الهابيتوس العربي

17.09.2018 04:44 PM

كتب: محمود زيدان

يعيش العالم العربي واقع لا يرضي غالبية ساكنيه لكونه معيق للتغيير ولا يخلق منظومة استجابة لتحديات الراهنة امامه، وقد يعزى ذلك الى أن العقل العربي ما زال تقليدياً بالمضمون، يعيش داخل قوالب ثقافية لا يستطيع التجرد منها بحيث أصبحت تشكل ارثه الثقافي المجتمعي ومنظومة السلوك لديه، وأن محاولة الخروج منها هي محاولة الخروج عن المألوف، وأصبحت هذه القوالب قيم تشكل إطار جمعي داخل المجتمعات تتفاعل مع بعضها البعض بشكل تكاملي وتفاعلي تتحكم بشكل كبير في أنماط السلوك وفكر الفرد داخل المنظومة المجتمعية منتجة ذهنيات عامة داخل البنية المجتمعية تخلق عنف ثقافي وبنيوي يصبح في إطار قانوني مشرعن ممارسته داخل المجتمع، حيث يمكن لنا أن نطلق عليها العقليات المنتجة لأنماط السلوك أو النظام القيمي داخل المجتمع أو ما يسمى ( الهابيتوس ).

وبالنظر الى المجتمعات العربية التي لم تأخذ نصيبها من التطور حتى اليوم فهي ما زالت تعتنق القيم التي شكلتها وتتمسك بها وتعتبرها دستورا لا يجوز تجاوزه.

تناقش هذه المقالة مفهوم الهابيتوس العربي بشكل عام وتقدم قراءة في ملامحها وإشكالاتها بالتركيز على قراءات وتفسيرات بورديو والدكتور غسان خالد، والتطرق على اليه عمله، وكيف يتم من خلاله انتاج مجموعة المفاهيم والقيم المختلفة في المجتمع وما هي مصادره التي يستند عليها، ثم ما هي عواقب مثل هذه المفاهيم على مجتمعاتنا.

يعتبر بورديو أن الهابيتوس هو عبارة عن بنية تقوم بتنظيم أشكال من الممارسات والتمثيلات وتعميمها، وهو نتاج الظروف الحياتية النابعة من مواقع الغير وظروفه الخاصة، وبشكل عام يمكننا القول إن الهابيتوس هو نظام من الاستعدادات الجاهزة والدائمة التي يمكن نقلها من جيل إلى جيل من خلال عمليات التنشئة التي تبدأ بالأسرة والمدرسة، حيث يتناولها الفرد بجرعات دائمة حتى تترسخ وتصبح جزء

من سلوكه وحياته اليومية والعملية، وهذا كله ساعد على انتاج مجموعة من القيم المختلفة المجالات: اجتماعية ، اقتصادية، سياسية، ثقافية، تربوية، وبالتالي عملت على إنتاج اطار معرفي يتعلق بشكل مباشر مع هذه القيم، وساعدت في تشكيل بنى مفاهيمية مرتبطة بالممارسات السلوكية بمسالة القيم، كالجاه، الهيمنة الذكورية، الشرف، والعصبية، وغيرها من البني المفاهيمية (القائمة)المبنية على القيم التقليدية.

من خلال هذا المفهوم يمكننا إسقاط مفهوم الهابيتوس وتجلياته على الواقع العربي عبر البنى الذهنية التي ترتكز على الأسرة العائلة – المجتمع – الدين، وكما ذكرنا في السابق أن العقل العربي ما زال تقليدياً وبالتالي لا تزال أشكال ومصادر الوعي أيضا تقليدية، وإن كان العقل ومصادر الوعي تقليدية، فإن الخيال سوف يكون تقليدياً، ان هذه التقليدية متجذرة وهي متشكلة بفعل هذه القيم، التي تتمثل في اشكال تتمظهر في الجاه، الوجاهة، العصبية، الذكورية.

ومن هنا يمكننا القول إن الهابيوتس خلق منظومة قيم أدت الى تشكيل قوالب ذهنية جاهرة مرتبطة بالممارسات السلوكية داخل المجتمعات العربية.

تكمن الإشكالية التي تناقشها هذه المقالة في أن العقليات( الهابيتوسات ) تعمل على تشكيل منظومة بنى ذهنية شكلت وانتجت عبر الزمن مجموعة قيم ومفاهيم نتجت من اللاوعي ومن غير ارادة حرة وواعية ، هذه المفاهيم كالجاه ، الهيمنة الذكورية، الفلاحين ، الأعراب وغيرها من المفاهيم التقليدية التي تختزل افتراضات عن الاخر، و تختصر واقعا قائما تمثل الهيمنة فيه موضوعاً أساسياً سواء شئنا أم أبينا ، وقد تكون سببا في تخبط مجتمعاتنا في الجهل والرجوع الى الوراء ،فالمجتمعات باختلافها تمر بتغيرات مختلفة ويطرأ على ذلك تحولات كبرى في الايدولوجيا والأفكار والقيم ينتج عن ذلك حدوث نقلة في المجال الفكري تغير مسيرة المجتمعات كاملة ، لكننا نرى تقديسا لبعض المفاهيم في مجتمعاتنا العربية حيث لا يتم التجاوز عنها ، ولا التفكير بتغييرها انما يتم تأبيدها وتصبح راسخة في العقول .

من هنا طرح الاسئلة التالية والتي سوف تجيب عليها المقالة: كيف يضحي الهابيتوس ناطقا رسميا باسم شعوب وجماعات، والى أي مدى تسيطر هذه القيم على الفكر الفردي والجمعي داخل المنظومة العربية؟ وما عواقب مثل هذه القيم على مجتمعاتنا؟

سوف أحاول الإجابة على هذه الأسئلة من خلال الوقوف على مصادر هذه القيم وما هي تداعيات تبنيها على الجانب التقليدي.

يتضح لنا من تعريف بورديو أن مصادر الهابيتوس التي يرتكز عليها مستمدة من تجاربنا في حياتنا اليومية والعملية وهو نتاجا لها، وان دراسة اياً من القيم المجتمعية عند تشكلها تضعنا أمام مثلث القيم وهو: الثقافة، المجتمع، التاريخ. ومن هنا فاننا نرى ان هناك مصادر أساسية للقيم تشمل العائلة والدين، بالإضافة الى القيم المستمدة من انماط المعاش والنظام العام السائد في المجتمع، وهنا سوف يتم التطرق إلى العائلة والدين:

1- العائلة: يفسر الدكتور غسان الخالد في كتابه الهايبوتس العربي- قراءة سوسيو معرفي في القيم والمفاهيم أن العائلة عبارة عن نواة التنظيم الاجتماعي وتتمحور بها وحولها حياة الناس بصرف النظر عن انتماءاتهم وطرق حياتهم واساليبها . وهي الوسيط بين الفرد والمجتمع وهي المؤسسة التي يتوارث فيها الأفراد كل انتماءاتهم الدينية والاجتماعية وحتى الثقافية والسياسية.

إن الولاء العائلي ابتداء بالأسرة وانتهاءا بالعشيرة يتقدم على الانتماءات الأخرى، ويمثل المرتبة الاولى بين كل الانتماءات، ويعتبر حليم بركات ان وظائف العائلة تتركز في وظيفة اساسية هي التنشئة الاجتماعية حيث من المعروف ان العائلة هي المؤسسة الاولى التي تقوم بتنشئة الأجيال واعدادها للتكيف في الحياة الاجتماعية المقبلة عليها والعمل في المجتمع عن طريق تعليم هذه الأجيال ثقافة المجتمع خاصة القيم والمبادئ والعادات واعداد شخصية الفرد وعقليته من هنا تبدو العائلة الاطار الأهم الذي يتم فيه بناء الشخصية، حيث تعتبر نتائج هذه التنشئة التقليدية للأفراد في الاسرة الشعور بارتباط كرامة الفرد في الاسرة بكرامة الاسرة وهو ما انتج بعض القيم التي لا تزال شائعة في بعض الشرائح الاجتماعية كالأخذ بالثأر فالولاء للأسرة أولا.

2- الدين : وضح معتوق فردريك في كتابه الهابتوس العربي العنيد والعتيد، ان الدين هو المحطة الأساسية الثانية لتكون الهابيتوس ،ويعتبر الدين مؤسسة من المؤسسات الاجتماعية الموجودة في الجماعات كالعائلات وهو يمثل ثقافة كاملة لشعب ما أو أمة ما بما فيه نصون وتعليم وقيم ،انه كيان مجسد اجتماعيا ومبلور بالممارسة . وعندما نعتبر أن الدين ثقافة كاملة فلأن للدين طابعا شموليا انه يتسم بالشمولية من خلال مجموعة العقائد التي يتبناها ومن خلال التصور الذي يقدمه لبناء الاجتماع الانساني بكل ابعاده وتفاصيله وهو يرسم للمنتميين اليه حدود المسموح والممنوع

،المحجوب والمرغوب مما ادى الى تحول التعاليم الدينية الى قواعد صارمة للفكر والسلوك وأفكار راسخة لا تقبل المراجعة في جانبها اللاهوتي أو الفقهي.

يفرض الدين على التابعين له أو على المنتمين اليه أو على المؤمنين به سلسلة من المعتقدات تلعب دور الموجه بالنسبة الى الفرد في تصرفاته الاجتماعية منطلقا من فرضيات مسبقة متعلقة بالايمان ليصل الى فرد وتبني التابعين له سلسلة من الفرائض التي تقيد مسلكه الاجتماعي.

مظاهر تبني القيم التقليدية على المجتمع:

بين الكاتب رشيد جرموني، في كتابة سيسيولوجيا التحولات القيمية في عالم اليوم، أن الصراع الجاري اليوم في العالم، قد تجاوز ما هو مادي واقتصادي وعسكري وتقني إلى ما هو قيمي ومعرفي بالدرجة الأولى، وقد سبق العديد من الباحثين والمهتمين في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية أن أكدوا أن مستقبل الصراع في العالم سيكون في منظومات القيم.

يمكن القول هنا، أن منظومة القيم تشكل كل سلوك إنساني خارج من افتراض مسبق، ونشأة هذا الافتراض من القيم المستوحاة من المجتمع، فلو فرضنا أن المجتمع ضد فئة معينة فسوف تكون كافة هذه الافتراضات داخل المجتمع ضد هذه الفئة، على سبيل المثال فئة أصحاب الإعاقة داخل المجتمع، هناك العديد من الأسر قد تخفي حقيقة وجود فرد معاق داخل أسرتها، لأن المجتمع خلق قيم تلحق الوصمة لهذا الشخص والعائلة (لي عندو معاق يخبيه).

ولأن المجتمعات العربية تتصف مجتمعات بالشمولية تأمن بالقدرات الجماعية ولا تنظر إلى القدرات الفردية التي هي أساس المجتمع، يصبح هنا الافتراضات ذو قيمة ملموسة وتكون جزء من عقلية الإنسان. وتخلق حالة من العنف الثقافي الذي يشرعن كل ما نعمله، مثل تحريم الميراث والقتل على خلفية الشرف والهيمنة الذكورية في المجتمع.

فيما يلي سوف نبين بعض مظاهر تبني القيم التقليدية على المنظومة المجتمعية وما هي تداعياتها داخل هذه المنظومة:

* تعتبر العائلة المدرسة الأولى في بناء شخصية الفرد، وبلورة سلوكه، وتبني العائلة في تنشئتها الاجتماعية للقيم التقليدية المتمثلة في ارتباط كرامة الفرد في كرامة الأسرة، ما هو إلا مؤشر يضع الفرد داخل قالب اجتماعي لا يستطيع الخروج منه الا بصعوبة، إذ أن الفرد هنا هو عضو داخل العائلة وليس عضوا مستقلا، بمعنى أن شخصيته وسلوكه لا تتحقق إلا في إطار العائلة، وأن أي قرار مستقل خارج اطار العائلة ما هو الا الخروج عن العائلة، وأن هذه القيم بمثابة النزوع نحو التشدد على العضوية، وخير مثال على ذلك قضايا الثأر التي تجسد قيمة الولاء للأسرة أولا، وأيضا من الأمثلة التي تجسد مفهوم النزوع والتشدد للعائلة، ما نشاهده في فترة الانتخابات حيث يفرض على كل فرد من افراد العائلة أن يساند ويصوت لممثل العائلة بعض النظر عن الكفاءات أو الخبرات، أو كونه مصدر لتغير الإيجابي داخل المنظومة المنتخب إليها، وهذا ما نراه في الامثال الشعبية" انا وخيي على ابن عمي وانا وابن عمي على الغريب". فهي أصبحت طقوس داخل المجتمع تعمل على تفكك المجتمع بطريقة لا يدركها أفراده ، وتعمل على خلق بيئة تعزز من الاثار السلبية على المستوى المجتمعي، التي تعمل على خلق نظم استجابة مغايرة لقيم وطنية جامعة تساعد في تحقيق أهداف المجتمع ككل، سواء من ناحية الرفاهية الاجتماعية أو الاقتصادية.

* إن القيمة المجتمعية التي حددت مكانة كل من الرجل والمرأة في دورهما في المجتمع والعائلة من خلال تقديم نموذج لتقسيم العمل الاجتماعي المتعلق بمنظومة الأنتاج، حيث فرضت على المرأة ايديولوجيه تقوم على التمييز وعدم المساواة بين الجنسين، حيث فرضت على المرأة إما أن تكون ولودة وزوجه مطيعة تقتصر حياتها على خدمة زوجها وتربية أبنائها، وإما جسداً انثويا وأداة للإغراء، وهذا الدعاء جعل المرأة أدنى من الرجل وشرعن وصاية الرجل على المرأة، وهذا كله يفسر الواقع العربي في الهيمنة الذكورية على شؤون الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية حتى الثقافية. ، فالتنشئة هنا جعلت المرأة تعيش داخل قوالب اجتماعية تحرمها من المساواة والعدل بينها وبين الرجل، وهذا بطبيعة الحال يؤثر على إنتاجية المرأة داخل الأسرة وداخل

المجتمع، إذ انها تشعر بالظلم وتحاول أن تسقط الظلم على نفسها وعلى البيئة المحيطة لها بقبولها بالقيم التقليدية التي تجعلها إنسانة ضعيفة داخل مجتمعها.

* تساعد القيم التقليدية في شرعنة ما هو حرام وما هو غير مباح، وهذا ما نجده في حالة مجتمعاتنا العربية، إذ تعتبر مجتمعاتنا العربية مجتمعات ذكورية تظلم المرأة وتسقط عليها السبب في بعض الأزمات والمصائب خصوصا العائلية، حيث شرعنة هذه القيم المستوحاة من العادات والتقاليد إذلال المرأة وشعورها بدونية داخل مجتمعها، وتبرير هذه القيمة لأي قضية حسب مرادها وحسب البيئة المجتمعية الحاضنة، وخير مثال على ذلك المثل الشعبي القائل " الرجل لا يعيبه شيء"، يفسر هذه المثل الشعبي الشهير أن الأخلاق خلقت فقط للأنثى خوفاُ من كلام الناس وخوفا من العار، وهذا شرعن ظاهرة القتل على خلفية الشرف، إذ نجد في مجتمعاتنا العربية تفشي هذه الظاهرة إذ يتم قتل المرأة بدم بارد بخليفة ما يسمى الشرف، أو أنها مصدر للخلافات العائلية " فورة دم " ، ففي المجتمع الفلسطيني قد تم قتل 27 حالة معلن عليها- ناهيك عن الحالات التي تم التستر عليها -تحت ما يسمى القتل على خلفية الشرف أو القتل لأنهاء الخلافات العائلية، فعملية قتل المرأة أصبحت مشرعنه كونها عنصر ضعيف داخل المجتمع وكون القتل مربوط بالعاطفة لدى الرجل، وهذا ما شرعنته العادات والقيم التقليدية داخل المجتمعات في عدم وجود قانون يحرم هذه الجريمة، إذ أن القانون الفلسطيني المطبق لا يعاقب على مثل هذه الجريمة بأكثر من 6 شهور.

* الانسياق لحكر الاعمال المنزلية على الأنثى، من المظاهر السلبية التي تقودها القيم التقليدية داخل المجتمعات والأسر، إلا وهي انسياق المرأة للثقافية التقليدية التي تحكم عليها الاعمال المنزلية، وأن تصبح الأعمال المنزلية حكرا عليها دون الرجل، فالرجل في المنزل هو صاحب القرار، الذي يرسم حياة الأنثى داخل المنزل، وفي نفس السياق لهيمنة الرجل على القرار داخل المنزل، ما نجده في مفهوم التضحية، وهي سمة أساسية من سمات الأسرة التقليدية إذ يتم حرمان المرأة " الانثى " دون الرجل من الالتحاق بالجامعة نظراُ لظروف اقتصادية او نظرا لنظرة التخلف التي تراها هذه الأسرة من خلال المثل الشعبي في أن" ستيرة المرأة و مستقبلها هو بيتها"

ان ازمة الركود و الجهل في المجتمعات العربية تترجم في الحياة اليومية التي نعيشها بدون وعي جدي لها وبدون تصدي حقيقي لها فهي تسيطر على عقولنا وسلوكنا بدون أن نعي بها وبأبعادها المستقبلية ، وان جل هذه الأزمة تتمظهر في الخطاب الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي يخبئ بداخله أنظمة حكم استبدادية ذات طابع هيمني يسيطر على الفرد بشكل كاملة، وان أي محاولة لتحقيق التغيير الاجتماعي تفترض منا الولوج الى الداخل الثقافي المتشكل عبر الزمن ؛ لان هذا الداخل الثقافي المتشكل والمستحضر دائماً يشكل عائقاً أمام التغيير المنشود.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير