باسل غطاس من داخل الأسر: تعلموا العربية يا ناس

05.08.2018 07:59 PM

كتب: باسل غطاس

اتضح لي بما لا يقبل الشكّ، أن كتابة العربية، تحوّلت إلى مهمة شبه مستحيلة عند الغالبية العظمى من الناس. لقد أصبح فعل الكتابة نفسه مغَيَّبا عند الجميع، وأعتقد أن المصيبة أكبر عند الأجيال الشابة. إن الأمر ليس بسيطا بالمرة، إنها كارثة حقيقية. لم أكتشف هذا الأمر فجأة هنا في السجن، فقد كان الأمر معروفًا لدي ولدى الكثيرين، ولكن اكتشفت هنا حقيقةَ هَول وحجم المصيبة، وقد بدأت أفكر بالموضوع بسبب قلة الرسائل التي تصلني حتى من أقرب الناس، الذين من المفترض أن يكتبوا لي ولو مرة واحدة، ولو صفحة واحدة، خلال كل فترة وجودي في السجن، ولكن هذا لم يحدث للأسف. بعد التحقق من الموضوع، والنظر مليا في الأسباب الحقيقية، تيقّنتُ أن السبب هو هذا العائق الكبير الآخذ بالتعاظم مع الوقت، وهو ذلك الحاجز العتيّ الذي يفصل بين الناطقين بالعربية وبين القدرة على كتابتها.

نبدأ بتلك الغُربة المتصاعدة بين الناس وبين القلم، واستخدامه للكتابة في عصر "واتسآب" و"فيسبوك"، والتلاشي الكليّ لثقافة كتابة الرسائل، وننتهي بمشكلة الخط الذي أصبح وباءً لا دواء له، لكن المشكلة الأساسية، هي في الضعف والوهن في القدرة عن التعبير عن النفس من خلال الكتابة السليمة للُّغة العربية، ولهذه المشكلة جانبان؛ القدرة الإنشائية التعبيرية والقدرة على الكتابة الإملائية السليمة التي تُشكِّل عائقا أكبر، إذ إن عددا من أصحاب القُدرة التعبيرية يخشون ويتمهّلون في الكتابة خوفا من الوقوع في الأخطاء الإملائية والعربية، والحمد لله، فيها الكثير من المطبات التي تردع الكثيرين على الكتابة ابتداءً من تعقيدات الهمزة وانتهاءً بالكتابة السليمة بناءً على المحل من الإعراب.

السؤال طبعا، لماذا هذا التردي المتعاظم في إتقان استعمال العربية من قبل أصحابها والناطقين بها؟ للإجابة على هذا السؤال علينا الخوض في دراسة اجتماعية/ سياسية وحضارية واقتصادية، وحتى أنثروبولوجية للمجتمعات العربية ووجود العامية بمثابة لغةٍ لأمٍ ثانية واللهجات المختلفة، إضافةً لأثر العولمة وتعاظُم نفوذ اللغة الإنجليزية، وطبعا في حالتنا كعرب في الداخل، وجود اللغة العبرية كلغة الأكثرية المهيمنة وضرورة تعلمها بمستوى لغة الأم.

لكن المشكلة لا تكمن في الأسباب والعوامل، فهذه مهما تعدّدت وتغيّرت مع الوقت تُواجهنا كما تواجه الكثير من الشعوب والمجتمعات على وجه الأرض. المشكلة في ما نعمله أو لا نعمله لمواجهة ذلك. وضع تعليم اللغة العربية في مدارسنا في حالة تدهور تُنذر بكارثة.

معظم الطلاب العرب في المدارس الثانوية، يدرسون العربية بمستوى ثلاث وحدات، وهو المستوى الأدنى المطلوب لامتحانات "البجروت" النهائية. هذا يعني أن الطالب يتعلم ثلاث ساعات لغة عربية أسبوعيا فقط، في حين كان جيلنا يتعلم في سنوات السبعينيات 5 ساعات وأحيانا 6 ساعات أسبوعية. عدد قليل من المدارس تهتم وتعمل على تقديم طلابها بمستوى 4 أو 5 وحدات، وهنا يأتي دور وزارة المعارف وسياستها الرسمية التي لا تشجع الطالب على تعلم اللغة العربية بمستوى 5 وحدات، بحيث لا يمنحه ذلك أي جائزة أو محفزًا إضافيا مثلما هو الحال لو تقدم لـ5 وحدات في مواضيع أخرى.

أي تراجع معيب ومخيف هذا؟ هل يعقل أن يتعامل شعب ومجتمع مع لغته بهذا القدر من الاستهانة والاستخفاف؟ أفكر أحيانا ماذا سيكون مصير اللغة العربية لو لم تكن لغة القرآن الكريم؟ ربما كانت قد اندثرت كليا أمام سطوة اللغة العامية واللهجات المختلفة.

نعم لدي خيبة أمل كبيرة من أقرب الناس الذين لا يكتبون، وهم لا يعرفون قيمة الرسالة وأهميتها للأسير المنقطع عن التواصل مع العالم الخارجي، إلا من خلال الرسائل، وهم لا يعرفون أنني كنت سأفرح برسائلهم حتى لو كتبوها بالعامية وأنني كنت سأغض النظر عن أية أخطاء لغوية أو إملائية لو وجدت. كنت أفكر ذلك خلال سيري اليومي في الساحة (الفورة) وتذكرت أن الآية الأولى التي نزلت على النبي العربي تبدأ بـ"اقرأ" (سورة العلق). فعلُ الأمر العظيم هذا يدوي في كياننا الوجداني والديني والثقافي والحضاري منذ 14 قرنا، وهو فعل القراءة الذي يسبقه فعل الكتابة والآية نفسها تذكر بكل وضوح بالقلم: "اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم".

فهل تحولنا إلى أمة "اقرأ" ناهيك عن أمة "أكتب" بسبب ورود هذا النص المقدس والمكوِّن الذي نردده بشكل يومي تقريبا؟ من الواضح أننا لسنا كذلك، فنحن مع الأسف وبحسب إحصائيات اليونيسكو، من أقل الشعوب قراءة وكتابة، ومع كل هذا فإن خيبة الأمل والاستسلام ليست خيارا أمام أي شعب يتعرض لمثل هذا التحدي الحضاري.

لا بأس من التذكير بالنصوص المُقدّسة لقرع جدران الخزان ولإطلاق نذير الخطر. فبالإضافة لآية اقرأ، هناك الكثير من الآيات التي ذكرت الكتاب والقلم، مثل سورة القلم مثلا التي تبدأ بالقسم "نون والقلم وما يسطرون"، ولكن هذا هو القليل من الكثير الذي يجب أن نفعله من مجهودات ضخمة لتقوية مكانة العربية وتعزيز وإشاعة استعمالها الصحيح والمُتقَن من قبل الناطقين بها.

بعد كل ما تقدم، هل أجد العذر لأصدقائي ورفاقي على عدم "تجشم" عناء كتابة رسالة، أو حتّى قصيدة، وإرسالها لي بالبريد الجوي؟ وهل أستميحكم العذرَ على توريطهم بالعودة إلى المُتمسّك حتى الآن بـ"تقنية بائدة وقديمة"،  كإحضار ورقة وقلم ثم كتابة بعض الأسطر وبعدها البحث عن مغلف وإدخال الورقة فيه، وبعدها وضع طابع بريد وكتابة العنوان (في أسفل الصفحة)* ومن ثم إرسالها بالبريد؟ حقيقة لو عرفوا أهمية الرسالة للأسير لكانوا فعلوا، وأنا من طرفي أعد بألّا " أدُق" (بلغة الأسرى) على الإملاء والخط.

* باسل غطاس – سجن هاداريم قسم 3- ص.ب. 7 – ايفين يهودا – 40500

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير