العقل السياسي الفلسطيني بعد البرمجة

18.05.2018 01:38 PM

كتب: عوني المشني

في حديث له مع احد الصحافيين الفرنسيين ، قال شمعون بيرس العقل السياسي الاهم في حزب العمل الاسرائيلي الذي صنع فلسفة  اتفاق اوسلو : اتفاقيات اوسلو اكبر عملية تدجين في التاريخ ، هذا الحديث جاء في رده على انتقادات قيلت في ذات المناسبة بان توقيع اتفاقية مع منظمة ارهابية كمنظمة التحرير خطأ استراتيجي إسرائيلي .حزب العمل أراد من اوسلوا وفق هذا المنطق اعادة برمجة العقل السياسي الفلسطيني ، والسؤال هو : ما هي الأساليب المستخدمة في اعادة برمجة العقل السياسي الفلسطيني ؟؟؟.

عبر قراءة معمقة لمسيرة ربع قرن مرت على اتفاق اوسلوا ، وباستخلاصات منهجية يمكن ملاحظة التالي :
اولا : تقديم امتيازات للطبقة السياسية الفلسطينية ، تلك الامتيازات تجعل لهم مصلحة في الوضع القائم بغض النظر عن المصالح الوطنية الفلسطينية ، الامتيازات هي فرص من جهة ، ثغرات فساد وإفساد مفتوحة ، مواقع سياسية وقيادية لم تكن لتكون لولا استمرار هذا الوضع ، خلط بين السياسي والاقتصادي والامني هذا الوضع يشكل عبره امتيازا للبعض .

ثانيا : اعادة بناء العقيدة السياسية والأمنية الفلسطينية على قاعدة العداء الداخلي ، فعندما تصبح حماس اكثر خطرا على فتح من اسرائيل وكذلك العكس اي ان فتح ايضا اكثر خطرا على حماس من اسرائيل فان ذلك يشكل تغييرا  استراتيجيا في العقل السياسي الفلسطيني .

ثالثا : تهميش كامل لدور الشتات وهذا الموضوع يبدوا هامشيا ولكن اذا اخذنا في الاعتبار ان الشتات الفلسطيني مرتبط موضوعيا بحق العودة اكثر من اي شيئ اخر فان تهميش الخارج وإخراجه من دائرة الفعل هو تهميش فعلي وعملي لحق العودة
رابعا : ربط اقتصادي للحالة الفلسطينية باسرائيل ، يكفي ان ثلثي ميزانية السلطة تأتي من ضرائب الفلسطينيين التي تجمعها اسرائيل نيابة عن السلطة وتحولها شهريا لميزانية السلطة ، هذا اضافة ان كل مقومات البنية الاقتصادية من كهرباء واتصالات ومواصلات ومياه .

خامسا : تهميش ممنهج لكل من لم يتجاوب مع البرمجة الجديدة باستخدام مختلف السبل ، التقاعد ، خلق فضائح ، اختلاق خلافات ، إقناع المستويات القيادية بتهميش البعض الاخر ...... الخ ما أساليب التهميش .

سادسا : صناعة قيادات جديدة بذات العقلية مبرمجين اما بترتيب مسبق او بدون ترتيب ، وهذا ايضا يتم بمنتهى الذكاء وفِي سياقات دقيقة وعلى المدى الطويل والمتوسط والقصير ، انها سياسة تهدف الى صناعة قيادات المستقبل ايضا .

سابعا استخدام سياسة ردع قاسية جدا ضد من يناهض هذا الوضع وبما يحول من يتعارض مع هذه السياسة الى كم صامت عاجز عن التغيير .
سابعا : الإبقاء على هامش محدود ولكن عديم التأثير من حرية " النضال " للإبقاء على مستوى شعبي مقبول لهذه القيادات وحتى لا يتم تعريتهم شعبيا بطريقة تفقدهم تأثيرهم .

بعد ربع قرن من هذه السياسة نستطيع القول ان طبقة سياسية جديدة جدا ، مختلفة جدا ، مبرمجة جدا قد تم صناعتها وبرمجتها في ذات السياق ، هذه الطبقة لم تبقى مجرد نخب سياسية معزولة ، تم تشكيل ثلاث ابعاد لها ، أمن متماهي ومنسجم ويمتلك عقيدة أمنية خاضعة للطبقة السياسية ومنفذ لتعليماتها وبذات العقلية المبرمجة ، طبقة اقتصادية منسجمة ومتداخلة المصالح معها ومرتبطة بشراكات مع الاحتلال ، وأدوات إعلامية متناثرة هُنا وهناك وفِي ذات السياق ، بمعنى او باخر تشكلت ماكنة عمل متكاملة من ذات النوع وبذات المواصفات ، انها عملية تترك اثارها العميقة على ادارة الحالة الفلسطينية .

وبقدر ما نجحت تلك السياسة على مستوى الطبقة السياسية وامتداداتها الأمنية والتقتصادية والإعلامية ، بذات القدر فإنها فشلت فشلا مدويا على المستوى الشعبي ، هذا ما يفسر كلام نتياهو بان مشكلة اسرائيل ليست في الأنظمة والحكام وإنما في الرأي العام الشعبي ، لماذا فشلت هنا ؟؟؟ ببساطة لان الموروث الديني والثقافي للأمة كان سدا منيعا في وجه هذه السياسة ، هذا من جهة ، اما من الجهة الثانية لان المصالح الجمعية للشعوب تتعارض استراتيجيا مع الوجود الاسرائيلي برمته وبذلك لا يمكن تقديم رشوة للمجاميع الشعبية لان تلك الرشوة ستكون اكبر من قدرة الاعداء على تقديمها . ان فشل تلك السياسة على المستوى الشعبي ونجاحها على مستوى الطبقة السياسية عكس نفسه بشكل مثير ، انفضاض الجمهور من حول التنظيمات السياسية اصبحت ظاهرة عامة وبدأ مصطلح " مستقلون " يطفو على السطح ويجد احتراما عاليا ، رغم ان هذه الاستقلالية كانت قبل ربع قرن تعبير مخجل في الأواسط الفلسطينية الا انها اصبحت الان مثار إعجاب واحترام ، والسبب بسيط هي فقدان تلك الاطر والتنظيمات مبررات الاحترام اولا وعجزها او تخاذلها في مواصلة مسيرة التحرر بمتطلبات تلك المسيرة  ، كما يلاحظ جليا اتساع دائرة المبادرات الفردية الغير مرتبطة بالتنظيمات السياسية لدرجة انها - هذه الظاهرة - قد تحولت الى اكبر هاجس مقلق للمستويات الأمنية الاسرائيلية والفلسطينية على حد سواء ، ان الظواهر الفردية تعبير أمين عن فقدان الثقة بالتنظيمات والفصائل واكثر من هذا فهي الى جانب ظاهرة المستقلين تشكل ارهاصات مرحلة جديدة تتشكل فيها قوى سياسية فلسطينية جديدة ، قوى سياسية لا تحمل جينات القوى المتهاوية والتي قادت المرحلة السابقة .

الاشكالية الكبرى ان قوى المعارضة الفلسطينية من اليسار او اليمين على حد سواء جعلت معارضتها للواقع من خلال الاندماج فيه ، معارضة  من داخل السياق وليس من خارجه لهذا كانت معارضة بدون رؤيا بدون برنامج بدون أدوات عمل ، لم تتوقف المعارضة امام المشهد لتنفيه بل لتحسن شروطه ، كافة القوى السياسية الفلسطينية باستثناء الجهاد الاسلامي شاركت في انتخابات تشريعية وهي تدرك انها في حقيقة الامر انتخابات مجلس حكم اداري ذاتي !!!!!! وشاركت بعضها في حكومة ، ليست حكومة دولة بل ادارة حكم ذاتي ، واكثر من هذا شاركت في قوى الامن ايضا !! هذا حول المعارضة الى جزء من المشهد وأدخلها في عملية البرمجة وان كان بشكل غير مباشر ، امام هذا الوضع فان الحالة الفلسطينية برمتها اصبحت بحاجة الى تغيير ، هذا ما أدركته الجماهير قبل النخب السياسية وهذا ما جعلها تنفض من حول القوى السياسية وتتخذ موقفا اقرب الاستقلالية .

نحن الان على مشارف مرحلة جديدة تتسارع بشكل حثيث ، كل ما سبق ذكره مقدمات لها لا اكثر ، فالنتيجة النهائية لكل هذه السياسة هي هل ستنجح تلك السياسية في اختزال الفعل الفلسطيني في نخب تمت برمجتها بطريقة او باخرى ؟؟!!!!.

حساب الحقل ليس بالضرورة هو حساب البيدر ، فالشعب الفلسطيني يمتلك ما يقلب التوقعات ، هكذا هو دوما ، شعب يجترح الحلول الإبداعية ليبقى على خارطة الصراع ، اوسلو الذي أرادوه مقدمة لتصفية القضية الفلسطينية ساهم بشكل او باخر بتحقيق زخم ديمغرافي للفلسطينيين داخل فلسطين التاريخية ، نصف مليون فلسطيني دخلوا الوطن في سياقات اوسلو عدد لا يستهان به في لعبة التوازن الديمغرافي . تشديد الخناق على الكفاح المسلح ساهم بشكل او باخر في تطور في المقاومة الشعبية السلمية لتصبح اسلوبا قادرًا على احداث تغيير إستراتجي ، خروج التفكير الفلسطيني من تحت عباءة الفصائل ايضا يمثل تباشير تشكيلات سياسية جديدة غير خاضعة للبرمجة . واحيانا عمل فردي يقلب الحسابات ، المقاطعة التي تتسع وتتعمق عالميا وبعيدا عن المحاصصة الفصائلية تمثل تطورا استراتيجيا ، بمعنى ان هناك متغيرات خارج الحسابات ، وستعطي مردودا مختلفا . الحالة الفلسطينية لم تعد حكرا على الفصائل لتتحكم في مسارها ، والأمور تتسارع باكثر مما يعتقد البعض لتتشكل الساحة الفلسطينية من جديد وبما يختلف عما هو سائد.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير