في ذكرى استشهاد الرئيس ياسر عرفات

جريء كالموسيقى ، وقوته تشبه ضعفهم !

11.11.2018 03:39 PM

كتب: المتوكل طه

سنرمي قمصان شهدائنا على وجه النهار، ونستذكر في بيوتاتنا وصفوفنا رجلاً أعطي عمره ، غير منقوص، لهذه الثاكل الحامل فلسطين، لهذا؛ لا بأس من المبالغة المحتملة بأن نقول: لنا صديقٌ مرنٌ، وحميمٌ إلى حدّ القشعريرة أو شدّة القرب.. من دون حجاب، وكان اسمه ياسر عرفات.

هذا الرجل اختلفت الآراء بشأنه ، لكنّنا لم نختلف معه على مواقفه التي أصرّ عليها، والداعية إلى أن يتمكّن الشعب الفلسطيني من نيْل حقوقه وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.

***

كان زعيماً وأباً بالفعل والمجاز ، وعطاءً وتسامحاً، حتى أعجز معارضيه، وجمع المتجاذبين على اختلاف ألسنتهم ووجوههم. لم يتعالَم ولم يُكَمّم السادر في غيّه أو غضبه ، يُعطي المعادلة موازنتها حتى تتمّ، مثلما يقبّل يد الجريح وجبين الثاكل أو يحمل الصغار في حِجْره كأنهم أكثر من صُلْبه. ولأنه يصنع التاريخ ولم يكن غباراً على صفحاته، عرف جيداً أهمية الثقافة ، بمعناها الاجتماعي ، والتي منحها كلَّ أرض العفو، وحرية فطريّة جعلتها تتنفّس بعمق على رغم أنهم أدرجوها في قاع الأجندة، وكانت، في أفضل حالاتها، أكسسواراً للدولة!

في أبي عمار جناح الملاك الخالص، وفي جيبه دفاتر السوق، ما جعله يسير على صخر الهواء، وينجو من فخاخ الأقربين وطعنات الأسمنت والحاملات، وما تزال الراية في يده يحقق من خلالها تجميع الشظايا لتكون ترساً صلباً في وجه الدفن والإلغاء، فأصبح خارقاً في قدرته على قدْح هذا البرق في يباب الشتات، وإنزال غيماته في حريق البلاد الواسع، لقد صاغ أسطورته الملموسة الماسية من نثار الاحتمال فوق البشري، والإدراك المستشرِف والقلب الشجاع الواسع.. لقد كان جريئاً كالموسيقى!

وقوّة الرجل من ضعف شركائه أو لغيابهم العميق، وثغرة سلطانه في بطانته البرمكيّة، وفي المسؤولين الذين اشتطّوا في تبنّي مقولات النقيض، ما جعلها ثقلاً جديداً ينوء به الظَهْر الفلسطيني.

وقوة ياسر عرفات الزائدة، هي التي غطّت على المؤسسة برمّتها، فكانت أكثر حضوراً وسطوعاً، وهذا ما يفسّر الكثير من التعويم والنتوءات والفوضى، كما يفسر هشاشة المحيطين به وضآلة تأثيرهم، وذهابهم نحو الخلاص الشخصي، بدل البحث عن صيغة عمل مؤسَّس على المؤسسة والقانون، لقد كانوا أنانيين أو هامشيين، وكانت قوته تشبه ضعفهم إلى حدّ كبير.

"ختيار" تجرّأ وبلغ بضعاً وسبعين عاماً من عمره، له حضور رنّان، وعينان تخترقان الستائر والغبار. متواضع إلى حدّ العاديّة، ومَرِن إلى درجة الليونة، لكنه لا ينكسر ولا تندّ عنه نقطة ماء إلا بإذنه وكامل رغبته. أمضى عمره مناضلاً في سبيل قضية شعبه، ما جعله رمزاً لنضال هذا الشعب ولمسيرته الصاخبة الدامية. وعلى هذا – على الأقل – وحده يستحق التقدير والاحترام، مهما اختلفت معه أو تباينت بينكما الرؤى والمواقف والتقديرات.

آمن بشعبة، وباللحظة المكثفة التي رآها وضوح الشمس، وهي انتصاره الأكيد. ليست له أنياب السلطان الحاكم أو مخالب الدمويين، يقبل الرأي الآخر، ويتّسع للنقد وإشارات الضيق والغضب.

في كثير من الأحيان لا تفهمه، ويبدو غامضاً، على وضوحه، خصوصاً فيما يتعلق ببعض الشخصيات، غير المرغوب فيها جماهيرياً، والتي تُعتبر قريبة منه (يبدو أن الأشجار بحاجة دائماً، إلى السّماد .. لتكبر!) لأنه ببساطة، غير مضطر لهذه العلاقة النافرة ! يُعطي دون حساب ، وقلّما يحاسب. يدخل الوحول، لكنه، يظل نظيفاً، ولا يخفض عينيه، بل يبقيهما معلّقتين في السماء. يحبّ بوضوح الأطفالَ والشعراءَ، ويثق بقدرات المرأة ويقدّمها في مجالسه على الرجال. يبدو لي خجولاً وأقرب إلى التمثال اللحمي الذي لا تظهر عليه ملامح التعب أو الأحمال أو الكوارث التي تحيط به من كل جانب. فيه حياد البروفيل الجاهز، لكنّ علائم الغضب تبرز كل خليّة في وجهه ويديه، وعندها ينبغي الصمت!

لم نكتشف، بعد، أهمية هذا الرجل، ودوره الحيوي، ومعنى وجوده بيننا بالفعل، إن الألفة تولّد الاستهتار. أظنّ أن هذا الرجل الذي لم يكن ينام، كما ننام! ليس خوفاً فهو جسور ومشهود له بالشجاعة وثبات قلبه، لكن إنساناً يحمل على كتفيه قضية فلسطين ومقدساتها وشعبها وما يتعرض له، لا يمكن له أن ينعم بحلم خفيف أو بنوم عميق، وهذا يفسر قلّة طعامه، وبساطة مائدته، ومحدودية ملابسه وتعدادها القليل، وغياب الأبّهة عن مكتبه وما يحيط به.

في زهده كبرياء وعمق، وفي صبره متّسع لكواكب وأثقال، وفي صدره هدف يتفلّت مثل النبع بين صخور الصوّان. باختصار أراد أن يُصلّي في القدس المحررة، ليكتب التاريخ أن القدس التي فتحها عمر بن الخطاب وحررها صلاح الدين - رضي الله عنهما - قد أعاد تحريرها ياسر عرفات رحمه الله تعالى.

كنت تراه يلبس ثياب الفِرَق التي تلعب، بل إنه يلعب بالكرة نفسها وفي الملعب ذاته، وبشروط الحَكم نفسه، لكنه دائماً يسعى لردّ الكرة إلى النصف الآخر، أو إلى الفريق الخصم . ربما يكون مضطراً لذلك، لأنّ أسباباً ثقيلة، دولية وإقليمية، تدفعه إلى ذلك الملعب الكريه، ويعرف أبو عمّار جيداً أن لذلك "اللعب" ثمناً باهظاً.

إن معضلة ياسر عرفات تتمثل، تاريخياً، في إيجاد جواب شاف لسؤال التنازل عن فلسطين التي تم احتلالها العام 1948، رغم كل المبررات التي يسوقها الذين دفعوا باتجاه " السلطة الوطنية " ، غير أن عدم إيجاد حلّ لقضية ستة ملايين لاجئ فلسطيني في الشتات، والإغراق في الحلّ الجغرافي (الضفة والقطاع) وعدم إبقاء منظمة التحرير الفلسطينية غطاء قانونياً وتمثيلياً للاجئين، يعمّق تلك المعضلة، ويُبْقي الأبواب مفتوحة على مصاريعها، للنقد والاتهام.

إن إعداء ياسر عرفات الذين ينتقدون سلطته بالفساد هم كاذبون، لأن مصلحتهم كانت تقتضي بأن تكون السلطة فاسدة، غير أن هؤلاء الأعداء يوظّفون هذه الظاهرة للإساءة لياسر عرفات ولابتزازه والضغط عليه. وإن مجمل الانتقادات التي يتم توجيهها لياسر عرفات إنما تستهدف ما يمثّله ياسر عرفات وطنياً ورمزياً، ، ولا تستهدف شخصه أو مساوئ موجودة وتمس الشعب الفلسطيني . وهذا لا يعني أن أبا عمار معصوم عن الخطأ. إنني لا أطالب بتقديس شخص ياسر عرفات، لكنني أعارض الإساءة المجّانية لهذا الرجل الذي أصاب أكثر مما أخطأ، لكنه - رغم كل ذلك - كان ذلك المناضل الذي لم يتنازل عن القدس ، ولم يعط جواده للريح والأعداء.

وياسر عرفات أسطورة الناس، التي اتفقوا على أن قوامَهُ يحتمل أثقالهم وهواجسهم ورغباتهم، فوضع كلُ فلسطيني وعربي شيئاً من نفسه في أبي عمّار، فأصبح مِلْكاً لكل الناس الطيّبين، الذين استجاب لهم، وتماهى مع تطلّعاتهم وأحلامهم وعبّر عنها ، وأصبح وجدانهم وهتاف روحهم، وأفتُتِنوا بمخلوقهم، وأصبح نجمَهم الذي يسعون إليه، ويتلقفون مواقفَه وكلماته، ويحفظونها ويردّدونها، ما يفسّر تلك الجماهيرية والإقبال، منقطع النظير، على التقائه وأخْذ الصور معه ووضعها على جدران التباهي والانتماء.

ولهذا، فإن كل عربي وإنساني، يحس أنه "حصَّته " كانت مُحاصَرَة وأضحت شهيدة، في هذا العملاق الفذّ، وأنه جزء من حالة رمزه الذي يفتخر به ويباهي.

كان زعيماً وأباً بالفعل والمجاز ، وعطاءً وتسامحاً، حتى أعجز معارضيه، وجمع المتجاذبين على اختلاف ألسنتهم ووجوههم. لم يتعالَم ولم يُكَمّم السادر في غيّه أو غضبه ، أعطي المعادلة موازنتها حتى تتمّ، مثلما يقبّل يد الجريح وجبين الثاكل أو يحمل الصغار في حِجْره كأنهم أكثر من صُلْبه. ولأنه يصنع التاريخ ولم يكن غباراً على صفحاته، عرف جيداً أهمية الثقافة ، بمعناها الاجتماعي ، والتي منحها كلَّ أرض العفو، وحرية فطريّة جعلتها تتنفّس بعمق على رغم أنهم أدرجوها في قاع الأجندة، وكانت، في أفضل حالاتها، أكسسواراً للدولة!

كان في أبي عمار جناح الملاك الخالص، وفي جيبه دفاتر السوق، ما جعله يسير على صخر الهواء، وينجو من فخاخ الأقربين وطعنات الأسمنت والحاملات، فأصبح خارقاً في قدرته على قدْح البرق في يباب الشتات، وإنزال غيماته في حريق البلاد الواسع، لقد صاغ أسطورته الملموسة الماسية من نثار الاحتمال فوق البشري، والإدراك المستشرِف والقلب الشجاع الواسع.. لقد كان جريئاً كالموسيقى!

وقوّة الرجل من ضعف شركائه أو لغيابهم العميق، وثغرة سلطانه في بطانته البرمكيّة، وفي المسؤولين الذين اشتطّوا في تبنّي مقولات النقيض، ما جعلها ثقلاً جديداً ينوء به الظَهْر الفلسطيني.

وقوة ياسر عرفات الزائدة، هي التي غطّت على المؤسسة برمّتها، فكانت أكثر حضوراً وسطوعاً، وهذا ما يفسّر الكثير من التعويم والنتوءات والفوضى، كما يفسر هشاشة المحيطين به وضآلة تأثيرهم، وذهابهم نحو الخلاص الشخصي، بدل البحث عن صيغة عمل مؤسَّس على المؤسسة والقانون، لقد كانوا أنانيين أو هامشيين، وكانت قوته تشبه ضعفهم إلى حدّ كبير.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير