الهزيمة .. والخطاب العصيّ على الهزيمة

05.06.2018 11:18 AM

كتب:  عوض عبد الفتاح : ان تنهزم أمة ، او شعب ، امام عدوها لأسباب متعددة ، امر يتكرر في التاريخ البشري . ولكن ما من أمة تقريبا ، ذات قضية عادلة ، خسرت امام ظالم ، الا وأعادت الكرة تلو الكرة ، لتصحح مسار  التاريخ . نعم هناك امّم هُزمت وانقرضت في الماضي  ، ولكن في العصر الحديث ، من الصعب تصور حصول هذا الامر . كان احد شروط نهوض الامم والشعوب  مجددا ، هو الاحتفاظ بروايتها  وبخطابها ، خطاب التحرر والمقاومة ، خطاب العدالة والحقوق . ولهذا  يلجأ المستعمر ، بعد إنجاز غزواته الخارجية ، وتمركزه الفيزيائي في أراضي الشعوب التي  غزاها ، الى إعادة

كتابة التاريخ ،  لتحقيق هدفين : الاول ، تسويغ شرعية السطو ، ومنحها بعدا اخلاقيا لضمان ديمومة تأييد شعبه ، وتسويق نفسه كحامي  الحضارة الغربية  . والثاني ، تفكيك رواية السكان الأصليين ، واعادة هندسة وعيهم ، في اطار السيطرة والهيمنة ، لتذويت الهزيمة .

في حالة الشعب الفلسطيني ، لجأ الغازي الصهيوني  الى حملة تزييف التاريخ ، قبل بدء غزوه لفلسطين ، وطورها  مع كل تقدم حققه مشروعه على الارض . واسترخى ، منتشيا ،  بعد نجاحه في اقامة كيان على ارض فلسطي عام ١٩٤٨ . وكانت تبنت  حكومات الغرب روايته ووفرت كل أسباب الدعم ، الى جانب الدعم الكبير الذي تلقته من القيادة الستالينية للاتحاد السوفييتي . و نجحت اسرائيل في تسويق نفسها ،  امام الشعوب الغربية ومعظم مجتمعاتها المدنيه ، كدولة شرعية ، ديمقراطية ، في “غابة الشرق الاستبدادي” . وكان هذا الدعم ، المادي والسياسي ، ونجاح خطابها الإعلامي ، من  المحفزات الرئيسيّة لشن حرب على ثلاثة دول عربية في ٥ حزيران عام ٦٧ ١٩، والتي انتهت بهزيمة عربية  نكراء ، تعاني من نتائجها الكارثية الأمة العربية ، وفِي القلب منها الشعب الفلسطينيه،  حتى اليوم .

نعم  لقد رفض جمال عبد الناصر ، الذي اعترف بمسئوليته عن الفشل في هزيمة العدوان الصهيوني . رفض الهزيمة ، وصمم على العمل على التصدي لنتائج العدوان منذ اليوم التالي . وتمت المحاولة لتصحيح هذه النتائج  بغيابه ، بِعد موته  ، حيث تمكنت القوات المصرية من تحقيق نصر تجلى بعبور قناة السويس وخط بارليف  الحصين . ولكن هذا النصر لم يكتمل بسبب اقدام الرئيس السادات على التوصل الى  تسوية تصفوية ، أدت الى اخراج مصر ، اهم دولة عربية ، من الصراع ضد الكيان الاسرائيلي . وكان هذا هدفا صهيونيا مركزيا ، وطموحا قديما .

كانت تلك التسوية ، بداية انحدار الخطاب التحرري في بنية الخطاب المصري الرسمي ،  وباتت اسرائيل دولة جارة ، تستفرد بالشعب الفلسطيني وتذوقه الويلات .

كما كانت الحركة الوطنية الفلسطينية البازغة ، بقيادتها الشابة الحيوية و المستقلة ، رفضت  نتائج الهزيمة ، وخاضت معركة الكرامة ضد عدوان إسرائيلي على الحدود الاردنية  فأعادت لخطاب التحرير والمقاومة وهجه ، وقوة  سحره ، والثقة بالمقاومة الشعبيه المسلحة ، مما دفع بالالاف من الشباب الفلسطيني ، ناهيك عن العديد من الشباب العربي ، وبعض ، الأجانب الى الالتحاق  بصفوف المقاومه المسلحه التي كانت تتخذ من الاْردن ساحة لها حتى عام ١٩٧٢، يوم تم اخراجها بعد مذابح أيلول الأسود.
    
مرت مياه كثيرة في النهر ، بل دماء كثيرة ، منذ ذلك الزمن . وخاض شعب فلسطين ، معارك عسكرية ، ونضالات شعبية كثيرة ، وقدم تضحيات لا حدود لها ، غير ان عوامل ذاتية ، و عجزٍ عربي ، وظروف دولية داعمة للكيان الاسرائيلي  ، حالت دون انتصاره .

ومن أوجه الكارثة ، ان لا العرب ولا القيادة الفلسطينية ، أجروا مراجعة جذرية وجريئة  ، وكل المراجعات الجدية التي راكمها مفكرون عرب ، ظلت في ادراج المكاتب ، ومراكز البحث .

لا يتحمل الفلسطينون وحدهم نتائج المواجهة مع إسرائيل ، بل كل العرب .غير ان الفلسطينيين يتحملون المسئولية الرئيسيّة عما لحق بخطاب حركة التحرر من تشوهات  خطيرة ، ويتحملون مسئولية اكبر عن استمرار التمسك بالخطاب الهجين الذي ولدتك حقبة أوسلو .

لقد أدت أوسلو الى تجزئة القضية الفلسطينية ، و باتت ملفات فرعية ، والى تحويل  خصوصية كل تجمع فلسطيني ، الى عائق امام وحدة الشعب والقضية . وانقسم الجسم السياسي الفلسطيني ، وتفتت الرؤية ، وتبعثرت الأهداف ، واختزلت الطموحات ، وباتت أدنى بكثير مما قاتل من اجله الفدائي الفلسطيني .

ورغم كل ما قامت به إسرائيل، تحت مظلة ما يسمى بالعملية السلمية ، وتكشّف مشروعها الاستعماري ، لا تزال تتعامل السلطة الفلسطينية ، وأبواقها ، مع الوجود الاسرائيلي كإحتلال فقط ، وليس أستعمارا استيطانيا . ان الاحتلال له صفة المؤقت ، وتحت هذه الصفة ، تقوم إسرائيل بانهاء اي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة خالية من الاستيطان . بل هي انجزت هذه المهمه الاستعمارية الاستيطانية . والاخطر ، فإن قضية حق العودة ، جوهر القضية الفلسطينية ،  يجري تهميشه بمنهجية .
  وبما ، ان الوعي شرط يسبق الاستعداد للنضال  ، وكل معركة تستلزم حشدا وتعبئة حول الهدف ، فلا بد من توفير هذا الوعي . الوعي بأن الوجود الصهيوني في الضفة والقدس والقطاع ، هو وجود  استعماري غير شرعي ، وان هذا الوجود هو امتداد للوجود الاستعماري في الجليل والمثلث والنقب والساحل الفلسطيني . والمُركب الاخر في هذا الوعي المطلوب هو البعد التحرري لقضية فلسطين .

طبعا ، على خلفية الفشل المدوي لنهج  أوسلو  ، وسقوط الأوهام والاحلام ، وتفاقم المعاناة ، وتغول المستعمر ، وانفضاح عجز و  فساد السلطة ، انتقلت المبادرة الى الشارع ، وبرزت منه المبادرات الشعبية ، والشبابية ، والاكاديمية ، التي تنخرط منذ سنوات ، من القدس ، والضفة ومؤخرا قطاع غزة ، وداخل منطقة ال ٤٨ ، والى جانب ذلك حركة المقاطعة ، BDS التي تخوض معركة ثقافية وسياسية ضد نظام الابارتهايد الاسرايلي ، كل ذلك في اطار جهود  ونضالات شعبية  لتصويب المسار ، واسترداد الرواية ، واستعادة الخطاب التحرري .

 ان مسيرات العودة ، التي تتوالى منذ الثلاثين من آذار ، والتي ابتكر فكرتها الخلاقة الجيل الشاب ودعمتها والتحمت معها كل القوى والفصائل ، تندرج ضمن ، هذه الصيرورة المتحركة نحو استعادة البوصلة ، والعودة الى قلب القضية ، قضية عودة الشعب الفلسطيني ، الى وطنه ، وتحريره من نظام استعمار كولونيالي . ولهذا نقول ان الرواية ، لا تندثر ، وخطاب التحرر عصيّ على الهزيمة ، حتى لو لم تتوفر الشروط ، في مرحلة معينة ، لخوض مقاومة شاملة .

يبقى السؤال الكبير، امام منظمي مسيرات العودة : كيف تتقدم ، وماهي مقومات أستمرارها ، وبأي أشكال تستمر ؟  وكيف يتم التواصل والتشبيك مع القوى الحية في تجمعات الشعب الفلسطيني الاخرى ؟ و كيف يتم احباط محاولات فصل قضية  قطاع غزة عن القضية  السياسية ككل ، كيف نعمل حتى لا تذهب التضحيات سدى ، كيف نؤطر مسيرات العودة ، في اطار اي خطاب ؟  خطاب الهدنة ، خطاب الدولتين ، خطاب الدولة الفلسطينية المستقلة ، ام خطاب التحرر الوطني وحق تقرير النصير لكافة تجمعات الشعب الفلسطيني ، ام ندفع باتجاه حسم الامر ، باتجاه الدولة الفلسطينية الديمقراطية في  فلسطين التاريخية .
  ان هذا الخيار الاستراتيجي الاخير ، بات يفرض نفسه ، على اجندة البحث، ليس فقط في الدوائر الأكاديمية ، الهامة ، بل ايضا بات جزءا من اهتمام طلائع الاجيال الجديده ، من مثقفين ، ونشطاء ، وقادة احزاب وفصائل سابقين . ان هذا الخيار ، يشكل  الخطاب التحرري الديمقراطي ، بنسخته الحديثة ، الذي من شانه تحقيق التفاف شبابي وشعبي ، ويوفر خطاب امل ، وحافز لتجديد الانخراط في السياسه والنضال .

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير