يا قدس يا مدينتي

16.05.2018 05:36 PM

 كتب طاهر تيسير المصري : لا أدري كم من الصناديق والوقفيات المحلية والعربية والإسلامية وربما العالمية، الأهلية منها والحكومية، التي وجدت من أجل مدينة القدس، كما أنني لا أدري حجم المبالغ المالية التي التزمت بها الدول بشكل رسمي تجاه المدينة، ولا أدري حجم الموازنة التي تخصصها السلطة الفلسطينية لمدينة القدس تحديدا وليس لمحافظة القدس بشكل عام، ولكن من المؤكد أن هناك حاجة باتت ملحة من أجل إعادة النظر في كل الاستراتيجيات والسياسات التي تتبعها هذه الوقفيات والصناديق لدعم مدينة القدس وسكانها، وبخاصة بعد الاعتراف الأمريكي بها كعاصمة لدولة الاحتلال ونقل مقر سفارتها الدائم إلى أحد أحيائها.

ورغم كل التصريحات والبيانات التي شجبت واستنكرت وأكدت بأن الاعتراف الأمريكي لا يغير من الواقع شيئ، إلا أن التغييرات حصلت وتحصل، وتأتي في سياق ليس فقط تفيير ملامح المدينة وتهويدها بل أيضا فرض الأمر الواقع سياسيا وقانونيا، وهذا نراه الآن أمام أعيننا، وإنكار الحقيقة لا يعني عدم صحتها.
ومن باب المقاربة فقط، فإن صمود الفلسطينيين وبناء مؤسساتهم وتنظيم أنفسهم داخل الأرض المحتلة عام 1948، لم يمنع دولة الاحتلال من بسط "سيادتها" على الأرض وعلى السكان الأصليين، وإن استمر تعاملنا مع مدينة القدس بنفس الطرق والأساليب الحالية فسوف يكون مصير القدس كمصير الأرض المحتلة عام 1948.
وفي ظل الصمت العربي والإسلامي والدولي تجاه ما يحصل في مدينة القدس من تغيير لوضعها القانوني والسياسي، واخراجها بشكل تدريجي من قضايا "الحل النهائي"،- على افتراض بأن هناك حل نهائي-، فإن تبعات هذا الصمت والتخاذل حتما سينعكس على الموارد المالية التي تغذي هذه الصناديق والوقفيات وبالتالي ستبقى مجرد مسميات ليس لها فعل على الأرض، أو في أحسن أحوالها ستُقدم،- بموافقة دولة الاحتلال-، مساعدات انسانية إغاثية لن يكون لها أثر فعلي في إنقاذ المدينة وسكانها من الضم الفعلي وتحويلها إلى مدينة تخضع بشكل كامل لقوانين دولة الاحتلال، وسلخها بشكل كلي عن الضفة الفلسطينية المحتلة.
المطلوب فعل مقاوم، وليس ردود أفعال، وهذه مسؤولية الكل الفلسطيني وعلى رأسهم التنظيمات والاحزاب الفلسطينية على تنوعها واختلافها، فهي من المفترض أن تكون حامية المشروع الوطني فعلا وليس فقط قولا وتنظيرا، لأن هذه التنظيمات والاحزاب تُدرك قبل غيرها بأن البيانات والمؤتمرات الصحفية لا تُسمن ولا تُغني من جوع، ولم يَعُد المواطن الفلسطيني يلتفت لهذه التصريحات التي في الغالب يُراد منها إثبات الوجود وتسجيل المواقف، وليس بها أي جديد تجاه جميع القضايا، فنحن بحاجة ليس فقط إلى تغيير لغة التخاطب بل أيضا بحاجة إلى خطة انقاذ وطني يكون على رأس أولوياتها مدينة القدس وكيفية مواجهة سياسات الاحتلال والحفاظ على طابعها الفلسطيني.
تناقضات الوضع الداخلي وحالة الشرذمة في الساحة الفلسطينية تنذر بما هو أسوء، حالة الضعف التي تعاني منها مؤسسات منظمة التحرير ناتجة أساسا عن حالة الضعف التي تعيشها الاحزاب والحركات السياسية المنضوية تحت لواء المنظمة، وهذا الأمر ينسحب أيضا على الحركات الموجودة خارجها، والضعف أيضا أصاب النقابات والاتحادات بدرجات متفاوتة، وحالة الوهن العام هي السائدة، وكل ذلك ينخر بمكونات المجتمع الأخرى. حالة من الضياع نراها بادية في كل الفعل الفلسطيني وعلى كافة المستويات، وهناك العديد من التصريحات والإشارات التي صدرت تؤكد على وجود حالة من اليأس السائد ليس فقط في أوساط "القيادات" لا بل أيضا عند المواطن العادي، الذي أصبح يبحث عن خلاصه الشخصي في ظل فقدان الثقة وضياع البوصلة وعدم وضوح الاتجاه.
الخروج من هذا الحال السيء بحاجة ليس إلى ترميم بل إعادة تشكيل لكل ما هو قائم على قاعدة الحفاظ على المشروع الوطني من الاندثار وليس الحفاظ على الأسماء أو الالقاب أو الامتيازات، فالحاجة ماسة إلى مكاشفة ومحاسبة من أجل إعادة انتاج الأمل، وإعادة انتاج الفعل الشعبي المقاوم، وإعادة إنتاج الثقة بالقائمين على المشروع الوطني وهذا يتطلب حراك ديمقراطي داخلي في هياكل الاحزاب ومؤسساتها أولا، فلا يٌعقل أن نتحدث عن وجوب بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس ديمقراطية دون أن نمارس بشكل فعلي وحقيقي،- وبعيدا عن المحاصصات والكولسات والشكليات-، هذا الفعل داخليا في أحزابنا وحركاتنا ومؤسساتنا المجتمعية، والتي غالبا ما تنتج نفس الشخوص ونفس الأسماء، وكأن الشعب الفلسطيني عاقر وليس لديه إلا هذه الأسماء وهذه "الكفاءات" لكي "تقود" أو تروث القيادة.
أعتقد بأن الوضع الحالي وصل حد الانفجار الذي لا يعلم أحد متى وبوجه من سينفجر، ولكن على الأغلب سيكون الاحتلال هو المستفيد الوحيد من هذا الانفجار، فالحال الذي نعيشه صنعناه بأيدينا، وساهم الاحتلال،- بسبب ضعفنا الداخلي وتغليب المصالح الشخصية والحزبية-، في تغذية التناقضات الداخلية وصولا إلى حالة من الاحتراب تذهب بما تبقى من أمل.
استباحة الاحتلال لكل ما هو فلسطيني لم يُبقِ من "السيادة" شيئا غير الاسم، وهذا يدفعنا، أردنا أم لم نرد، إلى ضرورة تقييم الوضع برمته، والعودة إلى الجذور، والاعتماد على أنفسنا، وخلق خيارات خارج المألوف بما يحافظ على وحدتنا ووجودنا أولا وأخيرا على أرضنا.
فلنعمل على استنهاض مكنوناتنا الداخلية قبل فوات الأوان من خلال الاتفاق على برنامج وطني تحرري يتم العمل على تجسيده عبر خطة واضحة المعالم، تخضع لتقيم دوري، وتحوي على بدائل وخيارات وتعتمد على الفعل وليس ردات الفعل، فنحن لا نختلف كثيرا على أن الحال الفلسطيني المعاش معقد وبحاجة إلى خطة انقاذ وطني أساسها بناء شراكات داخلية وقواسم مشتركة سنامها مقاومة الاحتلال بكل افرازاته على قاعدة أن التناقض الرئيسي مع المحتل وليس مع الآخر المختلف داخل المجتمع الواحد، فهذا الذي سيحمي القدس ويحمي مشروعنا الوطني.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير