ....
*كاتب وسيناريست فلسطيني

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير