خالد بطراوي يكتب لوطن "هلوسات وطن" .. الحجة فلة

25.06.2018 08:38 AM

كما عادتها، وبهدوء تام رحلت الحجة فلة في الثاني والعشرين من حزيران لعام 2018 في ألمانيا، بعد حياة حافلة بالعطاء من أجل القضية الفلسطينية ومن أجل السلام والتحرر والسلم العالمي، مناضلة أممية بإمتياز ومدافعة عن آلاف المعتقلين الفلسطيني في السجون الاسرائيلية .. أيضا بإمتياز.

الحجة فلة ، هو لقب أطلقه المعتقلون الفلسطينيون على المحامية اليهودية التقدمية فيليتسيا لانغر تلك التي قضت زهرة شبابها في الدفاع عن هذا الكم الهائل من المعتقلين الفلسطينيين منذ بدء الاحتلال الاسرائيلي عام 1967.
لكل منا ذكرياته مع الحجة فلة، أما أنا فإني أذكرها عندما كنت صغيرا في السابعة من عمري، قليلا بعد حرب عام 1967 عندما دخلت الى بيتنا أول مرة وكان قبلها والدي قد أبلغنا بأن محامية يهودية تقدمية سوف تحضر الى المنزل، واذكر أنه عند حضورها التقت في منزلنا بوالدي وfجريس قواس "أبو القاسم" وضمين حسين "أبو القاهر" وأحمد معروف " أبو معروف" و " محمد قطامش" رحمهم الله جميعا.

دلفوا جميعا الى "غرفة الضيوف" ودار إجتماع بينهم لم نعلم عنه الكثير وكنا نحن الصغار نراقب فناء الدار وكيف لا والمنزل قبالة مقر الحكم العسكري "المركز" الذي أصبح الأن في مدينة البيرة يعرف بإسم " المقاطعة" وحيث سجن رام الله المركزي آنذاك.

أذكرها فيما بعد، عندما حضرت مرارا وتكرارا وعندما بدأ الاعلام يتحدث عن هذه المحامية اليهويدة المتّقدة التي تقوم بفضح الاحتلال، وأذكر أننا ذهبنا ذات يوم الى قطاع غزة مع والدي ووالدتي عندما ذاع صيت " جيفارا غزة ورفاقه" في مقاومة الاحتلال بالعمل المسلح حيث عقد لقاء في منزل خالي سمير هاشم البرقوني وحضره حيدر عبد الشافي وفضل البورنو وسعيد فلفل ومحمد أبو شعبان ومحمود نصر ,ورشاد مسمار وعبد الهادي الحايك الذي تبين لنا فيما بعد أنه من ضمن مجموعة جيفارا غزة وإستشهدوا معا، رحمهم الله جميعا.

كنا صغارا، وكان كل ذلك يجري ولم نكن نعلم أن هذه الاجتماعات وتلك الرحلات المكوكية الى غزة لم تكن فقط لزيارة الأهل وألقارب والأصدقاء وإنما غطاءا للتواصل الوطني المقاوم ما بين الضفة الغربية وقطاع عزة ومتابعة أخبار المعتقلين الفلسطينين في السجون الاسرائيلية وقضاياهم.

الى أن جاء ذلك اليوم عندما تم إعتقال خالي سمير البرقوني "أبو هاشم" وأعلنت الصحافة الاسرائيلية عن إعتقال أحد قادة قطاع غزة. حضرت الحجة فلة الى منزلنا مرعوبة وطلبت من والدتي "عايده" رحمها الله أن توقع لها على توكيل لتكون محامية خالي. وبدأت بالبحث عنه في السجون الاسرائيلية دون جدوى حتى ساورنا الخوف على حياته لتكتشف الحجة فلة بعد فترة ليست بالقصيرة أن خالي ورفاق له وغيرهم محنجزون في سجن سري هو " السجن الحربي" تماما كما سجون النظام المصري خمسينات القرن المنصرم، ويقع هذه السجن في محيط مدينة الرملة.
وأذكر وقتها أن مهمة البحث عن هذا السجن قد أنيطت بالرفيق "أبو نجم" ( رحمه الله) من الرملة الذي أخذ على عاتقه "مسح" محيط مدينة  الرملة بالكامل وحتى أبعد من حدودها بحثا عن هذا السجن وقد تم العثور على موقعه من قبل كادر رفاقنا في الحزب الشيوعي الاسرائيلي وجرى تجنيد حملة  إعلامية واسعة لفضح هذا السجن السري من خلال صحيفة الاتحاد الحيفاوية ومجلة "هعولام هزية " ومجلة " الغد" حيث تمكنت في النهاية أن تزور الحجة فلة المعتقلين داخل هذا السجن ونقلت رسائل مطمئنة عنهم بأنهم ما زالوا على قيد الحياة.

أذكر أنها أبلغت والدي بنيتها إصدار كتاب يتحدث عن تجربتها في متابعة أمور المعتقلين وعائلاتهم وهي من أصرت على أن يحمل إسم " بأم عيني" حيث سردت من خلاله وقائع معاناة المعتقلين وعائلاتهم وأذكر أن الرائع الياس نصر الله من شفا عمرو مؤسس مكتبة ودار نشر صلاح الدين بالقدس قد نشط في توزيع الكتاب وكان ذلك عام 1974.
عام 1979 أذكره جيدا حيث نشرت صحيفة " الصاندي تايمز" تقريرا مفصلا ومسهبا حول " التعذيب في السجون الاسرائيلية" كان له ضجيجا عالميا واسعا وأذكر أن التحضيرات لهذا التقرير قد بدأت في العام 1978 وأذكر كيف كانت معدة التقرير قد عملت بكل جهد ممكن وسعت لدقة المعلومات والتي إستقتها بالأساس من الحجة فلة.

كانت الحجة فلة محاميتي عام 1985 ودافعت عني بشراسة أثناء جلسات المحكمة ودافع معها المحامي المتدرب آنذاك الأستاذ جواد بولص ( اطال الله في عمره) الى أن تم إطلاق سراحي. أذكر كيف صرخت في وجه القاضي وقالت له باللغة العبرية ( وكان هناك مترجما للغة العربية) " لقد أحدثتم شلالا بيد هذا المهندس الشاب جراء التعذيب حيث لا يشعر بيده التي يرسم بها المخططات" ولما لم يصدقها القاضي  وكان يدخن سيجارا أمسكت بالسيجار ولسعت به يدي المكبلة بالقيد فلم أشعر بها عندها إقتنع القاضي وأمر بإيقاع الكشف الطبي وفك القيد.

كانت محامية شرسة تبذل كل ما تستطيع من أجل أطلاق سراح المعتقلين، تستخدم كل الدفوع القانونية، تصيح رغم هدوءها، تتهجم مشككة بإنسانية القاضي والمحقق والحارس.
ذات يوم وعندما كانت في الثالثة والثمانين من عمرها تواصلت معي المحامية نائلة عطية ( أسبغ الله عليها بالشفاء) طالبة أن نثير موضوع منحها أعلى الأوسمة الفلسطينية في عيد ميلادها في العاشر من كانون الأول، فقلت لها  بأنني سوف أسعى.
في بيت للعزاء جلس الى جانبي الدكتور زياد أبو عمرو الذي تحمس للفكرة وأبلغني أنه سيحملها الى الرئيس الفلسطيني، وبعد اقل من ساعة هاتفني الدكتور زياد ليعلمنى أنه  ما أن ذكر ذلك للأخ أبو مازن حتى أمر على الفور بمنحها نوط القدس وأنه إذا تمكن شخصيا فسوف يقلدها الوسام في المانيا بنفسه، وكان أن تم تقليدها الوسام من قبل سفير فلسطين في ألمانيا خوفا من أن يمر موعد عيد ميلادها دون تمكن الأخ أبو مازن من تقليدها الوسام بنفسه ولا تتصورا كم كانت فرحتها.
لك أيتها الحجة فلة .. فيليتسيا لانغر ... نقول ليس فقط عبارات الحقيقة والشكر والامتنان والعرفان، بل نقف بانضباط تام لنؤدي لك تحيتنا العسكرية والانسانية، فلترقد روحك بطمأنينة ولتعش ذكراك دوما ولتتناقل الأجيال سيرة حياتك يا من كنت أقرب الينا جميعا من حبل الوريد وستبقى ذكراك العطرة ملهمة لنا جميعا.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير