الهزيمة .. والخطاب العصيّ على الهزيمة
كتب: عوض عبد الفتاح : ان تنهزم أمة ، او شعب ، امام عدوها لأسباب متعددة ، امر يتكرر في التاريخ البشري . ولكن ما من أمة تقريبا ، ذات قضية عادلة ، خسرت امام ظالم ، الا وأعادت الكرة تلو الكرة ، لتصحح مسار التاريخ . نعم هناك امّم هُزمت وانقرضت في الماضي ، ولكن في العصر الحديث ، من الصعب تصور حصول هذا الامر . كان احد شروط نهوض الامم والشعوب مجددا ، هو الاحتفاظ بروايتها وبخطابها ، خطاب التحرر والمقاومة ، خطاب العدالة والحقوق . ولهذا يلجأ المستعمر ، بعد إنجاز غزواته الخارجية ، وتمركزه الفيزيائي في أراضي الشعوب التي غزاها ، الى إعادة
كتابة التاريخ ، لتحقيق هدفين : الاول ، تسويغ شرعية السطو ، ومنحها بعدا اخلاقيا لضمان ديمومة تأييد شعبه ، وتسويق نفسه كحامي الحضارة الغربية . والثاني ، تفكيك رواية السكان الأصليين ، واعادة هندسة وعيهم ، في اطار السيطرة والهيمنة ، لتذويت الهزيمة .
في حالة الشعب الفلسطيني ، لجأ الغازي الصهيوني الى حملة تزييف التاريخ ، قبل بدء غزوه لفلسطين ، وطورها مع كل تقدم حققه مشروعه على الارض . واسترخى ، منتشيا ، بعد نجاحه في اقامة كيان على ارض فلسطي عام ١٩٤٨ . وكانت تبنت حكومات الغرب روايته ووفرت كل أسباب الدعم ، الى جانب الدعم الكبير الذي تلقته من القيادة الستالينية للاتحاد السوفييتي . و نجحت اسرائيل في تسويق نفسها ، امام الشعوب الغربية ومعظم مجتمعاتها المدنيه ، كدولة شرعية ، ديمقراطية ، في “غابة الشرق الاستبدادي” . وكان هذا الدعم ، المادي والسياسي ، ونجاح خطابها الإعلامي ، من المحفزات الرئيسيّة لشن حرب على ثلاثة دول عربية في ٥ حزيران عام ٦٧ ١٩، والتي انتهت بهزيمة عربية نكراء ، تعاني من نتائجها الكارثية الأمة العربية ، وفِي القلب منها الشعب الفلسطينيه، حتى اليوم .
نعم لقد رفض جمال عبد الناصر ، الذي اعترف بمسئوليته عن الفشل في هزيمة العدوان الصهيوني . رفض الهزيمة ، وصمم على العمل على التصدي لنتائج العدوان منذ اليوم التالي . وتمت المحاولة لتصحيح هذه النتائج بغيابه ، بِعد موته ، حيث تمكنت القوات المصرية من تحقيق نصر تجلى بعبور قناة السويس وخط بارليف الحصين . ولكن هذا النصر لم يكتمل بسبب اقدام الرئيس السادات على التوصل الى تسوية تصفوية ، أدت الى اخراج مصر ، اهم دولة عربية ، من الصراع ضد الكيان الاسرائيلي . وكان هذا هدفا صهيونيا مركزيا ، وطموحا قديما .
كانت تلك التسوية ، بداية انحدار الخطاب التحرري في بنية الخطاب المصري الرسمي ، وباتت اسرائيل دولة جارة ، تستفرد بالشعب الفلسطيني وتذوقه الويلات .
كما كانت الحركة الوطنية الفلسطينية البازغة ، بقيادتها الشابة الحيوية و المستقلة ، رفضت نتائج الهزيمة ، وخاضت معركة الكرامة ضد عدوان إسرائيلي على الحدود الاردنية فأعادت لخطاب التحرير والمقاومة وهجه ، وقوة سحره ، والثقة بالمقاومة الشعبيه المسلحة ، مما دفع بالالاف من الشباب الفلسطيني ، ناهيك عن العديد من الشباب العربي ، وبعض ، الأجانب الى الالتحاق بصفوف المقاومه المسلحه التي كانت تتخذ من الاْردن ساحة لها حتى عام ١٩٧٢، يوم تم اخراجها بعد مذابح أيلول الأسود.
مرت مياه كثيرة في النهر ، بل دماء كثيرة ، منذ ذلك الزمن . وخاض شعب فلسطين ، معارك عسكرية ، ونضالات شعبية كثيرة ، وقدم تضحيات لا حدود لها ، غير ان عوامل ذاتية ، و عجزٍ عربي ، وظروف دولية داعمة للكيان الاسرائيلي ، حالت دون انتصاره .
ومن أوجه الكارثة ، ان لا العرب ولا القيادة الفلسطينية ، أجروا مراجعة جذرية وجريئة ، وكل المراجعات الجدية التي راكمها مفكرون عرب ، ظلت في ادراج المكاتب ، ومراكز البحث .
لا يتحمل الفلسطينون وحدهم نتائج المواجهة مع إسرائيل ، بل كل العرب .غير ان الفلسطينيين يتحملون المسئولية الرئيسيّة عما لحق بخطاب حركة التحرر من تشوهات خطيرة ، ويتحملون مسئولية اكبر عن استمرار التمسك بالخطاب الهجين الذي ولدتك حقبة أوسلو .
لقد أدت أوسلو الى تجزئة القضية الفلسطينية ، و باتت ملفات فرعية ، والى تحويل خصوصية كل تجمع فلسطيني ، الى عائق امام وحدة الشعب والقضية . وانقسم الجسم السياسي الفلسطيني ، وتفتت الرؤية ، وتبعثرت الأهداف ، واختزلت الطموحات ، وباتت أدنى بكثير مما قاتل من اجله الفدائي الفلسطيني .
ورغم كل ما قامت به إسرائيل، تحت مظلة ما يسمى بالعملية السلمية ، وتكشّف مشروعها الاستعماري ، لا تزال تتعامل السلطة الفلسطينية ، وأبواقها ، مع الوجود الاسرائيلي كإحتلال فقط ، وليس أستعمارا استيطانيا . ان الاحتلال له صفة المؤقت ، وتحت هذه الصفة ، تقوم إسرائيل بانهاء اي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة خالية من الاستيطان . بل هي انجزت هذه المهمه الاستعمارية الاستيطانية . والاخطر ، فإن قضية حق العودة ، جوهر القضية الفلسطينية ، يجري تهميشه بمنهجية .
وبما ، ان الوعي شرط يسبق الاستعداد للنضال ، وكل معركة تستلزم حشدا وتعبئة حول الهدف ، فلا بد من توفير هذا الوعي . الوعي بأن الوجود الصهيوني في الضفة والقدس والقطاع ، هو وجود استعماري غير شرعي ، وان هذا الوجود هو امتداد للوجود الاستعماري في الجليل والمثلث والنقب والساحل الفلسطيني . والمُركب الاخر في هذا الوعي المطلوب هو البعد التحرري لقضية فلسطين .
طبعا ، على خلفية الفشل المدوي لنهج أوسلو ، وسقوط الأوهام والاحلام ، وتفاقم المعاناة ، وتغول المستعمر ، وانفضاح عجز و فساد السلطة ، انتقلت المبادرة الى الشارع ، وبرزت منه المبادرات الشعبية ، والشبابية ، والاكاديمية ، التي تنخرط منذ سنوات ، من القدس ، والضفة ومؤخرا قطاع غزة ، وداخل منطقة ال ٤٨ ، والى جانب ذلك حركة المقاطعة ، BDS التي تخوض معركة ثقافية وسياسية ضد نظام الابارتهايد الاسرايلي ، كل ذلك في اطار جهود ونضالات شعبية لتصويب المسار ، واسترداد الرواية ، واستعادة الخطاب التحرري .
ان مسيرات العودة ، التي تتوالى منذ الثلاثين من آذار ، والتي ابتكر فكرتها الخلاقة الجيل الشاب ودعمتها والتحمت معها كل القوى والفصائل ، تندرج ضمن ، هذه الصيرورة المتحركة نحو استعادة البوصلة ، والعودة الى قلب القضية ، قضية عودة الشعب الفلسطيني ، الى وطنه ، وتحريره من نظام استعمار كولونيالي . ولهذا نقول ان الرواية ، لا تندثر ، وخطاب التحرر عصيّ على الهزيمة ، حتى لو لم تتوفر الشروط ، في مرحلة معينة ، لخوض مقاومة شاملة .
يبقى السؤال الكبير، امام منظمي مسيرات العودة : كيف تتقدم ، وماهي مقومات أستمرارها ، وبأي أشكال تستمر ؟ وكيف يتم التواصل والتشبيك مع القوى الحية في تجمعات الشعب الفلسطيني الاخرى ؟ و كيف يتم احباط محاولات فصل قضية قطاع غزة عن القضية السياسية ككل ، كيف نعمل حتى لا تذهب التضحيات سدى ، كيف نؤطر مسيرات العودة ، في اطار اي خطاب ؟ خطاب الهدنة ، خطاب الدولتين ، خطاب الدولة الفلسطينية المستقلة ، ام خطاب التحرر الوطني وحق تقرير النصير لكافة تجمعات الشعب الفلسطيني ، ام ندفع باتجاه حسم الامر ، باتجاه الدولة الفلسطينية الديمقراطية في فلسطين التاريخية .
ان هذا الخيار الاستراتيجي الاخير ، بات يفرض نفسه ، على اجندة البحث، ليس فقط في الدوائر الأكاديمية ، الهامة ، بل ايضا بات جزءا من اهتمام طلائع الاجيال الجديده ، من مثقفين ، ونشطاء ، وقادة احزاب وفصائل سابقين . ان هذا الخيار ، يشكل الخطاب التحرري الديمقراطي ، بنسخته الحديثة ، الذي من شانه تحقيق التفاف شبابي وشعبي ، ويوفر خطاب امل ، وحافز لتجديد الانخراط في السياسه والنضال .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء