دين غزة العظيم

24.07.2014 04:32 PM

وطن - بقلم: حذيفة جلامنه: ولد وترعرع في بيت لاهيا، حيث صفاء البحر ونقاوته، وشجر الجمييز الضخم، والأرض الطيبة المقدسة التي تنتج التوت الأرضي، والزهور، والخضروات، والحمضيات، وحيث عبق العراقة في الآثار القديمة التي تعود إلى العصور الرومانية، والفارسية، والإسلامية.

سمع قصصا كثيرة عن بيت لاهيا وخيراتها، ومعالمها، وتجول هناك في حي السلاطين، وحي العطاطرة، ولم يترك حيي السلام والفردوس، وطالما مكث في وسطها في حي أصلان، قبل أن أن يكون شاهدا على عربدة الجرافات الإسرائيلية وهي تحاول طمس معالم المكان، ومنع زهر الحمضيات من التفتح ونشر رائحته في المكان، وصمّ أذنية صوت مئات القذائف وهي تغير معالم أحيائه التي ركض فيها، واسمتع بإستكشافها، ونقش في جنباتها ذكرياته، لكن موج البحر كان ينتشله في كل مرة، فيمنحه الطمأنينة، والسكون. ويربت على أحلامه الصغيرة التي لم تكبر بفعل الحصار، وضيق الحال.
إنه محمد داوود حمودة، إبن الثلاثة والعشرين ربيعا، والتي أعلنت الطواقم الطبية في مستشفى الشهيد كمال عدوان أمس استشهاده شمال قطاع غزة إثر قصف إسرائيلي جبان، وحاقد استهدف أحد أحياء بلدة بيت لاهيا.

قضى محمد – غدرا - دون أن يحقق أحلامه الصغيرة، قضى بذاكرة عايشت الحصار، والقمع، والهمجية المنظمة، ولأن وعيه تفتح على كل ما هو سيء من الإحتلال، ولأن حجم الهجمة المسعورة كان واضحا في وعي محمد، تولد لديه إحساس وخشية من أن الكل مستهدف، وأن الجميع شهداء مع وقف التنفيذ، فما الذي كان يسيطر ويستحوذ على تفكير محمد في ظل جحيم القذائف، ورائحة الموت، وعتمة المكان؟

لقد وجدت الطواقم الطبية في جيب الشهيد ورقة كتب عليها أنه مدين لشخصين لكل واحد منها بـ (10 شواقل) فأراد أن يريح ضميره اليقظ بإيفاء الحق، فكيف له أن يموت وهو مدين لأحد، لذا كتب الورقة ووضعها في جيبه بعناية. وكأنه كان يرى شبح الموت القادم، تعرف عليه رغم إنقطاع الكهرباء في غزة. فخط كلماته على عجل قبل أن تباغته قذيفة عبأت ببارود الحقد.

هذا وقع الحصار والبطالة التي تعانيهما غزة منذ سنوات، فهل المطالبة برفع الحصار أمر جلل ؟ سددت دينك من دمك الزكي، فأرتاحت روحك الطاهرة. وقدمت يا عزيز النفس، وعظيم الشأن آية في الوفاء والصدق، وصون الأمانة .
الآن يا محمد غرقت الملايين  في دين كبير، دين دمك، ودم مئات الأطفال، والنساء، والشيوخ، دين أحلام من أنهكهم الحصار في غزة فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، دين من أفنوا زهرة شبابهم قبل أن يكملوا بناء بيت متواضع أصبح ركاما في غمضة عين، فضمهم وأحبتهم تحت ركامه.

وآه يا محمد من الخجل، هذه الكلمة ذات الوقع العميق، إستدنت ( 20 شيكلا ) من المؤكد أنها ليست للنزهة، ونحن في رمضان نرمي في النفايات طعاما قيمته أضعاف هذا المبلغ، كثيرون يا محمد يصرفون أضعاف هذا المبلغ على أمور تافهه، أعلم أن  هناك الكثير الكثير يا محمد علينا أن نخجل منه لو كنا من أولي الألباب.
من المؤكد أنك شاهدت دوار بيت لاهيا مزينا بجنزير أحد الدبابات الإسرائيلية التي دمرت في العدوان السابق، ومن المؤكد أنك فرحت بإندحار عصابة الإحتلال، ستفرح روحك هذه المرة أيضا، أعدك بذلك لأن في غزة عظماء مثلك، ولكن ما لا أستطيع أن أعدك به – وسامحني – أن الملايين ربما لن يستطعوا إيفاء دين غزة، أتعلم لماذا: لأنهم يملكون أضعاف أضعاف ما إستدنت، وفاقدون لإرادة وكرامة غزة، ولا يعرفون شيئا عن الوفاء، والصدق، والأمانة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير