الغموض المقصود في إعلان ترامب حول القدس

27.12.2017 03:20 PM

ترجمة خاصة-وطن: في انقلاب على (70) عاما من السياسة الخارجية الثابتة للولايات المتحدة الأمريكية، بما فيها سياسة الحزبين الكبيرين، قام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالاعتراف رسميا بالقدس عاصمة لإسرائيل. وقد وضع هذا الاعتراف الولايات المتحدة على جانب، وبقية المجتمع الدولي تقريبا على الجانب الآخر، حيال هذه القضية التي انتقدت الكثير من الدول القرار الأمريكي بشأنها، رغم أن القرار غامض أكثر مما يبدو، مما سيتمخض عنه مشكلات أكبر لاحقا.

وفى الوقت الذي رحب فيه رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتانياهو، بقرار ترامب واصفاً إياه بأنه قرار تاريخي وغير مسبوق، عبّر حلفاء عرب رئيسيون للولايات المتحدة عن مخاوفهم حيال ما قد يتسبب به القرار الأمريكي من زعزعة للاستقرار الإقليمي ككل. ومع اندلاع الاحتجاجات والمظاهرات، واتساع نطاقها مع الوقت، في جميع أنحاء الشرق الأوسط، والعالم الإسلامي، وبعض دول العالم، حذّرت السفارات والقنصليات الأمريكية حول العالم المسافرين الأمريكيين لضرورة عدم الاقتراب من الاحتجاجات. كما أعلنت عن نيتها التقليل من أنشطتها، أو حتى إلغاء تلك الأنشطة. وفي هذا السياق، أثار العديد من القادة الفلسطينيين شكوكهم الجدية حول قدرتهم على السير قدما في "عملية سلام بقيادة أمريكية"، أو أملهم ببقاء أي أفق "لحل الدولتين". وهو ما يعرض للخطر كلا العمليتين ذاتهما اللتين قال ترامب في قراره أنهما ستتقدمان بفعل ذلك القرار (أي تقدم عملية السلام، وتقدم حل الدولتين).

ورغم ذلك، فإن ما يثير الدهشة بشكل أكبر، هو الغموض المطلق الذي اكتنف البيان التّقديمي الذي سبق قرار ترامب. ففي الوقت الذي تحدث فيه ترامب عن ضرورة الانفكاك عن "استراتيجيات الماضي الفاشلة"، و"تلبية ما هو مطلوب بشجاعة"، فإن خطابه حول القدس والقرار الرسمي الذي وقع عليه، يتخللهما تمرير الكثير من المحاذير، وعدم الترابط والفجوات المتعمدة، والأجزاء المُجتَزَأة، بحيث بدا الأمر وكأنه خطاب يومي، لا يرتبط بتغيّر سياساتي كبير يجري تنفيذه. فهو إذاً مليء بالغموض، الذي قد يفهم منه أن ترامب أراد "التّحَوّط"، بحيث يتوفر له خيط للاستمرارية الشّكلية مع السياسات الرئاسية السابقة-التي رفضت الاعتراف لأي من الطرفين بالسيادة على القدس-مما يسمح للإدارة تجنب أية مواقف أو تطورات مفاجئة قد تنتج إثر القرار. لكن هذا الغموض، المقصود ربما، سيأتي بمخاطر معينة من الصعب توقعها في هذا السياق المحموم، في القدس وما حولها.

يتعلق الغموض الأكبر في قرار ترامب بوضع القدس نفسها. فصحيح أن ترامب اعترف صراحةً بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهو قرار يعني، على كافة الأصعدة، الاعتراف ضمنا بأن القدس جزء من أراضي إسرائيل ذات السيادة. غير أن ترامب قام "بإبهام" هذا الاستنتاج عندما قال في إعلانه: "إن قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل والإعلان عن نقل سفارتنا إليها لا يعكس خروجا عن الالتزام القوي للولايات المتحدة بمتابعة جهودها من أجل التوصل إلى اتفاق سلام دائم. وما تزال الولايات المتحدة تحجم عن اتخاذ أي موقف بشأن أي من قضايا الوضع النهائي. وتخضع الحدود المعينة للسيادة الإسرائيلية في القدس لمفاوضات الوضع النهائي بين الطرفين. والولايات المتحدة ليست بصدد أن تتخذ موقفا بشأن الحدود القائمة، أو الحدود المرسومة".

من غير الواضح للوهلة الأولى كيفية التوفيق بين النصين. ولكن، من المؤكد أن ترامب كان واضحاً في كلامه أن موضوع الطرف الذي ستكون له السيادة المطلقة النهائية على القدس يجب أن يكون خاضعاً لمفاوضات الوضع النهائي. ومع ذلك، وفي هذه المرحلة، يبدو أن ترامب والولايات المتحدة قد اعترفا من خلال بيانه بالسيادة الإسرائيلية على جزء من القدس-والذي يكون كافيا لتكون القدس عاصمة لإسرائيل على أقل صفة-ولكنه امتنع عن تحديد ذلك الجزء.

وتعني هذه الخصائص والتحديدات الجغرافية الكثير عندما يتعلق الأمر بالقدس. وتُعَرّف القدس في القانون الإسرائيلي بأنها العاصمة "الكاملة والموحدة" لإسرائيل، وهو ما يعني السيادة الإسرائيلية على المدينة بأكملها، وفق الكاتب. ويعتبر هذا التأكيد على السيادة أكثر إثارة للجدل مما هو مُطَبّق على القدس الغربية التي تسيطر عليها إسرائيل منذ العام 1948. غير أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والمجتمع الدولي الموسع، ينظران عموما إلى القدس الشرقية على أنها أرض فلسطينية تقع تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي، وبالتالي اعترضوا على تأكيدات إسرائيل بالسيادة على القدس الشرقية. أما ترامب في إعلانه، فلم يفرق بين القدس الشرقية والقدس الغربية، تاركا السؤال مفتوحا حول المدى الذي تصادق فيه الولايات المتحدة على السيادة الإسرائيلية على القدس. ومن الناحية النظرية، فإن عدم اعترافه بحدود معينة يترك الباب مفتوحا على إمكانية أن يقتصر اعترافه هذا على القدس الغربية فقط. لكن موقفه الغامض يفسح المجال أمام كل من المؤيدين والمعارضين لقراره باستنتاج أن هناك احتمال للقبول الأمريكي بالمزيد من المطالبات الإسرائيلية الطامحة إلى السيادة على المدينة بأكملها.

وبغض النظر إن كانت تلك الضبابية عن قصد أم لا، إلا أنها على أي حال تبين الفشل التام لترامب في التعامل مع المطالب الفلسطينية في القدس. فقد تمسكت القيادة الفلسطينية منذ زمن بعيد بموقفها القائل بأن القدس يجب أن تخضع لمفاوضات الوضع النهائي، وأن القدس الشرقية هي عاصمة الدولة الفلسطينية في المستقبل. إلا أن إعلان ترامب بدّد كلا الأمرين، وألقى قدرا كبيرا من الشك بخصوص الأول (أي إخضاع موضوع القدس لمفاوضات الوضع النهائي)، بينما لا يعترف بالثاني إطلاقا (أي أن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية).

في الواقع، كان ترامب قد أكد عزمه على الوصول إلى "صفقة" كبيرة مع الفلسطينيين، وأعرب عن انفتاحه على حل الدولتين (وهو أمر كان موضع شك في السابق أصلا)، إلا أنه لم يتطرق ولو لمرة واحدة للمطالب الفلسطينية فيما يتعلق بالقدس على وجه التحديد. وكانت أقرب نقطة إلى الفلسطينيين تطرق إليها هي دعوته إلى الإبقاء على "الوضع القائم في المواقع المقدسة في القدس"، مما يعني أنه من المتوقع أن يحتفظ المسيحيون والمسلمون بإمكانية الوصول إلى البلدة القديمة في القدس الشرقية، حيث توجد معظم تلك المواقع، لغايات العبادة (وهو أيضا توقع يزيد الغموض في ظل الاعتراف الجديد).

لم تكن مطالب الطرفين هي وحدها التي تركت في هذا الدهليز الأمريكي من عدم الوضوح. حيث أنه يترتب على وجهة نظر الولايات المتحدة، طبيعة القرار والتصرف بشأن الالتزامات القانونية الدولية لإسرائيل. فعلى سبيل المثال، سيختلف التزام إسرائيل القانوني تبعا لوضع القدس الشرقية لما إن كانت تعتبر أرضا محتلة أو أنها تقع ضمن سيادة إسرائيل. ومن المرجح أن توضح هذه الأمور مواقف السياسة الأمريكية. هل ستقوم الولايات المتحدة الان بدعوة سكان القدس الشرقية إلى الحصول على المواطنة وحق التصويت بما يتطابق مع معاهدات حقوق الإنسان؟ أم هل ستكتفي بانتقاد المستوطنات في القدس الشرقية باعتبار أنها تتناقض مع القانون الدولي الذي يتناول الأراضي الخاضعة للاحتلالات العسكرية؟ إن الغموض بشأن هذه الأسئلة، وما يتعلق بها في سياق القانون الدولي، ليس بالأمر الجديد. لكن "نصف الخطوة" التي خطاها ترامب باتجاه الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على المدينة عقّدت الأمور كثيرا، ومن المرجّح أن تعيد إحياء أسئلة كثيرة طالما ظلت نائمة لفترة طويلة.

ستكون رؤية الولايات المتحدة بشأن مدى السيادة الإسرائيلية على القدس أكثر وضوحا لو كانت مفاوضات الوضع النهائي تجري حاليا، أو قريبة في الأفق. ومن المرجح أن أفضل طريقة لمعرفة النوايا والتوجهات الأمريكية حيال القدس هي المراقبة والمتابعة المتزايدة للتصرفات والتصريحات الأميركية المتعلقة بالقدس، فربما يمكن من خلالها استبصار وجهات نظر إدارة ترامب حول الحدود الحقيقية للسيادة الإسرائيلية على المدينة، وفق الكاتب. ولهذا، من المرجح أن يكون أي تصريح أو تصرف أمريكي مثارا للجدل بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، بينما يمارس كل منهما الضغط دعماً للتصرفات الأميركية التي تدعم مصلحته في القدس. وليس هناك من مؤشر أوضح من المكان الذي سوف تحدده الولايات المتحدة موقعاً لسفارتها في القدس، فيما إذا كان في الجزء الغربي أم في الجزء الشرقي من المدينة. وفي الحقيقة، فإن مكان السفارة هو الذي سيكون بمثابة التفسير العملي لقرار إدارة ترامب، غير القابل للتفسير بغير ذلك.

ومع مرور الوقت في هذا الغموض، قد تنتج عواقب وتداعيات مدمرة إن استمرت الإدارة الأمريكية في موقفها الغامض تجاه القدس. ومع كل الغموض الذي يكتنف قرار الرئيس، إلا أن الكثيرين يقرؤونه أصلاً برؤية أوسع وأبعد مما يُشغل الفلسطينيين والإسرائيليين، أي أبعاده وارتداداته السلبية والقوية في كل أنحاء حول العالم.

وللتقليل من هذا الغموض، ينبغي على الولايات المتحدة اتخاذ خطوات تظهر محدودية اعترافها بالسيادة الإسرائيلية في القدس. لكن الداعمين لقرار ترامب في أوساط الإدارة سيتعاملون مع هكذا خطوات على أنها انتكاسات، مما يؤجج معارضتهم لها. وبعبارة أخرى، من الممكن أن يؤدي غموض الموقف الأمريكي إلى وقوع الولايات المتحدة في مصيدة بين أسوأ الافتراضات وأعلى التوقعات من جانب كل من الطرفين، مما يجعلها غير قادرة على إرضاء أي منهما، مما يؤدي بالنتيجة إلى تقويض العلاقات معهما إلى أبعد حد. وفي الحقيقة، قد تظهر بعض إشارات هذه التحركات في حال قررت وزارة الخارجية الأميركية المحافظة على سياستها الحالية بعدم تعريف القدس في الوثائق الرسمية على أنها جزء من إسرائيل، وهذا موقف يصعب على أي دولة أن تكون فيه.

وكي يتم تجنب هذه التداعيات، يتطلب الأمر أن يتخلى ترامب عن الغموض، وأن يُدلي بالمزيد من التوضيح لمعنى قراره. ويبدو أن الغموض المقصود يعكس إدراكا في البيت الأبيض لحقيقة أن الإقرار بمطالب إسرائيل الأوسع في السيادة على القدس في هذه المرحلة سيكون بمثابة تدمير كامل لأهداف السياسة الأميركية في المنطقة. وتبعا لذلك، يجب على ترامب أن يوضح، في الحد الأدنى الان، أن الولايات المتحدة تنظر إلى سيادة إسرائيل الحالية على أنها لا تمتد لأبعد من "القدس الغربية"، وأن الوضع النهائي للقدس-بما في ذلك المطالبات الإسرائيلية والفلسطينية بالقدس الشرقية-سوف تُحل من خلال مفاوضات الوضع النهائي. وأكثر من ذلك، يجب على إدارة ترامب الوفاء بالتزامها بالدفع بقوة من أجل استئناف المفاوضات. وفي حال فعلت الإدارة ذلك، سيخيب أمل بعض المتعصبين لقرار الرئيس الذين اعتقدوا أنه حسم أمر قبول الولايات المتحدة بمطالب إسرائيل بالسيادة الكاملة على القدس كلها. لكن هذا التوضيح، إن فعلته الإدارة، سيعطيها موقفاً واضحاً تستطيع انطلاقاً منه إعادة جمع الطرفين، فيما تبقي على مخاوفهما وتوقعاتهما تحت سيطرتها.

ورغم ما سبق من نصائح وتفسيرات، فإن احتمالات قيام الإدارة بتصويب وتوضيح ما أعلنه ترامب ضئيلة. ومن حيث الشكل، لا شيء في الطريقة التي نفذ من خلالها هذا الاعتراف يشي بأنه تم أخذ مصالح السياسة الخارجية الأميركية في الحسبان. وكان ترامب قد ألمح عدة مرات خلال شهر تشرين الأول 2017 إلى أنه ليس بصدد إجراء أي تغيير على نهج إدارته بشأن القدس خشية أن يُقَوّض إقدامه على ذلك خطة السلام التي كانت إدارته بصدد تطويرها. أي أنه كان يدرك تمام الإدراك ما يمكن أن تؤدي إليه خطوته. أمَا وقد فعلها، فهذا يعني أن كل ما كان يقوله خلال شهر تشرين الأول كان تمويهاً وحرفاً للانتباه عما قد يقدم عليه.

وفي الحقيقة، قيل إن كبار صانعي السياسة في البيت الأبيض فهموا هذا على أنه سياسة مقصودة من قبل ترامب، وأنه سيسير بموجبها حتى قدوم عيد الشكر في الولايات المتحدة (أي حتى يوم الخميس الرابع من شهر تشرين ثاني، ويوافق 23/11/2017). لكن الاندفاع الذي تبع ذلك، والسّوء الذي أبداه البيت الأبيض في التحضير لتغيير عقود من السياسة الأميركية الثابتة بعد أيام قليلة (أي حتى تاريخ إعلان ترامب في 6/12/2017) أفضى إلى رسائل خرقاء غير مفهومة، وحلفاء ممتعضين. وفي نهاية المطاف، موقف رئاسي مرتبك وغير متماسك. ويبدو أنه هدف إلى الوفاء بوعود كان ترامب قد قطعها أثناء حملته الانتخابية.
وبالملخص، من المؤكد أن ما دفع بانقلاب الرئاسة هذا جاء من عالم السياسة الداخلية، وليس من عالم السياسة الخارجية.

ترجمة: ناصر العيسة، عن: "فورين بوليسي"

تصميم وتطوير