مسرحية ميرمية ...التأريخ الشفوي و ازدحام الذاكرة

07.04.2018 07:33 PM

كتبت: سعاد شواهنة

ليس لك أن تتخيل و أنت تجلس بين صفوف المشاهدين لمسرحية ميرمية أن هذا الاستهلال الشاحب الساكن في بداية العرض، يمكن أن يحمل في طياته عرضاً لقصص وحكايات و أماكن عديدة في فلسطين، أماكن طواها الوقت وعبثت فيها يد الاحلال الإسرائيلي، إذ لم تكتفِ بتهجير سكانها، ولكنها غيرت ملامحها، واسمها ( قولونيا، عراق المنشية، صفورية، كوكبا، بيت جالا، دير ياسين)

يطالعك المشهد بوجهين ساكنين شاحبين يطالعان الوقت، ويقلبان النظر إلى أفق بعيد، كل منهما يأخذ زاوية بعيداً عن الآخر، ولا تظهر روابط وأواصر بينهما، ولا يتجاذبان الحديث، ولا النظرات.

تجلس السيدة و امامها ببور يغلي فوقه إبريق من الشاي، بينما يجلس العجوز على مقربة من شجرة زيتون، وتظهر في مشهد المسرحية خلفهما  مساحة مستطيلة من الرمال الحمراء، ( ويظهر خلال العرض لاحقا استخدام هذه المساحة لتشكيل الإطار الزماني والمكاني، فالرمل يسهل تحريكه وتشكيله، والرسم فوقه، وتحريكه، إلا أنه لم يوظف في العرض كصورة للشتات تعرض كيف قلب اللاجئ الفلسطيني بقاع الأرض، وتاه ذلك التيه الذي عرضه غسان كنفاني في الصحراء مرارا في تجسيده صورة زكريا ومريم في رواية ما تبقى لكم، وكذلك لم توظف الرمال في المساحة المسرحية لتجسد بحث الفلسطيني عن مساحات وفرص للحياة كتلك التي جسدتها رواية رجال في الشمس، في بحثهم عن فرص ذهبية  في أعماق الصحراء .

الميرميّة وهوية البلاد 

الأرض هوية البلاد والبقاء، وعنواناً من عناوين الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ونبات الميرمية نبتة جبلية برية تزرع في محيط حديقة كل منزل في فلسطين، ويشتريها اللاجئون والمغتربون أينما كانوا. وترتبط الميرمية بالحق التاريخي الفلسطيني الوجودي، ونستعيد فيها صورة المسيح الفلسطيني الناصري، حيث يقول الدكتور توفيق كنعان أن الميرمية دعيت بهذا الاسم  نسبة إلى السيدة مريم العذراء ، ويروى أنها في إحدى نزهاتها وفي الصيف الحار جلست على حجر تستريح من عناء المشي، وكان العرق يتصبب من جبينها، فتناولت من تحت أقدامها بضعة أوراق من نبات "الميرمية" لتجفف بها جبينها. ويقال انه منذ ذلك الوقت اكتسب النبات رائحته الزكية، وما زال يكرم باسم العذراء "ستنا مريم".

ويعتقد بعض الفلاحين بأن نبات الميرمية احتفظ برائحة الأم حواء، ويروي الدكتور توفيق كنعان انه سمع في قرية ارطاس في بيت لحم ، هذه المقولة حول نبات الميرمية : " خدي شمي ريحة أمك". و الميرمية نبات جبلي قاس حاد، ينبت في ظروف قاسية في قلة الماء، وله رائحة قوية.

ميرميّة...... مسرح الشهادات 

يقدم مسرح الحارة نموذجاً يستند إلى شهادات حية وروايات لست شخصيات، وقد ذكرت هذه القصص، بشكل مقتضب مختصر في بداية العرض، من زاوية راوٍ ثالث يروي قصصاً لأسماء و حكايات من أماكن مختلفة، ثم تعود المساحة المسرحية لتكشف عن شخصيتين توكل إليهما تقمص هذه الشخصيات الست في كل مرة، و إعادة رواية القصة ثانية من زاوية الراوي الأول مستخدمة ضمير المتكلم " أنا " ومعبرة عن الذات، ومسترجعة الذاكرة، إذ تروي حكايات حمدي مطر “ابو سمير”، وأمين محمد عبد المعطي “أبو عرب”، ورشيدة حسين فضيلات،  وفريال حنا جمعة أبو عوض، ولبيبة رشيد عبد الرحمن عيسى، ومحمد حسين القاضي” أبو ناصر، مستخدمة تقنية تكثيف حضور المكان من خلال صوت الشخصيات، إلا أن هذه التقنية لم تكن واضحة في حدود الزمان المسرحي، إذ لم يبدُ الانتقال سلسا وواضحاً على خشبة المسرح، فالشخصيتان : فاتن خوري ونقولا زرينة، لم تعمدا إلى تقليب نبرات الصوت، أو تغيير ملامح الوجه، وكذلك المظهر الشخصي، إضافة إلى أن المساحة المسرحية كانت ثابتة ولا توحي بتغير في الانتقال من شخصية إلى أخرى، باستثناء استخدام السياج الذي دلّ مرة على السياج الحدودي باتجاه جبيل في لبنان، ومرة استخدم حبلا لتعليق الغسيل و قطع الملابس.

قد تكون هذه التقنية مناسبة وكثيفة، وتلقي الكثير من المسؤولية على كاهل الممثلين، و تركيز الجمهور، إذ بدت المسرحية كاملة كما لو أنها مشهد واحد من بدايتها وحتى النهاية، ولم تبالغ في استخدام المؤثرات " الإضاءة والصّوت".

الموسيقى في المشهد المسرحي 

استخدمت المسرحية نصاً غنائياً موازياً للنص المسرحي، حيث وظفت عددا من المقطوعات الموسيقية التراثية، لفرقة الفنون الشعبية الفلسطينية، و أغنية "احكيلي عن بلدي احكيلي" لفيروز لتوازي وتخبر عن مرحلة بداية التهجير،وجاءت أغنية "ردني إلى بلادي" لتعرض لحلم العودة في ختام المسرحية، وجاءت موسيقي أغنيتي "لفي محرمتك لفي" سناء موسى"، و أغنية " هلالالاليا" ريم البنا لترافق عرض المسرحية للتراث الشعبي والثقافي، و تجسيد المسرحية للتراث الإنساني الفلسطيني.

إن الاستناد إلى الأغنية الشعبية يؤدي دوراً هاماً و حيوياً في توثيق الحكاية الشعبية الفلسطينية، و توثيق الرواية التاريخية للجوء الفلسطيني، إذ كان يمكن أن تؤدي الأغنية المتواترة والخاصة بكل بلدة وكل قرية دوراً هاماً في عرض هوية المكان الفلسطيني بشكل خاص.

التراث الشعبي والتوثيق لحكاية الوجود

قدمت مسرحية ميرمية ضمن إطارها الزمني عدداً من النماذج التي تروي التراث الشعبي والحضاري والثقافي للشعب الفلسطيني بموازاة حكاية الهجرة، وذلك في إطار توثيق الوجود وبصمة الإنسان الفلسطيني على الأرض، حيث ظهرت في المساحة المسرحية، كالألعاب الشعبية "الغميضة، والحجلة" و مواسم الحصاد و قطف الزيتون، و القطين: والاحتفالات بالأعياد وإعداد " الزرد، وأنواع الطعام،إضافة إلى التوثيق لأنواع الملابس التراثية كالدمايات:  "شو إشي حلو جتّ الزيتون! نغنّي مع الشغّيلة، أمي تسوّي لهم أكل، وتطعم الشغّيلة، ونوكل معهم. أبوي وإخوتي كانوا معانا ، كانوا إخوتي يقعدوا يوكلوا مع الزلام وإحنا مع النسوان. كل العيلة نطلع مرَّة وحدة، عشان نخلِّص في ساعة، ونودِّيه على الماكينات، درس الزيتون، كنا نشتغل كل الليل، عشان الزيتون. كان عنا عنب، وكان عنا تين، بس كانت أمي تسوّي قطّين جرار، تهدي الجيران. كان عنا طابون، نطبخ ونسوّي خبز طابون".

التعليم والرواية الشعبية 

وثق العمل المسرحي لمسيرة التعليم في فلسطين، حيث تم التطرق إلى المدارس في فلسطين إبان النكبة، و محدودية المدارس آن ذاك، حيث أشارت إلى أن التعليم كان حتى الصف السابع في بعض المناطق، ثم الانتقال إلى القدس لمتابعة التعليم، إضافة إلى الإشارة  إلى التعليم في فلسطين إبان فترة النكبة، و المدارس التي كانت موجودة كالمدرسة الرشيدية في القدس، والعمل على تأسيس مدرسة في صفورية عام 1947 بتعزيز  واقتراح من الأستاذ شاكر سمارة، وتورد المسرحية أن المدرسة عملت عاماً واحداً بعد تأسيسها، وذلك بعد عملية التهجير والتطهير العرقي التي تعرضت لها القرية.

قولونيا .... عراق المنشية .....صفورية ....كوكبة .... بيت جالا   

اهتمت المسرحية بذكر أسماء هذه القرى المهجرة تهجيراً كاملاً، والمطهرة عرقياً من سكانها، حيث خرج أهالي هذه القرى و هجروا تهجيراً داخلياً، إذ سكنوا في مناطق قريبة كالقدس، والناصرة، وبيت اكسا، و بعضهم هُجر إلى خارج الحدود الفلسطينية إلى بنت جبيل، وعين الحلوة في لبنان، إضافة إلى عرض تجارب الاغتراب المرافقة لعمليات التهجير، مثل الهجرة إلى بوليفيا.

استخدمت المسرحية البيئة الجغرافية لكل منطقة من هذه المناطق، لتكون هوية تعبر عن المكان في ذاكرة الشخصيات، حيث استخدمت النباتات والكروم والبساتين، والزيتون، وحقول القمح والشعير لتعبر عن قرية عراق المنشية التي تم احتلالها في الأول من آذار عام 1948.

أما قرية كوكبا فقد احتلت في 12 أيار من العام 1948، وتذكر المسرحية أن "العصابات الصهيوينة" ألقت بجثث الفلسطينيين من أبناء القرية في بئر كبير في البلدة، وذلك لترهيب الأهالي وحملهم على مغادرة البلدة بشكل كامل .

أما قولونيا فقد كانت عيون الماء الهوية الأكبر التي يتذكرها اللاجئ الفلسطيني، وقد ذكرت الشخصيات عدداً من عيون الماء الاثنتي عشرة عيناً مثل : عين الليمونة، والفوقا، والشامية، والعصافير، وعين الجسر، والبيارة، وعين فرحان وغيرها .

أما صفورية فقد ظهرت من خلال الطابع التعليمي للقرية، ووجود مدارس للبنين والبنات، والعراقة في الغطاء النباتي في القرية، واحتلت القرية في 15/7/1948 خلال شهر رمضان وهجر أهلها إلى لبنان.

لقد اشتعلت المشهدية المسرحية خلال سرد حكاية التهجير من صفورية بشكل خاص، وزادت حركة وانفعال الممثلين على خشبة المسرح، فتم ذكر موسم قطف الزيتون، والتواجد بين البيارات، بالتزامن مع عمليات التهجير، إضافة إلى التركيز على مفهوم القصف من خلال الطائرات" بما ظهر موازيا و مشابهاً لعمليات القصف التي تتعرض لها غزة مؤخراً "  خلال عملية التهجير، من خلال سلاح الجو إذ تورد الرواية الفلسطينية إلقاء ثلاث من الطائرات براميلا  مشحونة بالمتفجرات، والمواد المعدنية ليلة الخامس عشر من تموز فجراً، وهرب العديد من الأهالي إلى الموارس " الأراضي " بعد ذلك.

حيث يذكر المؤرخ الفلسطيني نافذ نزال أن ثلاث طائرات إسرائيلية قصفت القرية ليل 15 تموز ملقية (براميل مشحونة بالمتفجرات والشظايا المعدنية والمسامير والزجاج). وقد قتلت القنابل نفرا من سكان القرية وجرحت عدداً أخر, وهرب كثيرون غيرهم إلى البساتين طلبا للامان.

وصمد المجاهدون وقاتلوا كيفما اتفق. وقاتل كل منا بمفرده ودفاعا عن نفسه، بينما يروي الاحتلال الإسرائيلي قصة مغايرة حول هذا إذ يذكر  المؤرخ الإسرائيلي بن موريس إلى أن القرية "قاومت تقدم جيش الاحتلال الإسرائيلي مقاومة شديدة", ولذلك سويت القرية بالأرض وطرد سكانها. وهو يذكر أيضا أن القرية "كانت تساند بقوة جنود القاوقجي" أي جيش الإنقاذ العربي  .

طبقات اجتماعية مختلفة و لجوء واحد 

عرضت المسرحية لاختلاف الطبقات الاجتماعية التي تعرضت لعمليات التهجير في المكان الواحد،حيث أوردت هجرة البعض إلى بوليفيا ضمن سلسلة غير سهلة من التنقلات، و بمساعدة بعض الأقارب في دول الاغتراب الأوروبية الاشتراكية آن ذاك،و كانت هذه إشارة غير مباشرة إلى طبيعة الدول التي كانت تساند نضال الشعب الفلسطيني و حقه في الفترة النضالية المشار إليها حتى عام 1967، وذكرت المسرحية الزيارة التي قام بها اللاجئون الفلسطينيون لقراهم و بيوتهم التي هجروا منها خلال النكبة، حيث تمت الزيارة في العام 1967 .

وتورد حصول بعض الاجئين في دول الاغتراب على ثقافات الدول الغربية، بعد قضائهم جزءاً يسيراً من الوقت هناك، حيث عاد بعضهم و افتتح المقاهي و البيلياردو، وهي أمور تجذب الشباب.

وذكرت المسرحية أيضاً من خلال ما تورده الشخصيات من ذكريات، عرضاً لملاك الأراضي و أصحاب العزب، والخير الكثير كما قالت الشخصية، و أوردت في زاوية أخرى الشخصيات التي كانت تعمل خلال هذه المواسم الزراعية : " كنا نعزب بالخلا " .

التأريخ الشعبي والذاكرة المتداخلة زمنيا 

ينجح الاعتماد على الذاكرة الشعبية في تسجيل العديد من التجارب الصغيرة والهادئة المنسية، إلا أن الاهتمام الكثيف في إيراد العديد من الحكايات الشعبية المتداخلة زمنياً كالمواسم الزراعية، وقطاف الزيتون، وشهر رمضان، ومواسم الحصاد، بالتزامن مع رواية ذاكرة الهجرة المحدودة زمانياً والكثيفة شعورياً يضفي الكثير من الارتباك في المساحة المسرحية الضيقة .

تصميم وتطوير