قبل اي حديث عن الغاء المعاهدة مع اسرائيل...بقلم: حسن نافعة

18.09.2011 04:02 PM

تكررت أمام السفارة الإسرائيلية فى الآونة الأخيرة مشاهد ثلاثة تستدعى التأمل.

1- مشهد لمظاهرات جماهيرية حاشدة راحت تطالب بطرد السفير وإغلاق السفارة، واستدعاء السفير المصرى من تل أبيب، بل قطع العلاقات بين البلدين.

2- مشهد لشباب مصرى راح يتسابق لتسلق المبنى الشاهق الذى تقع السفارة أعلاه، أملا فى نيل شرف إنزال العلم الإسرائيلى من فوق صاريه المطل على نيل مصر وقبة جامعة القاهرة.

3- مشهد ترحيب عارم بالشباب الذين تمكنوا من الوصول إلى العلم الإسرائيلى وإسقاطه ورفع العلم المصرى مكانه، حيث اعتبرتهم الجماهير أبطالا يستحقون أن يحملوا على الأعناق. جدير بالذكر أن الترحيب لم يقتصر على الأوساط الشعبية والإعلامية، وإنما امتد ليشمل أوساطا رسمية لم تتردد فى تكريم هؤلاء الشباب ومنحهم الأوسمة أو الجوائز والمكافآت المادية.

قد يقول قائل بأن هذه المشاهد لم تكن سوى رد فعل طبيعى على الجريمة البشعة التى ارتكبتها إسرائيل على الحدود المصرية منذ أسابيع وراح ضحيتها ستة شهداء من جنود مصر وضباطها الحارسين، غير أننى أعتقد أن دلالاتها أعمق من ذلك بكثير، ذلك أن الجريمة التى ارتكبتها إسرائيل مؤخرا على الحدود لم تكن سوى النقطة التى طفح عندها كيل الشعور المصرى قبل أن يتفجر غضبا أمام سفارتها بالقاهرة.

 ولأن الكل بات مقتنعا بأن جريمة الحدود، التى لم تكن الأولى من نوعها، لن تكون الأخيرة ما لم تدرك إسرائيل أن الأوضاع فى مصر تغيرت، فقد أراد الشعب المصرى أن يبعث لكل من يهمه الأمر برسالة احتجاج قوية ليس فقط ضد الصلف الإسرائيلى وإنما ضد تخاذل مصر الرسمية أيضا.

لا أظن أننى فى حاجة إلى دروس فى القانون الدولى لأدرك أن اقتحام سفارة دولة تربطها بمصر علاقات رسمية يعد عملا يجرمه القانون وانتهاكا لالتزاماتها الدولية، ومن ثم لا يجوز التشجيع أو التحريض على ارتكابه، حتى ولو كانت الدولة المعنية خارجة على كل الأعراف والقوانين الدولية. غير أنه يتعين الانتباه إلى حقيقة أساسية وهى أننى لست هنا بصدد تكييف قانونى، وإنما تحليل سياسى لدلالات ما جرى.

ورغم عدم استبعادى لاحتمال وجود عناصر مشبوهة بين المتظاهرين، إلا أننى أعتقد أن الجماهير الغاضبة أمام السفارة الإسرائيلية تصرفت بتلقائية وفق ما تمليه عليها مشاعر وأحاسيس وطنية خالصة. ولأنه يصعب على أى مواطن مصرى، أيا كانت توجهاته الفكرية وانتماءاته السياسية والحزبية، مطالبة الجماهير بضبط النفس واحترام القانون إزاء دولة لا تكف عن انتهاكه كل يوم ولا تعرف سوى لغة القوة، يفرض علينا الواجب أن نحاول الغوص أكثر فى عمق هذه الدلالات.

 

فالثورة المصرية، التى لم تكتمل فصولها بعد، لم تقم فقط للتخلص من الرموز التى أفسدت الحياة السياسية واستبدت بالسلطة ولكن أيضا لإسقاط سياسات داخلية وخارجية أفرزت كل هذا القدر من الفساد والاستبداد ومكنت لهما من التغلغل عميقا فى جسد المجتمع.

ولا يخالجنى أى شك فى أن الجماهير التى صنعت ثورة 25 يناير تعى تماما أن سياسة مصر الرسمية تجاه الصراع العربى الإسرائيلى، والتى كانت قد سلكت اتجاها معاكسا لثوابت مصر الوطنية منذ قرار السادات زيارة القدس فى 1977 وانتهت بتحول مبارك إلى كنز استراتيجى لإسرائيل، باتت فى حاجة ماسة إلى مراجعة وإلى إعادة نظر.

لقد كان شعب مصر على استعداد لمنح السلام فرصة حقيقية، لكن السلوك الإسرائيلى أثبت له جملة من الحقائق، أهمها:

1- أن إسرائيل ليست معنية بالعيش فى سلام مع شعوب هذه المنطقة بقدر ما هى معنية بالهيمنة عليها،

2- أنها تعتقد أنها قادرة على تحقيق هذه الهيمنة، إن عاجلا أو آجلا، اعتمادا على قوتها العسكرية ونفوذ الحركة الصهيونية، من ناحية، وعلى الدعم السياسى والعسكرى غير المشروط للولايات المتحدة الأمريكية، من ناحية أخرى.

 3- أن معاهدة «السلام» مع مصر هى مجرد وسيلة لإخراجها من المعادلة العسكرية للصراع تمهيدا لفرض شروطها للتسوية على الفلسطينيين وتأديب كل من يجرؤ على دعمهم. 4

- لا يجب السماح لمصر بالاستفادة من تراجع احتمالات الحرب مع إسرائيل لتحقيق تقدم اقتصادى أو علمى ويجب الإبقاء عليها ضعيفة وغارقة فى سلسلة لا تنتهى من المشكلات الداخلية والإقليمية.

لست مولعا بالنظريات التآمرية، أو ممن يرون عميلا للموساد وراء كل مشكلة تحدث فى مصر، لكن المنطق يقول إنه من غير المعقول أن تكون الحالة المزرية التى وصلت إليها مصر، بعد أكثر من 38 عاما من «السلام» مع إسرائيل تدفقت عليها خلالها معونات اقتصادية من كل حدب وصوب، هى من صنع النظام الحاكم وحده ولأسباب تتعلق بالبلاهة أو بعدم الكفاءة أو الغباء.

لذا لا يخالجنى شك أن إسرائيل لعبت دورا محوريا، بشكل مباشر وغير مباشر، للوصول بمصر إلى حالة التردى التى هى عليها الآن، من خلال العبث فى أوضاعها الداخلية بمختلف أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل لا أستبعد مطلقا أن تكون إسرائيل قد لعبت دورا ما فى تمهيد الطريق أمام ظهور مشروع توريث السلطة، بتزيينه فى أعين بعض المقربين من مراكز صنع القرار، وفى العمل على إفساد أسرة مبارك. ومنذ أيام أكد لى أحد الباحثين الغربيين الكبار من المهتمين بالشأن المصرى أنه على يقين أن حسين سالم كان عميلا رسميا للموساد، وهو ما أشارت إليه تقارير صحفية عديدة مؤخرا.

وحتى لا نستطرد فى أمور جانبية أعود فأقول إن الغضب الذى تفجر وتكرر أمام السفارة الإسرائيلية مؤخرا لم يكن مجرد رد فعل انفعالى ووقتى على حدث بعينه، كجريمة الحدود مثلا، وإنما كان تعبيرا عن:

 

 1- رفض كامل للسياسة الإسرائيلية المتغطرسة تجاه مصر وللسياسة المصرية الضعيفة والخانعة تجاه إسرائيل فى الوقت نفسه، وهو رفض لم يظهر فجأة ولكنه كان نتاج تراكم تدريجى لسلوك إسرائيلى صنف دوما على أنه غير ودى ومعاد لمصر، تم اختباره على مدى سنوات طويلة إلى أن وقر فى يقين شعبها أن إسرائيل كانت وال تزال وستظل تشكل مصدر التهديد الرئيسى لأمنه، وبالتالى لا مفر من مواجهتها بكل الوسائل المتاحة.

 2- التأكيد على أن مصر فى مرحلة ما بعد الثورة ليست هى ما كانت عليه قبلها، وأن شعب مصر، الذى حررته الثورة من الخوف والذل، لن يقبل بعد الآن لا الغطرسة الإسرائيلية ولا الخنوع الرسمى. وليس لذلك كله، فى تقديرى، سوى معنى واحد وهو أن سياسة مصر الراهنة تجاه الصراع العربى، بصفة عامة، وتجاه إسرائيل بصفة خاصة، لا تلبى الطموحات الشعبية، ومن ثم آن لها أن تتغير. لكن كيف؟

يحلو لبعض السياسيين والكتاب المصريين أن يطالبوا بين الحين والآخر بإلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل، ولا أدرى ما المقصود بذلك؟

فإذا كان المقصود أن تعلن مصر رسميا ومن جانب واحد إلغاء المعاهدة، فأعتقد أن هذه مزايدة رخيصة وكلام صبيانى لا يستحق الالتفات إليه.

 فالمشكلة الحقيقية لا تكمن فى نصوص المعاهدة وإنما فى طريقة تفسيرها من جانب أطرافها. ومن الواضح أن إسرائيل تفسر معاهدة السلام معها على أنها تلزم مصر بسلوك معين، ليس فقط تجاهها وإنما تجاه كل أطراف الصراع، أما هى ففى حل من أى التزام ومن سلوك أى سياسة أخرى سوى تلك التى تتفق مع مصالحها هى. ووفقا لهذا التفسير سعت إسرائيل دوما لتجعل من مصر أداة للضغط على الفلسطينيين، ولمنعها من التعامل مع حماس، ولمساعدتها على فرض الحصار على قطاع غزة، ولكى تظل علاقاتها مقطوعة مع إيران ومتدهورة مع سوريا..الخ.

 أما إسرائيل فبوسعها أن تفعل أى شىء، بما فى ذلك شن الحرب على لبنان عام 2006 وعلى قطاع غزة عام 2008، دون أن يكون فى هذا السلوك ما تعتبره تجاوزا أو خروجا لا على روح المعاهدة ولا على نصوصها. ومن الواضح أن مبارك لم يلتزم فقط بهذا التفسير التزاما صارما وإنما ذهب أيضا إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير. وعلى سبيل المثال، لا يوجد فى معاهدة السلام مع إسرائيل أى نص يلزم مصر أن تبيع الغاز أصلا لإسرائيل، ناهيك أن يكون بثمن بخس. وليس هناك من تفسير لصفقة الغاز المجحفة سوى أنها كانت عربون محبة لتشجيع إسرائيل على استخدام نفوذها لدى أمريكا لتمرير مشروع التوريث.

بوسعنا الآن، وبعد أن سقط مشروع التوريث، أن نستعيد غازنا وأن نبيع الفائض لمن يدفع أغلى الأسعار، وأن نطبع علاقتنا مع قطاع غزة ومع كل العالم العربى ومع إيران وتركيا دون قيود. وبوسعنا أيضا أن نعامل إسرائيل بالمثل وبالندية الواجبة وأن نلزمها على احترام القانون الدولى، بل بوسعنا أن نجبرها على تعديل الترتيبات الأمنية فى سيناء دون أن يشكل أى من هذا السلوك خرقا للمعاهدة. فهل نستطيع أن نمارس حريتنا فى رسم وتنفيذ سياسة خارجية تتفق مع مصالحنا أولا قبل أى حديث عن إلغاء المعاهدة؟

                                                                                    عن المصري اليوم

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير