خالد بطراوي يكتب لـ"وطن": طوابع .... طوابع

29.10.2017 11:26 PM

في زماناتنا ، عندما كنا نذهب في صغرنا الى سينما الجميل أو الوليد أو دنيا في مدينتي رام الله والبيرة ، كان يسمح للبائع المتجول بالدخول مجانا الى السينما للبيع وكان ينادي " مسكا .. نوغا .. جوز الهند" وكان هناك بائع آخر ينادي " نواعم ... نواعم ".  وكنا نشاهد الفيلم وكان عادة ما يجري الترويج للسينما بعرض فيلمين بتذكرة واحدة.

عشقنا أفلام الكاراتيه لبروس لي .. وحضرنا أفلام عربية مشهورة مثل " أبي فوق الشجرة" و " على من نطلق الرصاص " و " أريد حلا" وحفظنا بعض أغاني الافلام مثل أغنية " دقوا الشماسي" وأغنية " يا ود يا ثقيل" وكنا نتحمس لخناقات وحش الشاشة العربية فريد شوقي، وأحببنا سندريلا الشاشة العربية " سعاد حسني" وكان توفيق الدقن ومحمود المليجي يلعبون دوما الأدوار الشريرة فكرهناهم، وكان اسماعيل ياسين ( وكانوا يكتبونها اسماعيل يس) وماري منيب يلعبون الآدوار الفكاهية فأحببناهم وتعلق قلبي بعيون زبيدة ثروت، ومن يومها اقرأ الناس من حولي من عيونهم.

كبرنا، ومن خلال الشاشة العريضة ( السينما) ,وغيرها من المنارات الثقافية، توسعت مداركنا وحلقت بنا وأحلامنا عاليا عاليا وتشكلت شخصياتنا التي نحن عليها الان.

نواعم .. نواعم ... ما زلت أسمعها تتردد في أذني ... وأتذكر صوت البائع وملامحه ولا أدري في أي بلد حط رحاله، لكنه كان يبيع النواعم ويتفرج أيضا على السينما فيحصل على فيليمين مجانا وبضعة قروش يعيدها الى منزله فرحا.

الان .. أسمع طوابع طوابع  .. بدأنا نسمعها منذ سبعينات القرن المنصرم .. ذلك برجوازي كبير ، وذلك برجوازي حقير، وتلك المرأة " ساقطة" وذلك الشاب " كحيان" وابن القرية الفلانية " عميل" وفلان " كمبرادور" أو حتى " كوسموبوليتني" وهكذا دواليك ...

تزايدت الطوابع في أيامنا هذه ... تزايدت بكثرة .. على نحو سيصبح لكل منا مستقبلا طابعا منفردا ... ذلك وطني حصري، ذلك امبراطور الكفاح المسلح،   وتلك المرأة سيدة الأعمال الأولى في فلسطين، وهذا شهنشاه العمالة، وتلك مطبّعة صغيرة، وهذا كبير المطبعين ..  وذاك أبو الوطنية الأول وذلك تابع "لايران" والثاني " لجزر الواق واق" حتى أصبح البعض منا دون وعي طرفا في المنافسة بين شركتي الاتصالات الخلوية.

الى أين نريد أن نصل؟ ما النسيج الاجتماعي الذي نريد حياكته للأجيال القادمة .. هل الفيس بوكية الغوغائية هي الشكل الجديد للنضالات المزيفة؟ هل يحق – مع الاحترام – لكل من جلس في مقهى محتسيا أنصاف القهوة أن يوزع الطوابع  وينشرها ويعممها هنا وهناك ، لدرجة ترعبنا نحن، فنجد أنفسنا تحت مسمى " الحفاظ على السلم الأهلي " مضطرون الى التهدئة فيصفق البعض معتبرا ذلك انتصارا.

وفي المقابل، هل لو تم تجاهل التهديدات وتواصلت الفعالية أو الفعاليات المحرض ضدها، كنا سنصل الى درجة من التصعيد التي لن تخدم مطلقا أيا منا، بل تخدم الاحتلال الذي يطرب أشد الطرب على وقع التشابك الفلسطيني بل ويعززه ويمهد له التربة الخصبة.
من يقرر؟ ومن يحدد ومن يوجه ؟ تلك أسئلة كبيرة تحتاج الى وقفة جدية ومسؤولة منا جميعا، فلم يكن يوما من الأيام مصدر قرارنا هو الفرد بل الفكر الجماعي التنويري الوقاد الذي يرتقي بنا وبقضيتنا وبالجيل الجديد المتسلح بالعلم والتكنولوجيا والقادر على رواية التاريخ بالشكل الصحيح في مواجهة رواية الاحتلال عنه، فالتطبيع كما قال الراحل محمود درويش ذات يوم هو " القبول براوية الطرف الآخر عن التاريخ" وربما من وجهة نظري كان أكثر الآشخاص تعريفا للتطبيع.

حادثتنان في المعتقلات الاسرائيلية حدث معي ومع غيري فيما مضى، الحادثة الأولى أن أحد حراس السجن كان كاتبا .. وكان لا يجرؤ أن ينظر الينا خاصة وأنه يعرف أن من بيننا الشعراء وكتاب القصة والرواية والمسرح، وبلا شك يذكر ذلك كل من المتوكل طه وعبد الناصر صالح وغيرهم ممن قبعوا في المعتقلات وكنا نردد القصائد الثورية على مسمعه فيطأطىء رأسه أكثر. والحادثة الثانية أثناء التحقيق رواها لي المحقق الاسرائيلي يقول فيها أن حاكما ظالما كان يرسل كل ليلة اعوانه لاستطلاع أخبار عامة الناس فكانوا يعودون اليه بالقول أن الناس متعبون، بالكاد يزحفون زحفا للنوم بعد يوم عمل شاق، ويأكلون الخبز المغمس بالشاي ولا يبتسمون، فكان يقول الحاكم " اذا نحن بخير" وعندما عاد أعوانه ذات يوم مندهشون بأن الناس كانوا يبتسمون ويرقصون ويغنون رغم أنهم متعبون ويأكلون الخيز المغمس بالشاي .. فزع هذا الحاكم وقال " تلك بداية نهايتنا".
بداية النهاية، أيها الأحبة أن نروي نحن التاريخ .. وأن لا نقبل بروايتهم هم عن التاريخ، وذلك يستدعي حالة استنهاض بدلا من توزيع الطوابع.

سأعود الى تلك الالأيام التي كان ينادي فيها البائع المتجول داخل السينما " مسكا .. نوغا .. جوز الهند " .. فيرد عليه زميله البائع الآخر " نواعم .. نواعم "، اذ أنني أكره " الطوابع ... طوابع".

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير