خالد بطراوي يكتب لـ وطن: ترمس .. بليله

28.05.2018 07:15 AM

يروى أن مكتبا عالميا عريقا للمحاماة يعمل به مجموعة كبيرة من المحامين والتقنيين والفنيين كان قد أسسه الجد ويعمل به الإبن والحفيد إضافة الى باقي العاملين. ويروى أن المحامي الجد الخبير المؤسس الطاعن في السن والمرجعية لهذا المكتب العريق كان يجلس في مكتبة في هذا الصرح القانوني عندما تناهى على مسمعة جلبة وضوضاء خارج مكتبه مصدرها قاعة الإستقبال في المكتب.

خرج بشق الأنفس على عكازته مستطلعا، بصعوبة بالغة مشى من مكتبه الى الردهة وعندما وصل وجد طاقم المكتب برمته وقد أقاموا إحتفالا كبيرا تقرع فيه الكؤوس وتشرب فيه الأنخاب وتوزع فيه الحلويات وتصدح معه الموسيقى ويرقص الطاقم فرحين.
ظن هذا العجوز المؤسس أن الله قد أنعم على أحد العاملين بطفل أو طفلة جميلة أو أن أحدهم قد تزوج فتقدم قليلا مبتهجا محاولا رغم كبر سنه أن يشاركهم فرحتهم بالرقص والدوران حول عكازته، عندما تقدم حفيدة المحامي الشاب حسن الهندام وقال له " من دون أدنى شك يا جدي أنك تذكر أول قضية توليتها أنت في هذا مكتب المحاماة العريق هذا".
فأجاب الجد " طبعا .. طبعا .. وكيف لي أن أنساها ... لقد مرت كل هذه السنوات وبلغت من العمر عتيا لكنني أذكرها جيدا ... لكن يا سيدو ... ما الذي ذكرك بها؟"

أجاب المحامي الشاب الحفيد مفتخرا " اليوم كانت جلسة المحكمة الأخيرة وقد كسبنا القضية".
أخذ المحامي العجوز المؤسس يولول ويضرب كفا بكف وإنهمرت دموعه فأسرع المحامي الحفيد الشاب محتضنا جده المحامي العجوز ظانا منه انه تأثر فرحا حتى البكاء وقال له " لا بأس عليك يا جدي ... أشعر بمدى تأثرك وذكرياتك وفرحتك".
دفع المحامي الجد المحامي الحفيد بعيدا عنه بطريقة أوقفت كل مظاهر الفرح والبهجة وصاح بكل المتواجدين " يا أغبياء .. أوتفرحون .. وأنت أيها الحمار تتفاخر بأنك تمكنت من حل القضية الأولى التي توليتها أنا في هذا المكتب قبل عقود من الزمن ... لله دركم جميعا ليس فقط أغبياء بل حمير ... هذه القضية هي التي نأكل منها الخبز أيها الأغبياء ولولاها لما أنتم بهذه الرفاهية .. ماذا سنفعل الان .. كنت أخشى هذه اللحظة .. بفعلتكم كتبتم نعي هذا المكتب العريق ... سأغلق المكتب .. إفرحوا الان".

عاد الجد ببطء شديد الى مكتبه وسط ذهول الحضور .. توقف الحفل ... خرج الجد حاملا حقيبته القديمة المليئة بملفات القضايا الأولى العالقة في أروقة المحكم منذ عقود من الزمن، توجه بشق الأنفس من مكتبه نحو الباب وقبل أن "يطبق" الباب خلفه .. قال أنتم جميعا مفصولون ... خارج الخدمة والمكتب مغلق إعتبارا من اليوم وليراجعنى كل منكم للحصول على أتعابه".
يا لغبائنا نحن جميعا أيها الأفاضل .. كنا نظن أن أباطرة العالم يهمهم حل المشاكل الدولية والصراعات والنزاعات والقلاقل وحتى الخلاف بين الزوج وزوجته والأسرة الممتدة على قضايا الميراث.

وفي عالمنا العربي كيف بالله عليكم ستكون هناك نوايا صادقة لتحقيق "الولايات المتحدة العربية" طالما أن مصالح القادة متضاربة وتبعيتهم لهذا النظام العالمي أو ذلك؟ فإذا حلت القضايا والمشاكل والنزاعات كيف سيجنى قادة هذه الدول قوتهم اليومي وهل سيغلقون مكاتبهم كما فعل هذا المحامي الجد العجوز؟

أما على الصعيد الصراع العربي الإسرائيلي الذي يشكل فيه الشعب الفلسطيني خط التماس الأول، فإذا جرى حل هذا الصراع كيف للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية وقادتها المستفيدين أن يحققوا رفاهيتهم ورفاهية عائلاتهم وباستدامة وينطبق ذات الأمر على القادة العرب والفلسطينيين، هل تتوقعوا أن يغلقوا جميعا مكاتبهم "ويبسطوا يبيعوا ترمس أو بليله" في ساحات المدن الرئيسية، خاصة وأنهم طوال حياتهم ومسيرتهم "النضالية" كانوا يرسلون أذنابهم لبيع  عيدان الثقاب هنا وهناك (الكبريت) ويصرخون " انكش تولع".

وفي حالتنا عندما تتحول المعادلة النضالية الى رفاهية وإمتيازات فكيف للقادة والفقاقيع الصغار المصفقين لهم أن يتخلوا عن ذلك وينزلوا الى الميدان، سوف يبررون ويبررون ويبررون تحت مسميات " متطلبات المرحلة الراهنة".
سوف أترحم على أيامك أيها الشاعر الكرمي عبد الناصر صالح عندما كتبت وأنت في معتقل أنصار (3) في صحراء النقب قصيدتك " المجد ينهي أمامكم" حيث قلت فيها
المجد للشهيد
يبزغ النهار من شريانه
ومن عينيه يطلع القمر
وتبدأ الحياة من يديه
تصهل الخيول من أهدابه
ويخرج الملثمون من دمائه
ويورق الشجر

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير