نادية حرحش تكتب لوطن: منع عشتار من إكمال رقصتها ومنع فرقة الرقص المعاصر من العرض: التفكير الداعشي يبقى سيد الموقف

13.12.2019 11:53 AM

تابعتُ مشاهد صعود رجل يمثل الأكاديمية الفلسطيني بداخل جامعة وطنية عتيدة إلى المسرح، بينما كان العرض مستمرا، لرقصة بطلتها "عشتار". كغيري من آلاف المتابعين الذين لم يصدقوا أن ما يحدث كان حقيقيا. ولكني لم أستغرب ولم يصبنِ أي شعور بالصدمة ولم أستهجن الفعل الحاصل. بل رأيت بالمشهد تكملة طبيعية لمشاهد متكررة يتم فيها قتل ما تبقّى منا كشعب يسعى لبناء وطن. فالنسيج الاجتماعي الذي تتكرر استخدام عباراته تحت مسميات الوطن والحرية والحفاظ على الموروث والتقاليد وغيرها من ديباجات يستخدمها العلماني والمتدين على حد سواء، قد اهترأ وتآكل من العتِّ الذي يتربع في عقولنا كأفراد وشعب ليأكل ما تبقى فينا من إدراك ووعي واحساس.

قد يكون ما حدث مع الفنانة الفلسطينية "عشتار"، مشهدا دراميا ختاميا يلخص من خلاله هبوط عشتار الإلهة المؤسسة لحضارة سومر. سومر تلك الحضارة التي خرجت منها حضارات الشرق لتشرق على غربة العالم الهائم بلا وعي ولا إدراك لوجوده. عشتار التي شكلت نور حضارات الشرق في سعيها نحو الخروج من ظلمات الجهل وعبثية الوجود.

بين الأكاديمي الذي لم يخجل بالصعود الى المسرح أمام جمهور من الطلاب ومن المدعوين المهمين، من وزيرة امرأة وممثلة للأمم المتحدة لشؤون المرأة وغيرها من الشخصيات في حفل يدعو مناهضة العنف ضد المرأة. وبين عشتار التي هبطت بهدوء في محاولة لفهم ما كان يجري من محاولات لتعطيل العرض كانت من الممكن ان تعرضها لخطر اكيد. فالفنانة كانت معلقة على حبال من القماش في سماء المسرح. بين الجمهور الذي صفق للأكاديمي وبين الجمهور الذي صفق لعشتار؛ تتربع مأساتنا المستمرة.

ذلك الرجل الذي صعد الى المسرح ولم يترك أي اعتبار لا للمكان الذي يمثله ولا للضيوف الآتين من خارج نطاق حكمه في كليته ولا لفرقة العرض التي تكلّفت وتدربت وانتظرت أن تقدم عرضا يبث الأمل في نفوسنا التي باتت تصارع على الأنفاس. يمثل بالحقيقة ما هو اعتيادي اليوم. فلم استهجن ما قام به متذكرة ما جرى قبل وقت ليس ببعيد، عندما قرر وزير الثقافة منع عرض لفرقة رقص معاصر بحجج لا تحترم عقل راشد.

عندما تم منع عرض فرقة الرقص المعاصر من قبل وزير الثقافة باحتفالية رسمية ولم نطالب ولم نسائل واستمرت عروض المهرجان على مدار الأيام بلا حتى بيان توضيحي ولا اعتذار من الوزير أو وزارته. لم يخرج فنان من جمهور الفنانين بالعروض المستمرة حينها للمسرحيات بوقفة لثانية للعرض ويسأل أو يشجب أو يتساءل لم وكيف تمنع فرقة رقص كانت مدرجة على برنامج الحفل الافتتاحي فجأة.

فما قام به عميد كلية الفنون بجامعة النجاح ليس بالغريب ولا المريب. ما قام به هو امر متم ومكمل لم قام به وزير الثقافة من قبل. الحفاظ على الموروث والنسيج الاجتماعي ولا اعرف تكملة الديباجة التي تستمر بزج الوطن والتحرر فيها ليصبح القائل قائدا بحجم الوطن دائما.

بالحالتين كانت الضحية "عرض رقص لا يراد له ان يكون فنا " وكان الجلاد من قام بالدعوة والاستقبال، والشاهد المهلل لعملية الذبح بين مصفق مؤيد، وبين صامت متوجس، كان نحن الشعب.

الحقيقة، قد يحاول المتعقل هنا ان يتفهم ان هناك من الناس من لا تتوافق ذائقتهم مع الرقص. وقد يمتد هذا الرفض للرقص لتمكين للعتِّ الذي يأكل بالنسيج المجتمعي الذي يريد هؤلاء المحافظة عليه، ليحافظوا على وجودهم. فالخطاب المتشدد هو الخطاب الاجدى في بقاء كل صاحب سلطة في مكانه، بغض النظر عن دينه وانتمائه. فالفكر الداعشي المتأصل بالعقول هو حصيلة التحجر والتزمت والتخلف المتزامن لما يشكلنا اليوم من افراد وشعب.

عندما يخاف صاحب السلطة أيا كان موقعه وأيا كان دينه وأيا كان جنسه من حراك لجسد امرأة، فهذا يؤكد اننا كلنا في خطر الانحلال. خطر الانحلال ليس من الاخلاق فحسب، ولكن من الوجود. فطالما يمثل جسد المرأة وما يظهر منه شرف المجتمع وارثه الأخلاقي، بينما لا يحترم هذا المجتمع ماهية الانثى وقيمة جسدها خارج ما يراه فيه من اثارة محتملة لعقله المتعفن، سننتهي الى مصير "عشتار" و "انهيدوانا".

ولكن ما جرى في جامعة النجاح ومن قبل في مسرح بلدية رام الله، من قبل العميد والوزير، به أخطر من مجرد ركوب اولي السلطة المتمثلة بالأشخاص بعينهم على موجة الذائقة العامة التي من السهل اشعالها بعبارات نسيج مجتمعي وموروث واخلاق وحشمة وسترة. ان يتم الاتفاق مع فرق رقص او عروض لا تتفق مع ذائقة الداعي الى هذه الاحتفالات وتوقيعه المسبق ثم صحيانه فجأة الى "الكارثة الأخلاقية" التي تحصل او تكاد تحصل على مسرحه هي الكارثة. فلو بذل الوزير والعميد جهدا بسيطا قبل الاتفاق مع الفرق في معرفة ماهية العروض لتجنب وجنبنا هذه الخطابات التي ترمينا في حضن التدعيش من الوجود.

"اقتربت من النور، لكن النور لسعني
اقتربت من الظل، لكني كنت محاطة بعاصفة".

انهيدونانيا- سومر ٢٢٥٠-٢٢٨٥ ق.م.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير