خالد بطراوي يكتب لوطن هلوسات: طوفان نوح

22.10.2018 11:10 AM

 إن من تبقى على قيد الحياة ممن ولدوا  في العام 1948 وهو عام النكبة أصبح الان في السبعين من العمر. فما بالكم بالذي ولد قبل ذلك؟ إننا سنة تلو السنة نشهد تناقصا فيمن عاش النكبة الفلسطينية.

ذلك بالضبط  ما يعتمد عليه الكيان الصهيوني التوسعي الاحتلالي ... عنصر الزمن.... تبدّل ألاجيال جيلا بعد جيل ... إنخراط الأجيال في معمان الحياة اليومية ونشر ثقافة الاستهلاك وإغراق المجتمع في اللهاث وراء قطاع الخدمات على حساب قطاع الانتاج وسعي كل عائلة الى تأمين قوتها اليومي وتسديد قروضها البنكية وإختزال الحلم من الحلم الفلسطيني الأكبر للمجموع بالعودة الى الحلم العائلي لكل عائلة بتعليم الأبناء والعيش الرغيد.

إن كل جهود تكريس حلم العودة التي نقوم بها في عالمنا العربي والفلسطيني هي جهود إستعراضية تتسم بالسطحية والمكابرة والمظاهر الكذابة. فالدبكة الفلسطينية أيها الأفاضل لا تقتصر فقط على "الوحدة ونص" فهناك الدبكة الشعراوية ودبكة الدرازي والدبكة الشمالية والبدوية والعسكر والغزالة والكرادية أو الطيارة والدلعونا  و"ظريف الطول" والدحية وغيرها الكثير الكثير، وهناك فرق بين الدبكة الفلسطينية والرقص ولا يجب الخلط بينهما مع الترحيب بتزاوجهما وبكل إبداع للرقص الفلسطيني المعاصر.

ويجب أن لا تقتصر مظاهر التذكير بحق العودة على حمل " المفتاح" رغم أهمية هذا الرمز، فثمة مبدعين فلسطينيين يحملون أفكارا لغرس مفهوم "حق العودة" لدى الجيل الجديد وللتذكير بهذا الحق في كافة المحافل الدولية والعربية بل وفي داخل العمق الصهيوني.
ومن المهم جدا عندما يتسنى لنا الدخول الى أرض الأجداد أن لا نهرع فقط الى الشواطىء في الأعياد ونملؤها بالأوساخ بل أن يتوجه كل منا الى قريته أو مدينته ليلمس الاحتلال أننا متمسكون ومتجذرون بالأرض حتى لو تطلب الأمر أن يغرس ركاب كل حافلة شجرة على أرض الأجداد .... سيصرع ذلك الاحتلال ... بدلا من التهافت على المتاجر الاسرائيلية وشراء ما هبّ ودّب تحت مسمى التنزيلات بل على العكس حتى زجاجة الماء نحضرها معنا ولا نقوم بابتياع أي من المعروض في متاجرهم.

في الثقافة والأدب، في العلاقات الاجتماعية بيننا يجب أن نعمق ثقافة "العودة" وعلينا أن نهتم بتوثيق التاريخ الشفوي من أفواه من بقي من جيل النكبة على قيد الحياة.  لو قام كل منا في منزله بحث الأحفاد على الجلوس مع الاجداد والاستماع الى ذكرياتهم عن " البلاد" وتسجيلها وإن كان حتى بالامكان تصوير اللقاء ونشره وتعميمه وشحذ الأحفاد قدراتهم وإبداعهم نحو توظيفها باتجاه تعميق حق العودة لأمكننا أن نتصدى لعنصر مرور الزمن الذي يريد أن يطيح بذاكرتنا وتاريخنا الموثق والشفوي.

المأكولات الشعبية الفلسطينية لا تقتصر على الزيت والزعتر والحمص والكعك والفلافل والمسخن.... وبدلا من نشر ثقافة الماكدونالدزر والبيتزا ... لماذا لا تقدم مطاعمنا يوميا نوعا من الاكلات الشعبية الفلسطينية .. لماذا لا نذكر الجيل الجديد والسائح بالسماقية والفقاعية والرمانية والبصارة وشوربة العدس وقلاية البندورة وغيرها من الاكلات التي مجرد تعدادها تفتح شهيتكم أثناء قراءة هذه المقالة.

لا أريد أن أتحدث عن الجهود الرسمية الفلسطينية فالحديث يطول في هذا المضمار ... الأساس في تكريس حق العودة هو سبر غور المضمون العميق وليس الشكل الاستعراضي الهادف فقط الى إنفاق المخصص المالي للفعالية على حساب غرس المضمون في الوجدان الفلسطيني والعربي والغربي.

تذكروا ... أيها الأحبة ... بعد عشر سنوات من الأن سنبحث عمن ولد عام النكبة، سيكون عدد من ولد عشر سنوات قبل النكبة أقل ومع مضي سنوات المعمورة سنة بعد سنة، سنفقد سنويا تاريخنا الشفوي المخزون في ذاكرة أجدادنا ... ذلك الأمر الذي يراهن عليه كيان الاحتلال باتباع سياسة الزحف البطىء كما السلحفاء نحو "يهودية الدولة".

سأترككم مع قصيدة الشاعر المصري الراحل أمل دنقل " مقابلة خاصة مع ابن نوح" التي يقول فيها:-

جاء طوفانُ نوحْ!
المدينةُ تغْرقُ شيئاً.. فشيئاً
تفرُّ العصافيرُ,
والماءُ يعلو.
على دَرَجاتِ البيوتِ
- الحوانيتِ -
- مَبْنى البريدِ -
- البنوكِ -
- التماثيلِ (أجدادِنا الخالدين)
- المعابدِ -
- أجْوِلةِ القَمْح -
- مستشفياتِ الولادةِ -
- بوابةِ السِّجنِ -
- دارِ الولايةِ -
أروقةِ الثّكناتِ الحَصينهْ.
العصافيرُ تجلو..
رويداً..
رويدا..
ويطفو الإوز على الماء
يطفو الأثاثُ..
ولُعبةُ طفل..
وشَهقةُ أمٍ حَزينه
الصَّبايا يُلوّحن فوقَ السُطوحْ!
جاءَ طوفانُ نوحْ.
هاهمُ "الحكماءُ" يفرّونَ نحوَ السَّفينهْ
المغنونَ- سائس خيل الأمير- المرابونَ- قاضى القضاةِ
(....  ومملوكُهُ ...)
حاملُ السيفُ - راقصةُ المعبدِ
(ابتهجَت عندما انتشلتْ شعرَها المُسْتعارْ)
- جباةُ الضرائبِ - مستوردو شَحناتِ السّلاحِ -
عشيقُ الأميرةِ في سمْتِه الأنثوي الصَّبوحْ!
جاءَ طوفان نوحْ.
ها همُ الجُبناءُ يفرّون نحو السَّفينهْ.
بينما كُنتُ..
كانَ شبابُ المدينةْ
يلجمونَ جوادَ المياه الجَمُوحْ
ينقلونَ المِياهَ على الكَتفين.
ويستبقونَ الزمنْ
يبتنونَ سُدود الحجارةِ
عَلَّهم يُنقذونَ مِهادَ الصِّبا والحضاره
علَّهم يُنقذونَ.. الوطنْ!
.. صاحَ بي سيدُ الفُلكِ - قبل حُلولِ
السَّكينهْ:
"انجِ من بلدٍ.. لمْ تعدْ فيهِ روحْ!"
قلتُ:
طوبى لمن طعِموا خُبزه..
في الزمانِ الحسنْ
وأداروا له الظَّهرَ
يوم المِحَن!
ولنا المجدُ - نحنُ الذينَ وقَفْنا
(وقد طَمسَ اللهُ أسماءنا)
نتحدى الدَّمارَ..
ونأوي الى جبلٍِ لا يموت
(يسمونَه الشَّعب)
نأبي الفرارَ..
ونأبي النُزوحْ!
كان قلبي الذي نَسجتْه الجروحْ
كان قَلبي الذي لَعنتْه الشُروحْ
يرقدُ - الآن - فوقَ بقايا المدينه
وردةً من عَطنْ
هادئاً..
بعد أن قالَ "لا" للسفينهْ
.. وأحب الوطن!

فنقل جميعا ... لأ لسفينة الزمن التي تحمل معها ذاكرتنا ولنعمل كما قال أمل دنقل علنا ننقذ مهد الصبا والحضارة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير