دورات تدريب إسرائيلية مصممة خصيصا للفلسطينيين العاملين في القطاع الزراعي

09.07.2014 01:56 PM

وطن _خاص بمجلة آفاق البيئة والتنمية - جورج كرزم: برزت مؤخرا إلى السطح بعض النشاطات الإسرائيلية-الفلسطينية المشتركة تحت مسميات زراعية وبيئية وتكنولوجية وغير ذلك.  ومن أكثر النشاطات طرافة تلك الدورة التدريبية الإسرائيلية التي جرت في أيار الماضي وصممتها مؤسسات إسرائيلية خصيصا لمزارعين فلسطينيين وعاملين في القطاع الزراعي من الضفة الغربية وقطاع غزة، بمن فيهم مندوبين عن وزارة الزراعة الفلسطينية.  وقد نُفِّذ التدريب الذي استمر نحو أسبوع في معهد "فولكاني" الإسرائيلي التابع لوزارة الزراعة الإسرائيلية، وهدفه المعلن التدرب على تقنيات ما بعد الحصاد، وتحديدا معاملة الخضار والفاكهة بعد جنيها، من ناحية ظروف وشروط التخزين؛ بالتركيز على فحوصات المحصول الذي يتم تخزينه، مثل الوزن، اللون، الصلابة والمحتوى السكري.  وقد مولت الحكومة النرويجية المشروع التدريبي، وأشرف على تنفيذه كل من وزارة الزراعة الإسرائيلية، مؤسسة "مَشاف" التابعة لوزارة الخارجية الإسرائيلية، منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) التابعة للأمم المتحدة، وجمعيات مزارعين في مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني.

وتعد هذه الدورة جزء من مشروع أكبر دخل حاليا سنته الرابعة، ويتعلق بالمحاصيل النقدية (الزراعة بهدف التجارة والربح) في الضفة وغزة، والممول من هولندا وينفذ من قبل منظمة الفاو؛ علما أن "التعاون" بين وزارتي الزراعة الإسرائيلية والفلسطينية مستمر ولم ينقطع منذ إنشاء السلطة الفلسطينية، في مجال "تبادل الخبرات والتجارب" بحسب أحد "المتدربين" من وزارة الزراعة الفلسطينية في ورشة التدريب الإسرائيلية؛ لأن "أمراض النبات والحيوان لا تعرف الحدود، ونحن جيران وبالتالي مجبرون على العمل سوية ومساعدة بعضنا بعضا"، كما قال ذات "المتدرب" الفلسطيني من وزارة الزراعة. 

وبحسب مصادر خاصة بآفاق البيئة والتنمية من داخل منظمة الفاو، استمع "المتدربون" الفلسطينيون في الدورة الإسرائيلية المذكورة إلى محاضرات ألقاها عليهم "خبراء" إسرائيليون، وزاروا قسم خدمات وقاية النبات التابع لوزارة الزراعة الإسرائيلية، حيث تم تدريبهم على كيفية إنجاز معايير المواصفات الأوروبية لصادراتهم.  كما زاروا أيضا شركات تعبئة إسرائيلية في وسط وجنوب "إسرائيل"، إلى جانب زيارة معهد إسرائيلي للأبحاث والتنمية الزراعية يقع بمحاذاة قطاع غزة!  وخلاصة الفكرة الإسرائيلية الفنية "الفذة" التي تقف خلف الدورة التدريبية، أن المزارعين الفلسطينيين يحتاجون إلى تقنيات التبريد الزراعي!  ومن هذه التقنيات التي سوقها الإسرائيليون باعتبارها ابتكار خاص بهم "يجهلها" المزارعون الفلسطينيون، أن الأخيرين عندما يقطفون الفاكهة في الحقل، يجب أن يكون لديهم معرش أو سقيفة تظليل، تحفظ تحتها صناديق الخضار والفاكهة؛ فلا تترك مباشرة تحت الشمس!  اللافت أن الأفكار العلمية والتقنية التي طرحها "المدربون" الإسرائيليون على "المتدربين" الفلسطينيين بديهية وبسيطة جدا ولا تحتاج إلى تدريب خارجي، وتحديدا إسرائيلي، ويمكن تمريرها بسهولة لمزارعينا من خلال خبرائنا وجامعاتنا ومعاهدنا وكلياتنا!

وأفاد أحد المزارعين الغزيين الذي شاركوا في دورة التدريب الإسرائيلية، وأجرت معه آفاق البيئة مقابلة هاتفية، طلب خلالها عدم نشر إسمه تحسبا من أي حرج قد يتسبب له ذلك- أفاد بأن المزارعين الفلسطينيين الذين حضروا الدورة لمدة أسبوع، ينوون تطبيق ما تعلموه خلال التدريب، في عملهم الزراعي.  وقد تذكر، أثناء المكالمة، بأن موضوع التبريد في غزة يعتبر مشكلة جدية بسبب انقطاعات الكهرباء.  واعترف ذلك المزارع بأن المدربين الإسرائيليين تجاهلوا تماما أن تلك الانقطاعات ناتجة أساسا بسبب الحصار الوحشي الذي تفرضه "دولتهم" ضد قطاع غزة، منذ سنوات طويلة.  وذَكَّرَ كاتب هذه السطور المزارع الغزي، بأن الحصار الإسرائيلي على قطع الغيار والوقود اللازم لتشغيل محطة توليد الطاقة (في مدينة غزة) أدى إلى هبوط إنتاجها إلى أقل من الربع بالمقارنة مع أوائل عام 2006؛ كما أن الطائرات الحربية الإسرائيلية قصفت تلك المحطة في ذات العام...ونتيجة ذلك، يعاني نحو مليوني فلسطيني في قطاع غزة من انقطاعات يومية في الكهرباء تتراوح بين 12-18 ساعة، وبخاصة أثناء الليل؛ ما أدى إلى انتشار عشرات آلاف مولدات الكهرباء التي تعمل على البنزين والسولر في مختلف أنحاء قطاع غزة، وينبعث منها غازات سامة ملوثة للهواء وروائح كريهة وضجيج خطير؛ ما تسبب في إصابة مئات الأفراد ووفاة العشرات، بمن فيهم الأطفال في قطاع غزة؛ بسبب الحرائق والانفجارات والصدمات الكهربائية واستنشاق غاز أول أكسيد الكربون السام الناتج عن الاحتراق غير المكتمل للبنزين الذي يشغل المولدات؛ إضافة إلى تفاقم الكثير من الأمراض. 

وقد بلغت وقاحة أحد "المدربين" الإسرائيليين بأن نصح المتدربين الغزيين أن يتحايلوا على واقع انقطاع الكهرباء (وكأن هذا الانقطاع بفعل إرادة ربانية ومن نواميس الحياة في غزة!) من خلال إنشاء المعرشات للتبريد، أو الاستفادة من الكهوف والأنفاق وهياكل سيارات الخردة!

من الواضح أن الإسرائيليين ينطلقون من واقع تكريس وشرعنة الحصار الصهيوني الهمجي المضروب على غزة، ويدربون الفلسطينيين على تقبله والخنوع له، من خلال تلقينهم كيفية "التكيف" مع عملية إذلالهم التي يمارسها المحتل، من تجويع وحرمان من الكهرباء والوقود، وتلويث المياه؛ بل المطلوب من المشاركين العرب في الدورات والمؤتمرات والندوات الصهيونية "البيئية" و"الزراعية" وغيرها أن يبتلعوا بصمت التحريض العنصري والإهانات الموجهة ضد شعبهم الفلسطيني.  

تسويق الأكاذيب

دورات التدريب الإسرائيلية الخاصة بفلسطينيي الضفة والقطاع، والتي يمولها غالبا الإتحاد الأوروبي أو حكومات أوروبية بشكل مستقل، ويصممها وينفذها الإسرائيليون في المؤسسات الاسرائيلية بنتانيا وتل ابيب وحيفا وغيرها ("مشاف"، "كلية الجليل للدراسات الدولية"، "الكرمل"، "جفعات حبيبا"، "قسم التعاون الدولي في وزارة الخارجية الاسرائيلية"، وغيرها)- هذه الدورات هدفها الإسرائيلي المعلن هو "التعايش السلمي المشترك" و"تعزيز ديمقراطية المؤسسات المجتمعية" و"تدعيم العملية السياسية بشكل متسامح وحر وجماعي"، فضلا عن "التدريب الاداري" في مجالات "إدارة المشاريع"، "التخطيط الاستراتيجي"، "تحديد الاحتياجات" و"التنمية المجتمعية".  وفي ظل الحصار الاسرائيلي المشدد على أبناء شعبنا الذين يحرمون من العمل ولقمة العيش، فإن المؤسسات الإسرائيلية المنظمة لهكذا دورات تحرص على توفير "تصاريح السفر" اللازمة للمشاركين الفلسطينيين في هذه الدورات والذين ينتمون الى مؤسسات ومنظمات حكومية وغير حكومية (وغير ربحية).

كما أن بعض فلسطينيي الضفة والقطاع انخرط في الماضي ولا يزال ينخرط في برامج "إرشادية" و"تدريبية" تصممها وزارة الزراعة الإسرائيلية "خصيصا" للفلسطينيين.  علما بأن الوزارة الأخيرة غير معنية ولا مصلحة لها إطلاقا في منح أي شكل من أشكال "التسهيلات" لمزارعينا أو "تطويرهم"، لأن ذلك يتناقض تماما مع أهم دور وظيفي منوط بها، والمتمثل في التوسع الاستعماري الاستيطاني وتغذية المستعمرات القائمة.  لهذا فان نسبة مرتفعة من موازنة وزارة الزراعة الإسرائيلية مخصصة أصلا لإقامة  مستعمرات جديدة في الضفة الغربية والجولان، وقبل ذلك في قطاع غزة أيضا.

ومن المخجل والمعيب حقا أن الانخراط الفلسطيني في هكذا دورات تدريبية "زراعية" إسرائيلية، يتم تحت مظلة وزير الزراعة الإسرائيلي الحالي (يائير شَمِير) ابن يتسحاق شامير زعيم عصابة الليحي الصهيونية والرئيس السابق لحكومة الليكود ومن دعاة "أرض إسرائيل الكبرى"؛ علما أن يائير شمير (الإبن) عمل طيارا عسكريا في سلاح الجو الإسرائيلي لمدة 25 عاماً (كم عدد الضحايا الفلسطينيين والعرب إجمالا من قصفه "التعايشي"؟)، كما شغل منصب رئيس الصناعات الجوية الإسرائيلية؛ وهو ينتمي حاليا لحزب ليبرمان الفاشي ("إسرائيل بيتنا")، بل هو نائب ليبرمان الذي يطالب وحزبه بطرد فلسطينيي عام 1948، ويطرح بأن كل فلسطين التاريخية هي "أرض إسرائيل" ويجب أن تظل جزءا من "إسرائيل".

ومن المثير للاشمئزاز، أن المشاركين الفلسطينيين في ما يسمى الدورات التدريبية" و"المشاريع البيئية والزراعية" المشتركة مع الصهاينة، يساهمون بحماس في تسويق الأكاذيب الصهيونية، مدعين أن لمشاركتهم أهداف بحثية وتعليمية بحتة، وليس من ورائها أية دلالات سياسية!

ويذكّرنا "العمل المشترك" هنا تحديدا، بقصة اللص الذي سرق بيتا وأراد أن "يتقاسم" الغنيمة مع صاحب البيت. فما المقصود بالعمل "المشترك" الذي تدعو إليه مثل هذه النشاطات التي سارع بعض الأكاديميين و"الباحثين" الفلسطينيين والعرب للدلو بدلوهم "العلمي" فيها، ما دام أن الاحتلال الصهيوني الذي ينتمي إليه الطرف الصهيوني المشارك، يشكل قوة النهب الأساسية لمواردنا الطبيعية والزراعية وأرضنا، وهو يعد بالتالي أهم عامل  مدمر للبيئة والزراعة الفلسطينية؟ 
إن أية علاقات صهيونية – فلسطينية مباشرة أو غير مباشرة، وعلى مختلف المستويات المهنية والعلمية والسياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، لا يمكنها أن تكون علاقات طبيعية في ظل تواصل الاحتلال والاستيطان الصهيونيين للأرض العربية واقتلاع ملايين اللاجئين الفلسطينيين من وطنهم والسيطرة على الموارد المائية والطبيعية، وفقدان السيادة السياسية والجغرافية على الأرض والموارد وحرمان الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه الطبيعي في تقرير مصيره على أرض وطنه.  و"التطبيع" الصهيوني – الفلسطيني في هذه الحالة ليس أكثر من "أسرلة" قسرية تجسد العلاقات غير المتكافئة والمشوهة بين القوي والضعيف أو بين المنتصر والمهزوم.  

الانبهار بقيم ومفاهيم "الدولة اليهودية"

المسألة الأساسية هنا، أن العملية التدريبية الإسرائيلية لا تتضمن فقط الجانب المهني أو العلمي الصرف سواء أكان في المجال الزراعي أو البيئي أو الإداري  أو الخدماتي أو غيره، بل تشمل العملية التدريبية جوانب تربوية وذهنية وقيمية ونفسية، بمعنى ان استراتيجية التدريب المعينة تتضمن نمط تفكير وسلوك معينين وثقافة محددة تقف خلف العملية التدريبية.    

من هنا يمكننا فهم سبب "حماس" بعض الممولين الغربيين لتمويل الدورات التدريبية الاسرائيلية-الفلسطينية المشتركة  بسخاء (والتي هي، عمليا، إسرائيلية من ناحية محتواها والتخطيط لها وتنفيذها) والتي تهدف الى ترسيخ التطبيع الفكري والثقافي والسياسي والاقتصادي مع "إسرائيل"، وبالتالي فإن الهدف الواضح لمثل هذه الدورات هو سياسي إعلامي بحت وليس أكاديمي تدريبي؛ علما بأننا نمتلك العديد من الكوادر والكفاءات الفلسطينية والعربية المناسبة لتقديم نفس نوع التدريب الاسرائيلي.   

لكن، المهم في الموضوع، أن أساليب التدريب التي يتبعها الإسرائيليون ليست منعزلة عن الخلفية الثقافية الإسرائيلية وبالتالي ليست منفصلة عن القيم والمفاهيم التربوية والاجتماعية في المجتمع الإسرائيلي، تلك القيم والمفاهيم التي تنقل ضمنا وتلقائيا للمتدربين، عبر العملية التدريبية، بحيث يتمثل المتدرب بسهولة المفاهيم والقيم الثقافية والأخلاقية ونمط حياة الجهة الاسرائيلية المدربة (الثقافة، اللغة، وسائل اللهو والترفيه، الزي والملابس، الموسيقى...الخ)، مما سيؤثر حتما على ذهنه وإدراكه وسلوكه، وقد يكون في ذلك خطر تحول العملية التدريبية الى وسيلة لاغتراب وانفصال المتدربين عن شعبهم وتعاليهم عليه أو تنكرهم له ولذاتهم ولثقافتهم الوطنية، وتبخيسهم لقيمه الأصلية من خلال ترويضهم على ما يسمى "عناصر الهوية الموحدة" بيننا وبين المجتمع الإسرائيلي وذوبانهم في نظام قيم الفئة الإسرائيلية المتسلطة، وبالمحصلة قد يتحول المتدربون (أو الدارسون) الفلسطينيون في المجتمع الإسرائيلي الى كائنات عدمية مزيفة فاقدة لهويتها وأصالتها.

والملفت للنظر، أن في مثل هذه الدورات لا يشدد على التزام "المتدربين" بالدوام والحضور، وكثيرا ما تلغى جلسات بعد الظهر التي يكون فيها الحضور قليلا.  بل إن بعض المتدربين يفضل قضاء معظم فترة التدريب "بالتنزه" في نتانيا وتل أبيب!  
ومن نافلة القول، ان التدريب الإسرائيلي المصمم للعرب يكون ملغم بقيم وأنماط تفكير وسلوك تدفع بقوة باتجاه "التنمية" السطحية المقتصرة على الاستهلاك الاستعراضي، على حساب الانتاج التطويري، وفي المحصلة، تعميق انخراط "المثقفين" و"التنمويين" في عملية الكذب والتضليل بما يتناقض تناحريا مع القيم الحقيقية لتحرير الإنسان الفلسطيني وأرضه.  لهذا ليس غريبا أن نجد بعض المتعلمين و"المثقفين" المتغربنين يعجب بكل ما هو إسرائيلي وأجنبي.  علما أن المعلومات التي يقدمها، إجمالا، المدربون الاسرائيليون للعرب (وفق ما أكده بعض المشاركين الفلسطينيين في مثل هذه الدورات) نظرية وسطحية وفقيرة بمحتواها العلمي والمهني، فضلا عن تركيزها على الشكل وعلى الأمثلة والنماذج الإسرائيلية، انطلاقا من أسطورة "عظمة إسرائيل" التي تعتبر "الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" والوحيدة أيضا، التي لها نظمها ومؤسساتها، طامسين ثقافات وحضارات  الشعوب الأخرى، بعكس الانطباع الأولي الذي قد يترك لدى المرء من العناوين الكبيرة لمواضيع التدريب.  ناهيك عن عرض أفلام حول "التعايش السلمي" والزيارات الميدانية لـ"الكيبوتسات" والمستعمرات والمؤسسات الإسرائيلية في الجليل والمثلث، حيث تعرض الانجازات "الرائعة" التي "لا مثيل لها إلا في إسرائيل"، بينما يتم تجاهل القرى والبلدات العربية المحيطة.  بالإضافة لعرض تاريخ إسرائيل بطريقة تعبث بالحقائق التاريخية وتنسفها من أساسها.  

إذن، المطلوب من المتدربين العرب في برامج التدريب الاسرائيلية، الانبهار بقيم ومفاهيم "الدولة اليهودية" التي تكمن مصلحتها الوجودية في استمرار احتلال الأرض واستلاب الإنسان العربي.  هذا ما انعكس، على سبيل المثال، في سلوك "المتدربين" الفلسطينيين في أعقاب مشاركتهم في الدورة سالفة الذكر بمعهد "فولكاني" الإسرائيلي، إذ تمنى أحدهم (أمام كاتب هذه السطور) بأن "تستمر العلاقة بين إسرائيل والفلسطينيين"؛ بل إن مشاركا آخر في ذات الدورة، وهو ناشط في جمعية عتيل التعاونية للتنمية الزراعية (طولكرم)، تباهى بقوله إن كل "أستاذ" و"مدرب" (إسرائيلي) يعتبر صديقا وحلقة اتصال.

وتحت ستار "الجيران" و"التعايش المشترك" يتم التعامل الإسرائيلي مع الوجود العربي الإسلامي وقيمه وتقاليده بازدراء واحتقار، في محاولة للإيحاء بأن الثقافة العربية معادية "للتطور والحضارة المعاصرة" وبالتالي فان "تحررنا" و"تحضرنا" يكونان فقط من خلال اعتناقنا "الثقافة" الاسرائيلية-الغربية.

وهنا لا بد من توضيح مسألة جوهرية وهي أن مفاهيم "التعايش" و"حقوق الإنسان" أو "الحقوق والحريات الوطنية والديمقراطية" الحقيقية، ليست سوى النقيض الوجودي لمفاهيم كيان كولونيالي استيطاني يشكل التجسيد المادي لحركة استعمارية عنصرية في تكوينها وعدوانية توسعية استيطانية في أهدافها وفاشية نازية في وسائلها، حيث لا وجود للمفاهيم الإنسانية والديمقراطية إلا على حساب وجود الدولة الصهيونية الكولونيالية ذاتها.  إذ أن كيانا سياسيا كولونياليا استيطانيا وعنصريا ببنيته لا يمكنه إفراز مفاهيم سياسية واجتماعية إنسانية وديمقراطية (تجاه الخارج) تشكل نقيضا وجوديا لمفاهيم العنصرية والفاشية والعدوانية التي تأسست "إسرائيل"" على قاعدتها، الأمر الذي يجعل الوعي الثقافي الصهيوني العنصري الإستيطاني طاغيا على أشكال الوعي الأخرى، كالوعي الإثني أو الطائفي أو الديني أو الطبقي في المجتمع الصهيوني بكل طبقاته الإجتماعية.

لماذا يركز الإسرائيليون على الزراعة الفلسطينية من أجل "التصدير"؟

السؤال المطروح:  لماذا ركزت دورات التدريب الزراعية الإسرائيلية، بما في ذلك الدورة الأخيرة (في أيار الماضي) المصممة خصيصا للفلسطينيين، على الزراعة من أجل التصدير؟  الجدير بالذكر أن منتجات الضفة الغربية الزراعية يتم تصديرها غالبا بشكل مباشر إلى الأردن، وبالطبع من خلال "المعابر" والحدود التي تتحكم فيها "إسرائيل" تحكما مطلقا، بحيث أن الأخيرة هي التي تقرر، في نهاية المطاف، ما هو مسموح أو ممنوع تصديره.  بينما تشحن معظم الصادرات الزراعية الغزية بشكل حصري تقريبا إلى أوروبا، من خلال شركات فلسطينية (وسيطة) وشركات إسرائيلية أساسا مثل "هارفست إكسبورت" (Harvest Export) و"عَرَفا للتصدير" (Arava Export Growers)، ويمنع الغزيون من تسويق سلعهم الزراعية في الضفة الغربية أو في السوق الإسرائيلي.  ومن المعروف أن كميات كبيرة من الإنتاج الزراعي في قطاع غزة (خضار وفراولة) الموجهة للتصدير قد تكرر تلفها بسبب الحصار والإغلاق.  كما أن المزارعين الفلسطينيين لم يتمكنوا، في ظل الإتفاقيات الإسرائيلية – الفلسطينية الاقتصادية والسياسية الكولونيالية، من الاستفادة من الفرص والوعود النظرية الوهمية التي توفرها "التجارة الحرة" التي تتمتع بها فعليا المنتجات الإسرائيلية لوحدها، وباتجاه واحد (من إسرائيل إلى السوق الفلسطيني). كما أن الصادرات الفلسطينية بشكل عام، بين عامي 1992 و2011 تراجعت إلى أكثر من النصف.

معظم الفلسطينيين، وبخاصة في المدن، يستهلكون المنتجات الزراعية الإسرائيلية التي تغرق الأسواق الفلسطينية، علماً بأن إسرائيل تمنع عموما المنتجات الفلسطينية من الوصول إلى الأسواق الإسرائيلية.  وهذا يعني، أن الاحتلال الصهيوني فرض ويفرض "تنافسا" قسريا غير متكافئ بالمطلق بين وارداته الزراعية المدعومة والمنتجات الفلسطينية المكشوفة، مما يولد أزمة تسويق فائض الإنتاج المحلي في السوق المحلي، وذلك بسبب انكشاف هذا الانتاج وحرمانه من الحماية الوطنية والرعاية وعدم منحه الأولوية في التسويق المحلي.

لذا، فمن المصلحة الإسرائيلية أن تتحول زراعتنا، بشكل أساسي، نحو الزراعة الأحادية الموجهة "للسوق العالمي"؛ ما سيوصل شعبنا، كما أوصل من قبلنا شعوبا أخرى في "العالم الثالث"، إلى درجة العجز عن إنتاج وتأمين غذائه الأساسي، بحيث نقع بالكامل تحت رحمة الاحتلال الذي يقرر من يجوع ومن يشبع؛ فلن يبقى أمامنا آنذاك سوى مواجهة المصير المحتوم:  المجاعة والفقر الغذائي.

إن فلسفة التصدير الزراعي الفلسطيني الأحادي بشكل عام، منوطة برحمة الإسرائيليين الذين طالما "تعهدوا" منذ أواسط التسعينيات بعدم إغلاق "المعابر" أمام الصادرات الزراعية الفلسطينية!  علما بأنهم سبق وقدموا نفس "التعهدات" آلاف المرات.  والغريب في الأمر، أن التركيز المبالغ فيه على التوجه التصديري يتم في الوقت الذي يفتقر فيه الفلسطينيون في الضفة والقطاع إلى السيادة السياسية والاقتصادية على الأرض والموارد والأسواق المحلية والحدود والصادرات والواردات وحركة رؤوس الأموال!

وغالبا ما نسمع أن التسويق الزراعي هو المشكلة الأكبر.  الحقيقة أن هذا ليس صحيحا، لأن الفائض الناتج (الانتاج/الاستهلاك) هو في بضعة محاصيل قليلة، بينما نعاني من نقص فادح في معظم احتياجاتنا الزراعية التي تشكل العمود الفقري لأمننا الغذائي؛ فنستوردها من الاحتلال الإسرائيلي أو الخارج.  ألسنا نستورد معظم المحاصيل الاستراتيجية مثل الحبوب والقمح والأعلاف وغيرها؟  فالمشكلة إذن تكمن في ماذا وكيف نزرع.  فهل نزرع المحاصيل الأساسية والاستراتيجية بكميات محدودة؛ في وقت نزرع فيه بشكل غير مدروس بعض المحاصيل الأخرى بكميات ضخمة لا لزوم لها، وتصديرها غير مضمون أساسا؛ لأننا لا نتحكم أصلا بالمعابر والحدود وعمليات التصدير ذاتها.

كما أن الحيازات الزراعية الصغيرة أو ما يعرف بتفتت الملكية ليس بالمشكلة؛ إذ أنه في الزراعة المقاومة والمعتمدة على الذات، يفضل أصلا العودة إلى الحيازات الصغيرة.  فمشكلتنا، إذن، تكمن في افتقارنا إلى سياسة إنتاجية وطنية تعتمد على مدخلات انتاج محلية، وتشجع الناس على العمل الزراعي وتنويع الانتاج الذي يلبي الاحتياجات المحلية بالدرجة الأولى.  وعندئذ، سنتحرر من عقلية البحث عن الخلاص من الخارج.

السوق الفلسطيني المحاصر والمخنوق، لا ينطبق عليه ما يُسمى بقوانين السوق المتعارف عليها عالميا في الظروف الاقتصادية الطبيعية.  كما لا يوجد عمليا في الضفة والقطاع (ولا يمكن أن يكون في المستقبل)  "سوق حرة" ما دام الاحتلال يسيطر على الاقتصاد والموارد الفلسطينية. ولعل ما يُسمى بالسوق الحرة في الضفة والقطاع ليس سوى وهم تروّج له المؤسسات المالية والاقتصادية الرأسمالية الدولية، علما بأن هذه السوق تفتقر إلى الشروط الأساسية والبديهية لوجودها وأهمها السيادة والاستقلال وحرية حركة القوى البشرية والمنتجات ورؤوس الأموال.

تصميم وتطوير