كل الأيام تنتظر يوم الجمعة.. بقلم عناية جابر

01.07.2011 03:00 PM

الإثنين: إنتظرت أمام الكومبيوتر، على أمل كتابة فكرة جديدة. خيبة كاملة. الصبي ذو الذراعين المقطّعتين راقداً على ناصية الشارع، استعطفني بنظرة طويلة. لم أملك إلإ أن أضع في قدره النحاسي الصغير نقودي كلها لكي يصرف عنيّ، نظرته تلك. أكملت طريقي الى العمل، أبكي من فكرة أن الحرب مقبلة لا محالة، يائسة من محاولة إشغال خيالي في فكرة تدبّر مكان آمن للصبي ذي الذراعين المقطعتين.

الثلاثاء: إستيقظت في الرابعة صباحاً . إنتظرت ساعتين تلهيت فيها بأموري الصباحية، ثم خرجت الى رياضتي في شوارع بيروتية، أحفظها شارعاً شارعاً هي وكائناتها: ناسها المبكرين وكلابها المتنزهين، وقططها وطيورها حتى . أعرف سياراتها، ألوانها وماركاتها لابثة تحت العمارات التي لمّا يستيقظ ناسها بعد. الشمس قوية وجسمي كثمرة مشمش لكنيّ أتحمّل الأمر. المهم أن هذا الوقت لي وحدي، ولأصحابي الكلاب والقطط والطيور والسيارات. في المساء أصمد أمام التلفزيون، أرى ما يستجّد في سورية.

أحسّ بشيء من الألم، مبعثهُ جسدي الذي آذته الشمس أكثر مما يجب. المذيع على الشاشة لم يترك لي سانحة للإعتراض، فبعد أن أبلغنا أن مظاهرات قليلة العدد تحدث هنا وهناك، لكن ابداً في دمشق وحلب، غاب فوراً عن الشاشة، وقد أعفاني من الرّد عليه.

الأربعاء: قررت أن اترك نفسي على سجيتها، فقلت لزميلي في المكتب: إن فكرة وجود مؤامرة أمريكية وصهيونية خلف هذه الجموع الهادرة، لا تبدو لي مقنعة. يكفي ان نستمع اليهم. نستمع الى هتافاتهم ومطالبهم، بدل أن نجعلهم يخسرون أرواحهم، ثمناً لفكرة وهمية. خذ مثلاً- قلت لزميلي- هؤلاء الشباب في هذه التظاهرة الجارية الآن أمام أعيننا، تنادي بحرية سورية فتُقلق بشعارها راحة الكون. إذا لم يستمع الى هتافها من تتوّجه إليه بالهتاف، فسوف لن تتمكن أية قوة كونية، من وقف هذا الهدير الجميل.

الخميس: ما أن فتحت التلفزيون حتى اندلعت الهتافات وطافت بها غرفتي. جماهير صارخة في حمص وبانياس ولا أدري أين بعد. رأيت دبابات سورية تتجول في الحد الفاصل ما بين سورية وتركيا. هل يعقل هذا؟ كل هذه الخيم البيضاء على الطرف الآخر، كحمائم عملاقة ترقد على بيوضها. حمائم مطرودة من سمائها؟ كيف لي ان افاتح هذه الأسرة المهجّرة، بخجلي منها، الأب والأم الملتاعين، والأطفال كما لو في كبسولة في طريقها الى الفضاء. عليّ أن أنجو من هذه الأصوات المدمرة لأعصابي. يبدو أن الثغرة تتسع، في طريقها الى إغراق الجميع.

الجمعة: منطقة في الشمال الشرقي من سورية: القامشلي تطالب بإسقاط النظام. الشاشة التلفزيونية مقسّمة الى ثلاثة أقسام: بنغازي، صنعاء، القامشلي. أيضاّ مظاهرة في مدينة لم أسمع بها من قبل: 'بنش' بمحافظة أدلب. على يمين الشاشة صورة عن مظاهرات في ساحتيّ الستين والسبعين. على شمال الصورة، درعا أيضاً وأيضاً: 'درعا جمعة إسقاط الشرعية'. عظمت رغبتي بالمشاهدة. المذيع شكر شاهد عيان!هل اسمه شاهد عيان؟ كانت تاتيني مجموعات من الأفكار من أصناف تغلي غلياً، لكنني في بيتي في بيروت، وليس في فمي سوى كلمة شقية.

السبت: خطة أوباما للإنسحاب من افغانستان أكثر جرأة مما قدّمه مستشاروه. جملة طويلة مكتوبة على الشريط أسفل الشاشة. فتحت النافذة ونلت كفايتي من الهواء النقيّ. قلة الهواء الذي مشكلة عامة يحتاج حلها الشعب العربي كلّه. إننا نختنق جميعاً. جملتي هذه ضاعت وسط صرخات الاحتجاج الشعبية لمظاهرة الميادين في دير الزور. تحسّنت معدتي قليلاً. إرتفع رصيدي من الكآبة الهادئة بعد مقتل احد المتظاهرين الشباب في حمص. لماذا أشعر أنهم لم ينتظروا أمس، انتهاء فروض صلاة الجمعة، إختصروها وخرجوا كثيرين جداً الى الشوارع.

الأحد: فتحت الكومبيوتر وقرأت التعليقات على الفايسبوك، ثم انطلقت متأخرة ساعة عن موعد زيارتي الأسبوعية لأمي. لحسن الحظ أن اتجاهي بموازاة البحر يتيح لي إدارة مقود السيارة جهة الماء تماماً إذا تفاقم هذا القهر. البحر نائم مازال، سطحه يترّنح برفق.

هذه هي المرة الأولى التي أنتبه فيها الى نومه. لطالما ظننته صاحياً أبداً . أمي لا تعجبها متابعتي أمور الثورات، وهي نصحتني بتغيير القناة الفجائعية ـ على ما أسمتها ـ الى اخرى تعرض برامج ومسلسلات تركية، مدبلجة الى السورية. 'بتسلّي'، قالت لي.

إتقان عدّ الأيام، وتسميتها. الأذن المنتبهة لمعنى نهار الجمعة، والحضور العصبّي الخفّي لويلاته وقتلاه، يُكثفون شعوري بذاتي، يجعلونني كتلة من الحضور المتوهج، ويؤكدون لي أنيّ احيا فعلاً أوقات ما قبل السباحة في الفضاء. هذا الحضور الكلّي للذات، يتحول الى قنبلة مرعبة، حين يصطدم بخيانة ما، يأتي بها نهار السبت أو نهار الأحد أو أيّ من سائر الأيام في المدّ والجزر بينها وبين نهار الجمعة. الحرية، وحدانية نهائية بالنسبة لي، بحيث تبدو أنها آخر عمل أنتظره أو أقوم به، ليس بمعنى أنني لن أصاب بخيبة بعد، ولكن بسبب أن هذا التجمهر للذات، لن يتكرر في أيّ زمن آخر.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير